الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
حديث «اللهم اقسم لنا من خشيتك..» إلى «من قعد مقعدًا..»
تاريخ النشر: ١٨ / جمادى الأولى / ١٤٣١
التحميل: 1206
مرات الإستماع: 3275

اللهم اقسم لنا من خشيتك

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب آداب المجلس والجليس، أورد المصنف -رحمه الله:

حديث عبد الله بن عمر -رضى الله عنهما- قال: قلّما كان رسول الله ﷺ يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الدعوات: اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم متعنا بأسماعنا، وأبصارنا، وقوتنا، ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا[1]رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.

قوله: قلما كان رسول الله ﷺ يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الدعوات، يؤخذ منه: مشروعية الدعاء بهذا في المجالس.

اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، اقسم لنا يعني: أعطنا، وقدر لنا، من خشيتك أي: من خوفك المصحوب بالعلم، فهذه هي الخشية، "ما تحول به بيننا وبين معاصيك" يعني: ما يحجزنا عن المعصية، فإن الخوف من الله -تبارك وتعالى- إذا قل في القلب فإن ذلك يكون سببًا لجرأة العبد على ربه -تبارك وتعالى.

ومن طاعتك يعني: اقسم لنا من طاعتك، ما تبلغنا به جنتك يعني: ما يكون سببًا لذلك، وهذا لا يعارض قول النبي ﷺ: لن يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته[2]، فهذا لا يعارض هذا، وكذا ما جاء في قوله -تعالى- عن دخول أهل الجنة الجنة، وعن نعيمهم، جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأحقاف:14]، فالباء للسببية، فيقال: العمل سبب، ولكنه لا يستقل بمفرده، لابدّ معه من رحمة الله -تبارك وتعالى-؛ لأن الإنسان مهما عمل فإنه لا يستطيع أن يؤدي حق الله -تبارك وتعالى- عليه، ولا في نعمة واحدة، فلابدّ من رحمة الله، ولطفه بالعبد.

قال: ومن اليقين يعني: اقسم لنا من اليقين، واليقين هو: العلم الجازم الراسخ المستقر في القلب الذي لا يقبل التشكيك، نحن نعلم أن هناك جنة، ونارًا، ويومًا آخِرًا، ومع ذلك تجد الإنسان قد يقصر في حق الله ، قد ينام عن الصلاة، ويفرط، قد يأخذ ما لا يحل له من المكاسب، والحساب غدًا فكيف؟ اليقين ضعيف، والله أمر بالصدقة في سبيله، ووعد عليها بالأضعاف المضاعفة، ومع ذلك النفس تضن بما عندها، والسبب: ضعف اليقين.

قال: ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، إذا كان عند الإنسان يقين تام فإنه يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن هذا قد كُتب وقدر قبل أن يُخلَق، فالله قدّر مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ [الحديد:22]، كل هذا مكتوب في اللوح المحفوظ، وإذا أيقن العبد بهذه الحقيقة فإنه لا يجزع، ولا يتبرم، ولا يتسخط من أقدار الله المؤلمة، بل يصبر، ولا يقول: لو أني ما فعلت كذا، لو أنه ما سافر فلان، لو أنه ما حصل كذا، فإن "لو" تفتح عمل الشيطان، هذا أمر لابدّ أن يكون، ولا يموت أحد إلا بأجله.

قال: اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، وذلك لما للأسماع والأبصار والقوة من الأثر البالغ في العبادة، ومزاولات الإنسان، ومصالحه الدنيوية والأخروية.

قال: واجعله الوارث منا بمعنى: أن ذلك يبقى مع الإنسان إلى آخر حياته.

واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادنا، حمل هذا بعض أهل العلم على: المعاداة في الدين.

قال: ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، وهذا أعظم ما يُبتلى به العبد، فالإنسان قد يصاب في ماله، قد يخسر في تجارته، قد يصاب في بدنه، قد يصاب في ولده، قد يصاب في أمور أخرى من هذا الحطام الزائل الفاني، لكن من كانت مصيبته في دينه فهذه هي أعظم بلية ورزية تحصل للعبد، فقد تجد هذا الإنسان في حال من الإقبال على الله، والاستقامة، والصلاح، والمحافظة على الصلوات، ثم يتغير، فصار يترك الصلوات، وصار يشتغل بما يحرم عليه الاشتغال به، وصار لربما يمارس بعض أنواع المحرمات، والمعاصي، بل الكبائر من الفجور، والفواحش، ولربما أدى به ذلك إلى كثير من التضييع في حقوق أهله، ومن يجب عليه القيام عليهم بما أمر الله -تبارك وتعالى، والشكوى متكررة، كثيرة، كم من النساء تشتكي: أن زوجها تغير، وأصيب في دينه، وحصل له انحراف، وانتكاسة بعد استقامة، فهؤلاء أصيبوا في دينهم -نسأل الله العافية، فالواحد يدعو ربه أن لا يجعل مصيبتنا في ديننا، فإذا رأيت ضعفًا وتراجعًا في تمسكك بدينك، واستقامتك على أمر الله -تبارك وتعالى- فاعلم أنك قد أصبت في أمر عظيم، وهو: في الدين، وكل شيء يهون سوى الدين، ومن لم يكن إلى زيادة، فهو حتمًا إلى نقصان، كما قال ابن القيم -رحمه الله.

