الأحد 20 / جمادى الآخرة / 1446 - 22 / ديسمبر 2024
حديث "أتي رسول الله ﷺ بمخضب من حجارة.." ، "أتانا النبي ﷺ فأخرجنا له ماء.."
تاريخ النشر: ٠٣ / ربيع الآخر / ١٤٣١
التحميل: 1202
مرات الإستماع: 1953

أُتي رسول الله ﷺ بمِخْضب

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب جواز الشرب من جميع الأواني الطاهرة غير الذهب والفضة أورد المصنف -رحمه الله-:

حديث أنس قال: "حضرتِ الصلاةُ فقام من كان قريب الدار إلى أهله، وبقي قوم، فأُتي رسول الله ﷺ بمِخْضب من حجارة، فصغُرَ المِخْضب أن يبسط فيه كفه، فتوضأ القوم كلهم، قالوا: كم كنتم؟ قال: ثمانين وزيادة"[1]متفق عليه.

هذه رواية البخاري، وفي رواية لمسلم -بل للبخاري ولمسلم: أن النبي ﷺ دعا بإناء من ماء فأُتي بقدح رحراح فيه شيء من ماء فوضع أصابعه فيه، قال أنس فجعلت أنظر إلى الماء ينبع من بين أصابعه، فحَزَرتُ من توضأ منه ما بين السبعين إلى الثمانين[2].

قوله : حضرت الصلاة: يعني أن وقتها قد حضر، فقام من كان قريب الدار إلى أهله: يعني ليتهيأ، ليتوضأ، وبقي قوم: يعني مع النبي ﷺ، من كانت داره بعيدة، أو من لا يحتاج للوضوء، بمعنى: كان على طهارة، فأُتي رسول الله ﷺ بمخضب من حجارة: يعني بإناء من حجارة، وهذا الشاهد في هذا الباب، وهو أنه يجوز الوضوء، أو استعمال جميع الآنية الطاهرة، فدلنا هذا الحديث على أن آنية الحجارة لا إشكال فيها، مخضب من حجارة، ينقرون الحجر.

فصغر المخضب أن يبسط فيه كفه يعني: هو مخضب صغير، لا يتسع لبسط كف رسول الله ﷺ فيه، ولهذا توضحه الرواية الأخرى أنه وضع فيه أصابعه ﷺ.

قال: فتوضأ القوم كلهم، هذا المخضب على صغر حجم كفى لهؤلاء جميعاً، قالوا: كم كنتم؟ قال: ثمانين وزيادة، كيف صار هذا المخضب الصغير يسع لهؤلاء جميعًا؟، توضحه الرواية الأخرى أنه دعا ﷺ بإناء من ماء، فأُتي بقدح رحراح.

والقدح الرحراح هو الذي لا يكون عميقاً، يعني: قريب القعر، لكن فيه شيء من السعة.

فيه شيء من ماء: أي قليل، فوضع أصابعه فيه.

قال أنس: فجعلت أنظر إلى الماء ينبع من بين أصابعه، هذا الماء الذي صار يسع هؤلاء جميعاً، ما يقرب من ثمانين رجلاً يتوضئون فيه.

هذه آية، ودليل من دلائل النبوة، وهذه الآية أظهرها الله -تبارك وتعالى- على يد نبيه ﷺ، وهي من الآيات المشهورة الصحيحة، الحديث مخرج في الصحيحين، هذه الآية ظهرت بين أصحابه، ومن غير طلب، ولم يكن ذلك على سبيل التحدي، ولم يكن ذلك في مقام إثبات النبوة للمكذبين المعاندين، فدل ذلك على أن آيات الأنبياء ما كان منها من قبيل خوارق العادات التي يسمونها بالمعجزات، كهذه أنه لا يشترط فيها ذاك القيد الذي يذكرونه عادة، وقد تلقفوه من كتب المتكلمين -أعني الأشاعرة والمعتزلة- من أنها أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي، كلمة مقرون بالتحدي هذه غير صحيحة، فهنا لا يوجد تحدٍّ، وإنما قالوا ذلك بناء على أصل فاسد عندهم في الاعتقاد، وهو أنهم يسوون بين جنس خوارق العادات، سواء ظهرت على يد السحرة، أو ظهرت على يد الأنبياء، والفرق بينهما ظاهر: أن ما يكون من خوارق العادات مما يظهر على أيدي السحرة أن هذا يكون خارقاً لعادة غيرهم، ولا يكون خارقاً لعادتهم هم؛ لأن الساحر يستطيع أن يأتي بمثله.

أما آيات الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- ما كان منها من قبيل خوارق العادات فإنه يخرق عادة جميع البشر، ما أحد يستطيع أن يأتي بمثله، لو جاء الأولون والآخرون ما أحد يستطيع، أما الساحر فيمكن لساحر مثله أو أكبر منه أن يأتي بمثله وأعظم، هذا الفرق الحقيقي.

ثم إن دلائل النبوة ليست مقتصرة على الخوارق، وإنما حقيقة ما يدعو إليه، وما يتصف به من الصدق، والأمانة، وكل الأسئلة التي سألها هرقل لأبي سفيان ومن معه لم يسأله عن خارق واحد، كلها أسئلة عن نسبه، وعما يأمرهم به، وعن هذا الأمر الذي جاء به هل ادعاه أحد قبله إلى آخره، فعرف أنه نبي، وأنه سيملك ما تحت قدميه[3]، ما قال: أريد أمرًا خارقًا للعادة.

فالأنبياء يُعرفون، وبمجرد ما يرى وجه النبي ﷺ يقول: علمت أن وجهه ليس بوجه كذاب[4].

فحال الإنسان يدل على ذلك.

يقول: فجعلت أنظر إلى الماء ينبع من بين أصابعه، فحَزَرتُ من توضأ منه ما بين السبعين إلى الثمانين، هذا بالحَزْر بين السبعين إلى الثمانين، وما ذكره في الرواية التي قبله أنهم ثمانون يكون بالعد.

أخرجنا له ماء من تَوْر
وذكر: حديث عبد الله بن زيد قال: "أتى رسول الله ﷺ فأخرجنا له ماء من تَوْر من صُفر، فتوضأ"[1]رواه البخاري.

والصُّفْر معروف هو النحاس، والتَّوْر إناء، جيء له بهذا القدح، أو ما يشبه القدح من الصفر، فدل ذلك على أن آنية الصفر ما كان مصنوعًا من النحاس أنه يجوز للإنسان أن يشرب فيه، وأن يتوضأ منه، ولا إشكال.

والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

 
  1. أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب الغسل والوضوء في المخضب والقدح والخشب والحجارة (1/ 50)، رقم: (197)،  ومسلم، كتاب الحج، باب زواج زينب بنت جحش، ونزول الحجاب، وإثبات وليمة العرس (2/ 1051)، رقم: (1428).

مواد ذات صلة