- مقدمة باب استحباب المصافحة
- أكانت المصافحة في أصحاب رسول الله
- قد جاءكم أهل اليمن
- ما من مسلمين يلتقيان
- الرجل منا يلقى أخاه
- اذهب بنا إلى هذا النبي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا باب استحباب المصافحة عند اللقاء، وبشاشة الوجه، وتقبيل يد الرجل الصالح، وتقبيل ولده شفقة، ومعانقة القادم من سفر، وكراهية الانحناء.
"باب: استحباب المصافحة".
المصافحة معروفة، وهي مأخوذة من صفحة الكف، أن يضع أحدهما كفه في كف صاحبه، فإذا التقيت صفحة كفه بصفحة كف صاحبه قيل لها: مصافحة، وصافحه.
وجاء ما يدل على بيان فضلها، ولكن ذلك لا يصل إلى حد الوجوب؛ وذلك عند اللقاء، أما إذا كان في حال الانصراف فإن المصافحة لا محل لها عندئذٍ، إنما هو السلام، كما سبق من قول النبي ﷺ في الحث على السلام: إذا أتى أحدكم المجلس فليسلم، فإن قام والقوم جلوس فليسلم، فإن الأولى ليست بأحق من الثانية .
أما الصفحة فتكون عند اللقاء، فإذا أراد أن يفارقه فليس ذلك محلاً للمصافحة.
قال: "وبشاشة الوجه" وهي طلاقته، ويكون ذلك بحسن الاستقبال، والتبسم، والتلطف، وما إلى ذلك، وهذا أمر يأتي الحديث عليه في ثنايا هذا الباب -إن شاء الله- لكن هذا المراد به، وتارة يكون ذلك جبلة وخلقة، يعني من الناس من يكون منذ طفولته فيه البشاشة والتبسم من غير تكلف، ومن الناس من يكون على عكس ذلك، في طبيعته دائمًا التقطيب والعبوس، وما إلى ذلك.
ومنهم من يكون بين بين، وهذا هو الغالب في الناس، لكن من كان طبعه العبوس، فينبغي أن يجاهد نفسه، وأن يغير من هذا الطبع، ولو كان يحمل للناس ويكن لهم الخير والمحبة، ويحسن إليهم، لكن طلاقة الوجه عبادة، وهي أمر مطلوب، فيحتاج أحيانًا الإنسان إلى مزيد من المجاهدة؛ ليصل إليها، وأحيانًا لا يحتاج إلى تكلف، بل هي سجية، بل لو طلب من بعض الناس العبوس ربما لا يستطيع، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، كما فاضل الله بين الناس في صورهم، وأشكالهم، وفاضل بينهم في العقول، وفاضل بينهم في الأرزاق، وفاضل بينهم أيضًا في الخلق، وفي الأبدان، وفاضل بينهم أيضًا في الأخلاق، فقد تجد الرجل يحمل أخلاقًا عالية، ولكن في جانب معين مثل طلاقة الوجه قد لا يكون كما ينبغي، وقد يكون عنده من طلاقة الوجه، لكنه عنده أخلاق غير محمودة، لكن يحرص الإنسان دائمًا على أن يكمل نفسه، فهذا من مفردات الأخلاق، فإذا استجمعت في الإنسان، وتكاثرت كان ذلك رفعة عند الناس، ومن ثم يرتفع عند الله -تبارك وتعالى- في الآخرة، ويكون أقرب في المنازل إلى رسول الله ﷺ .
قال: "وتقبيل يد الرجل الصالح" أخذًا من بعض الأحاديث التي ستأتي، وفيه: تقبيل يد النبي ﷺ لكن لا يتخذ ذلك عادة، يعني النبي ﷺ ما كان عادة الصحابة إذا لقيه الواحد منهم قبل يده، لكن لو أن ذلك حصل أحيانًا، فلا بأس، أن يقبل الولد يد والده مثلاً، أو يقبل يد الرجل الصالح، أو يقبل يد العالم، لكن لا يتخذ عادة.
وكذلك فيما يتعلق بتقبيل الرأس، لا يتخذ عادة، لكن إذا فعله الولد مع والده تقديرًا واحترامًا، فهذا طيب وحسن.