يقول: ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، "أكبر همنا" بمعنى: أن الإنسان تسيطر الدنيا على قلبه، وتشغل فكره، فمن أجلها يقوم، ومن أجلها يقعد، ومن أجلها يحب، ويبغض، ويجالس، ويصادق، ويعادي، ويقرب، ويبعد من الناس، من أجل الدنيا، هي أكبر هم هذا الإنسان، مستعد أن يبذل كل شيء، يبذل دينه، ويضيع أمانته من أجل الدنيا، مستعد أن يغش، ويدفع الرشوة، ويتلاعب بالفواتير من أجل تحصيل شيء من حطام الدنيا، ومن هذا السحت، وهكذا حينما تكون الدنيا أكبر هم الإنسان فإنه لا يشتغل قلبه إلا بها، فتجده حتى ولو كان يصلي هو يفكر فيها، وفي مكاسبها، وفي حطامها الفاني.

قال: ولا مبلغ علمنا كما هو الحال بالنسبة للكفار، يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الروم:7]، لكن الآخرة لا يعلمون عنها شيئًا، فيكون مبلغ الإنسان هو الحياة الدنيا، طرق المكاسب، وطرق الإنتاج، وطرق التصنيع، وزيادة الدخل، وأشياء كثيرة، فتجده حاذقًا في هذه المطالب الدنيوية، وتتعجب من حذقه، وكيف أنه سخر عقله وفكره لها!.

ويدخل في هذا من يدرس فقط من أجل الدنيا، سبع عشرة سنة حتى يتخرج من الجامعة، كل هذا من أجل أنه يُحصِّل شيئًا من هذه الدنيا، مع أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها، وأجلها، فسخر أيام العمر، أحسن أيام العمر، وسخر أيام الشباب، وسخر فكره، وطاقته، وذكاءه، وعقله، وكل هذا من أجل تحصيل هذا الحطام المضمون، فهذا صارت الدنيا عنده هي مبلغ العلم.

ولا تسلط علينا من لا يرحمنا؛ لأن ذلك يحصل فيه من العنت ما لا يخفى، والله المستعان.

ما من قوم يقومون من مجلس
وذكر حديث أبي هريرة : أن النبي ﷺ قال: ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله -تعالى- فيه، إلا قاموا عن مثل جيفة حمار، وكان لهم حسرة، وهو حديث ثابت صحيح، رواه أبو داود بإسناد صحيح، والحديث الذي قبله أيضًا صحيح.

ما من قوم يقومون، ويدخل فيه النساء، مع أن لفظ القوم لا يشمل النساء في اللغة، لكن هنا يفهم من السياق.

يقومون من مجلس لا يذكرون الله -تعالى- فيه، سواء كان هذا المجلس في المسجد، أو كان في سوق، أو في دكان، أو في مكتب، أو في مدرسة، أو في البيت.

لا يذكرون الله -تعالى- فيه، والذكر يتحقق فيما لو قال: لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

إلا قاموا عن مثل جيفة حمار، وجيفة الحمار يمثل بها على الشيء الذي تنفر منه النفوس، وهذا يدل على أن هذا تقصير في واجب.

وكان لهم حسرة يعني: يوم القيامة، بمعنى: أنه يكون عليهم نقصًا وتِرَةً، كما سيأتي في الحديث الذي بعده، يتحسرون على التضييع، والتفريط.

ما جلس قوم مجلسًا لم يذكروا الله فيه

وذكر أيضًا حديثًا فقال:

وعنه: عن النبي ﷺ قال: ما جلس قوم مجلسًا لم يذكروا الله -تعالى- فيه، ولم يصلوا على نبيهم فيه إلا كان عليهم ترة، فإن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم. رواه الترمذين، وقال حديث حسن

لاحظ هنا أمران: ذكر الله، والصلاة على النبي ﷺ.

إلا كان عليهم تِرَة يعني: نقصًا.

فإن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم، ولا يعذبهم إلا على ترك الواجب، رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.

من قعد مقعدا لم يذكر الله فيه

وذكر حديثًا أيضًا:

عن أبي هريرة: أن النبي ﷺ قال: من قعد مقعدا لم يذكر الله تعالى فيه، كانت عليه من الله تعالى ترة، ومن اضطجع مضجعا لا يذكر الله تعالى فيه، كانت عليه من الله ترة، وفي رواية: ومن مشى في طريق لم يذكر الله -تعالى- فيه، ومن اضطجع مضجعًا لا يذكر الله -تعالى- فيه[3].

ثلاثة أشياء: جلس مجلسًا، مشى في طريق، اضطجع في مكان، لم يذكر الله -تعالى- فيه، كانت عليه من الله تِرَة، أي: نقص، فهو ذكر هنا الاضطجاع، قال: ومن اضطجع مضجعًا لا يذكر الله -تعالى- فيه، كانت عليه من الله تِرَة رواه أبو داود، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه الترمذي، أبواب الدعوات عن رسول الله ﷺ، رقم: (3502)، وقال: هذا حديث حسن غريب، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: (1/ 272)، رقم: (1268).
  2.  أخرجه البخاري، كتاب المرضى، باب تمني المريض الموت، رقم: (5673)، ومسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله تعالى، رقم: (2816).
  3. أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب كراهية أن يقوم الرجل من مجلسه ولا يذكر الله، رقم: (4856)، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها: (1/ 159)، رقم: (78).

مواد ذات صلة