الإثنين 23 / جمادى الأولى / 1446 - 25 / نوفمبر 2024
حديث "كان يتنفس في الشراب ثلاثًا.." إلى «أتأذن لي أن أعطي هؤلاء؟»
تاريخ النشر: ٢٦ / ربيع الأوّل / ١٤٣١
مرات الإستماع: 2525

كان يتنفس في الشراب ثلاثاً

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فذكر المصنف باباً آخر وهو باب أدب الشرب، واستحباب التنفس ثلاثاً خارج الإناء، وكراهة التنفس في الإناء، واستحباب إدارة الإناء على الأيمن فالأيمن بعد المبتدئ.

وذكر حديث أنس : "أن رسول الله ﷺ كان يتنفس في الشراب ثلاثاً"[1]متفق عليه.

يعني: يتنفس خارج الإناء، المصنف -رحمه الله- قال في هذا الباب: باب أدب الشرب، واستحباب التنفس ثلاثاً، ذكر ذلك على سبيل الاستحباب، وهذا الحكم -أعني الاستحباب- كأنه أخذه -والله تعالى أعلم- من أنه جاء في روايات أخرى ذِكر ما دون الثلاث، ولربما فُهم أيضاً من بعض الأحاديث -مثل هذا الحديث كان يتنفس في الشراب ثلاثاً- أن النبي ﷺ تنفس فيه مباشرة.

فبعض أهل العلم قال: إن ما ورد من النهي -وسيأتي- هو للكراهة، وإنه ليس للتحريم، وإنه يستحب أن يتنفس ثلاثاً، يعني: خارج الإناء، كما صرح المصنف -رحمه الله- في هذه الترجمة.

والواقع أن حديث أنس  وهو أن النبي ﷺ كان يتنفس في الشراب ثلاثاً، يعني: يتنفس خارج الإناء، لا يتنفس فيه، ولا حاجة لقول من قال: لأن ذلك لخصوصية رسول الله ﷺ أن هذا خاص به، وأن أنفاسه بركة.

وبعضهم قال: فعل ذلك ليبين أن هذا ليس للتحريم، وإنما كان ذلك خارج الإناء.

لا تشربوا واحداً كشرب البعير
وذكر حديث ابن عباس -رضى الله عنهما- قال: قال رسول الله ﷺ: لا تشربوا واحداً كشرب البعير، ولكن اشربوا مثنى وثلاث، وسموا إذا أنتم شربتم، واحمدوا إذا أنتم رفعتم[2].

مثنى وثلاث، فهذا يدل على أنه يشرب بنفسين، ولكن الحديث لا يصح، وفيه تعليل النهي بالتشبه بالبعير، والتشبه بالحيوانات منهي عنه، لكن الحديث لا يصح، ولهذا فإن العلة -والله تعالى أعلم- في النهي عن التنفس في الإناء ثلاثاً: لما يكون في ذلك من التقذير على غيره، وحتى لا تنتقل الأمراض بسبب ذلك.

ومن أهل العلم من قال: إن ذلك أيضاً من أجل ألا يتضرر بشربه بنفس واحد فيشرق، والنبي ﷺ أخبر أنه أهنأ وأمرأ[3]، يشرب ثلاثاً.

ولو أنه احتاج أكثر من ذلك فإنه يشرب وتراً خمسة، أو نحو هذا، وليس الثلاث للتحديد، وإنما المقصود ألا يتنفس في الإناء، هذا هو المراد.

نهى أن يُتنفس في الإناء
وذكر حديث أبي قتادة أن النبي ﷺ نهى أن يُتنفس في الإناء[1]متفق عليه.

يعني: النهي للتحريم، هذا الأصل، والله تعالى أعلم.  

الأيمن فالأيمن

يبقى حديثان يتعلقان بالشق الآخر من الترجمة، وهو باب أدب الشرب واستحباب إدارة الإناء على الأيمن فالأيمن بعد المبتدئ، أورد المصنف -رحمه الله-:

حديث أنس أن رسول الله ﷺ أُتي بلبن قد شيب بماء، وعن يمينه أعرابي، وعن يساره أبو بكر فشرب، ثم أعطى الأعرابي، وقال: الأيمن فالأيمن[1]متفق عليه .