يقول: "ومعانقة القادم من سفر، وكراهية الانحناء" المعانقة معروفة، وهي غير التقبيل، التقبيل: يكون بالفم، والمعانقة تكون بأن يضمه إليه، أو نحو ذلك، أو يضع صفحة عنقه إلى صفحة عنقه، أو ما يقرب منه، وإن كان ذلك يختلف بأعراف الناس، فبعض الناس فقط يلصق صدره، أو جانب من صدره على صدر الآخر، فهذه معانقة، ومنهم من يقابل بكل صدره صدر صاحبه، ومنهم من يكون بصفحة العنق، وإن لم يكن له مساس بصدره، أو نحو هذا، هذه كلها ترجع إلى العرف، لكن كل هذا يدور حول هذا المعنى، يقال له: معانقة، وعانقه، وهي غير التقبيل، فالتقبيل يكون للولد، ويكون للزوجة، ويكون ليد الوالد أو الوالدة، أو رأسهما، وما شابه، لكن إذا لقي صاحبه فإنه لا يقبله، ولكن لا بأس إن كان قدم من سفر أن يعانقه، وكراهية الانحناء، والانحناء هو ما يفعله بعض الناس، وهو نوع خضوع تعظيمًا واحترامًا، وهذا حرام، لا يجوز، ومنهم من يركع، وأقبح من ذلك كله السجود، فإن هذا لا يجوز، ولما قدم معاذ اليمن، أو الشام، فرأى النصارى تسجد لبطارقتها وأساقفتها، فروّى في نفسه أن رسول الله ﷺ أحق أن يعظم، فلما قدم قال: يا رسول الله، رأيت النصارى تسجد لبطارقتها وأساقفتها، فروّأت في نفسي أنك أحق أن تعظم، فقال: لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها فالسجود إنما يكون لله، وسجود الملائكة لآدم هو من قبيل الاحترام، وهذا بأمر الله بقوله: اسْجُدُوا لِآدَمَ [البقرة: 34] وسجود إخوة يوسف له كان ذلك جائزًا في شرعهم للتقدير والاحترام، أما في هذه الشريعة فلا يجوز إلا لله وهكذا الانحناء والركوع ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا [النساء: 154] يعني: في حال الركوع والانحناء، فهذا لا يصح، وينبغي لمن فعل له أحد ذلك أن ينهاه، وأن يعلمه.
يقول المصنف:
قتادة هو قتادة بن دعامة السدوسي، من علماء التابعين "قلت لأنس: أكانت المصافحة في أصحاب رسول الله ﷺ؟ قال: نعم" يعني: أن ذلك كان معهودًا معروفًا شائعًا عندهم.
وكذلك جاء في بعض الروايات: أنهم لما اقتربوا من المدينة، وهم من الأشعريين، وفيهم أبو موسى الأشعري فكانوا يرتجزون، ويقولون:
غدًا نلقى الأحبة | محمدًا وحزبه[4] |
فلما دخلوا على النبي ﷺ قال: "قد جاءكم أهل اليمن وهم أول من جاء بالمصافحة" هذه الجملة جاء في بعض الروايات ما يوضح أو ما يشعر بأنها من كلام أنس وليست من كلام النبي ﷺ كأن المصافحة لم تكن معهودة قبل ذلك، فهم كانوا أول من صافح، فلما دخلوا المدينة تصافحوا، كما جاء في رواية لهذا الحديث، ولكن المصافحة على كل حال أمر مشروع، وجاء فيها أحاديث تبين فضلها.
إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا مع أنه عمل يسير، وجاء في بعض الأحاديث أنها تحات ذنوبهما، كما يتحات ورق الشجر.
وهذا بمعنى ما ذكرنا أولاً في شرح ترجمة هذا الباب.
يعني سألوه عن تسع آيات بينات، وليست الآيات التي أعطاها الله موسى وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ [الإسراء: 101-102] وإنما تسع آيات بينات، فيما يتصل بالقذف والسحر وأمور من هذا القبيل، وهي مذكورة في سياق الحديث، لكن اختصره هنا، قال: "إلى قوله: فقبلا يده ورجله، وقالا نشهد أنك نبي، رواه الترمذي وغيره بأسانيد صحيحة".