أُتي بلبن، هذا فيه بيان السّنة فيمن يبدأ به في الشراب ونحوه، فإنه يبدأ أولاً بالكبير، العالم، أو الوالد، أو نحو ذلك، ولا يبدأ باليمين مطلقاً، كما يظنه بعض الناس، فيبدأ بالكبير في المجلس، ثم بعد ذلك عن يمينه، يعني: أن المُعطَى الكبير يعطيه مَن على يمينه، وليس من على يمين من أعطاه مثلاً، هذا الذي يسقيهم، ليست العبرة بيمين الساقي، وإنما العبرة بيمين المُعطَى يعني: الشارب، فيبدأ بالكبير، ثم بعده مَن على يمينه.

فالنبي ﷺ هنا أخذه، فلما شرب، فإذا عن يمينه أعرابي، والأعراب هم من سكن البادية، وعن يساره أبو بكر، وهذا مقابل هذا تماماً، أي: أبو بكر أفضل الأمة، وأجل الأمة، وأعلم الأمة بدين الله بعد رسول الله ﷺ، والأعرابي هذا رجل من أهل البادية، جاء من البادية، فهو مظنة للجهل والجفاء، فالنبي ﷺ أعطى لهذا الأعرابي، فدل ذلك على أن الأحق هو الأيمن، ولو كان مفضولاً، ولكن النبي ﷺ بين هنا، قال: الأيمن فالأيمن.

وهذا من كمال تعليمه ﷺ وتأديبه، من أجل أن يعرف الناس أنه إنما أعطاه لا لمنزلته، أو لا لتقصير وجفاء في حق أبي بكر ، وإنما لأن الأحق هو الأيمن مطلقاً، ولو كان مفضولاً. 

وفيه تطييب لقلب غيره، ولو لم يتكلم، فإن أبا بكر إذا سمع هذا عرف أن القضية تتعلق بالأحق شرعاً.

وفي بعض الروايات أن عمر قال: أعطه أبا بكر ، خشي أن يعطيه الأعرابي، فالنبي ﷺ أعطاه الأعرابي، وقال: الأيمن فالأيمن[2].

فكأن ذلك خرج جواباً لقول عمر .

أتأذن لي أن أعطي هؤلاء
وعن سهل بن سعد أن رسول الله ﷺ أُتي بشراب، أن رسول الله ﷺأتي بشراب، فشرب منه وعن يمينه غلام، وعن يساره أشياخ، فقال للغلام: أتأذن لي أن أعطي هؤلاء؟ فقال الغلام: لا والله، لا أوثر بنصيبي منك أحدا. فتله رسول الله ﷺ في يده. متفق عليه.

هذه واقعة ثانية، الأول حديث أنس، وهذا حديث سهل بن سعد، ويدل على أنها واقعة ثانية أنه قال: فشرب منه، وعن يمينه غلام، وعن يساره أشياخ، عن يمينه غلام: هذا الغلام جاء مفسراً في بعض الروايات أنه ابن عباس -رضى الله عنهما- أعني عبد الله بن عباس، وكان صغيراً، توفي النبي ﷺ وقد ناهز الحلم، فكان دون البلوغ حينما وقعت هذه الحادثة، كان على يمين النبي ﷺ قال: وعن يساره أشياخ، جاء في بعض الروايات أن عن يساره خالد بن الوليد [1].

وهذه غير الواقعة الأولى، فقال النبي ﷺ للغلام: أتأذن لي أن أعطي هؤلاء؟ فقال الغلام: لا والله.

قوله ﷺ: أتأذن لي دل على أن الحق للغلام، ودل أيضاً على أنه إن تنازل عنه فلا بأس.

ودل أيضاً على ما ذكره بعض أهل العلم -رحمهم الله- منهم المصنف -رحمه الله- أعني النووي: أنه يمكن للإنسان أن يؤثر بقربة من القرب للوالد والعالم، ومن شابه ذلك.