وصححه النووي -رحمه الله-[5] لكن الحديث فيه ضعف.
وعلى كل حال تقبيل الرجل صح في حديث وفد عبد القيس، وهو حديث طويل، وفيه فوائد عظيمة، وفي الحديث: أنهم لما دخلوا عليه ﷺ جعلوا يقبلون يديه ورجليه، بأبي هو وأمي ﷺ يقبلون يديه ورجليه، ولم ينكر عليهم النبي ﷺ لكنه لم يكن عادة الصحابة، فلو أنه فعل أحيانًا فلا بأس، يعني: الولد هل يقبل رجل أبيه أو رجل أمه؟ يقال: لا يتخذ عادة، لكنك لو فعلته أحيانًا فلا بأس، لكن ينبغي أن يراعى فيه أمر آخر، وهو أن لا يكون بهيئة السجود، يعني نسمع بعض الأسئلة أحيانًا يذهب الولد يستقبل أباه في المطار، وهذه حالات تحصل، وقد أخبرني بعضهم عن فعله هو، يقول: هل فعلي صحيح؛ لأنه أنكر عليه بعضهم، حيث أنه لما قدم أبوه خرج من الصالة، وأسرع إليه، وانكب على قدميه يقبلها، هنا بهذه الهيئة يكون كأنه ساجد، أمام الناس، هو لا يقصد السجود وإنما يقصد التقبيل، لكن الهيئة في النهاية هيئة سجود، فمثل هذا يقال: لا تفعل، لكن إذا كنت جالس بحضرته فيمكن أن تأخذ رجله، وأن تقبلها، ولا بأس بهذا، وكذلك الوالدة، فهذا من الإحسان والبر، لكنه لا يتخذ عادة، والجفاء مراتب، كما أن البر مراتب، فبعض الناس يستحي أن يقبل رأس أبيه أو أمه؛ لأنه ما تعود، يحرج، ويستكثر هذا، ولو فعله ربما يستغرب ويستكثر عليه أن جاء بشيء جديد لم يعهد منه، فكيف يقبل يده؟ وكيف يقبل رجله؟ ونحن لا ندعو الناس إلى تقبيل الرجل بالنسبة للوالدين، لكن لو فعل أحيانًا فلا بأس، ولا ينكر عليه.
وكذلك بعض الناس ربما يفعل ذلك بطريقة مرذولة، فبعض الذين يعظمون بعض الأشخاص لأنسابهم، يقولون مثلاً: هؤلاء من أهل بيت الرسول ﷺ أو لأنهم شيوخ الطائفة من الصوفية مثلاً، وأنا أتحدث عما أعلم، وعما يحكى لي في تلك المجالس ممن شاهد وتاب، يأتي الرجل من أول المجلس يحبو على أربع، حتى يصل إليه، ثم يقبل رجليه، وإذا أراد أن ينصرف انصرف القهقرى، لا يدير ظهره؛ ولما قيل لأحد هؤلاء -وقد هلك-: ما ترى أن هذا فيه شيء من المبالغة؟ قال: لا هذا من تعظيم العلماء، ومن تعظيم آل بيت رسول الله ﷺ هكذا يصورون هذه القضايا، فمثل هذا لا يليق، أن يأتي الإنسان يحبو على أربع، ثم يقبل رِجل هذا، لا سيما إذا كان صاحب بدع وضلالات وشركيات، فكيف يقبل؟!
والله المستعان.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
- أخرجه البيهقي في شعب الإيمان برقم (8460) والطبراني في المعجم الصغير برقم (371).
- أخرجه أحمد ط الرسالة برقم (19403) وقال محققو المسند: "حديث جيد، وهذا إسناد ضعيف لاضطرابه".
- أخرجه أبو داود في أبواب النوم، باب في المصافحة برقم (5213) وقال الألباني: "صحيح إلا أن قوله: "وهم" أول مدرج فيه من قول أنس".
- دلائل النبوة للبيهقي محققا (5/ 351) والشفا بتعريف حقوق المصطفى - محذوف الأسانيد (2/ 58).
- الأذكار للنووي ت الأرنؤوط (ص: 263).