الأصل أن الناس يتسابقون ويتنافسون في الخيرات، فكون النبي ﷺ يعرض على هذا الغلام إذن سيكون فيها إيثار، هي في شرب ليست عبادة؛ لكنه يؤثر بحظه من رسول الله ﷺ من فضلة الشراب، وهذا فيه ما فيه من البركة؛ لأن ذلك يصح أن يتبرك به، فهنا استأذنه النبي ﷺ، فدل على أن الحق ثابت له.

لم يستأذن النبي ﷺ هناك من الأعرابي، وهنا استأذن من الغلام، فما الجواب عن هذا؟ يمكن أن يقال -والله تعالى أعلم- باعتبار أن الأعرابي فيه جفاء، وقد يفهم الأمر على خلاف المقصود، يعني: قد يفهم المسألة على أنها احتقار مثلاً، ازدراء له، تهوين من شأنه، وقد يحمله ذلك على الردة عن الإسلام، ولأن الأعراب ليسوا مظنة للعلم، والفقه في دين الله .

ثم أيضاً من الجهة الأخرى خالد بن الوليد، وهناك من الجهة الأخرى أبو بكر -، فأبو بكر هو أفقه الأمة، وأعلم الأمة، فهو يدرك هذه الأمور، وهو راسخ الإيمان، خالد بن الوليد تأخر إسلامه أسلم قبل الفتح، ولم يحصّل في الفقه والعلم بدين الله ما حصله أبو بكر، ومن تقدم إسلامه، فلربما أراد النبي ﷺ أن يراعي هؤلاء، أمثال خالد بن الوليد، وهؤلاء الأشياخ، ثم إن هذا الغلام ليس كالأعرابي، فهو ابن عم رسول الله ﷺ ابن العباس، فهو من أهله ﷺ هو بمنزلة أولاده والإنسان لربما يكون له من الإدلال، أو الجراءة على أولاده وقرابته -أعني القريبين جدًّا- ما لا يكون لغيرهم، فاستأذن هذا الغلام كما نقول الآن: يمون عليه، بخلاف الأعرابي.

هذا الغلام، ماذا قال؟ بدون سن البلاغ الآن، أولادنا إذا حضر الواحد منهم المجلس -إلا من رحم الله- مثل الميت لا يرد جواباً، ولا يبدي خطابا، انظر هذا الولد والتربية.

أولا: إشعار بالثقة ما في احتقار، وقد أشرت إلى هذا في مناسبة سابقة هذا الغلام حاضر في المجلس له منزلة، وله كرامة، وله احترام، وله أحاسيس، وله مشاعر، وآدمي له حرمة، ما هو كما يظن بعض الناس يعاملونهم كأنهم حشرات، يجرحون مشاعرهم، ويتكلمون عليهم ويرفعون الصوت عليهم، لربما أبعدوهم من المجلس، ويتحطم هذا الصغير، وتهشم نفسه، ويخرج وهو منكسف البال، لا يستطيع أن يقابل الرجال، ولا أن يجلس معهم، فضلاً عن أن يتحدث؛ لأنه قد يُلطم إذا تحدث ويهان ويجرح.

فهذه التربية: أتأذن لي أن أعطي هؤلاء؟ أين جالس؟ جالس بجنب النبي ﷺ وعن يمينه، وهذا يدل على حرص هؤلاء -شباب الصحابة- الصغار على مجالس رسول الله ﷺ.

فهل أولادنا يسارعون ويبادرون إلى مجالس العلماء، والقرب منهم؟ لربما يستحي ويخجل أن يسلم على العالم فقط مجرد السلام، يقول: لا، أخاف، تخاف من ماذا؟ إذا أجاد قال: أستحي.

فالشاهد أن هذا الغلام هذه التربية تعطيه ثقة، فالنبي ﷺ لما استأذنه، ماذا قال الغلام؟ قال: لا والله، لا أوثر بنصيبي منك أحداً.

يعني: الآن يمكن أن يقول: لا بأقصر عبارة، قال: لا والله، لا أوثر بنصيبي منك، هذا الجواب ما يقوله إلا عقلاء الرجال، وفيهم ما فيهم من الجراءة والثقة بالنفس، ما نزل رأسه وسكت، وإنما قال: لا والله، لا أوثر بنصيبي منك، هو ليس حرصاً على شرب اللبن، وإنما على سؤر رسول الله ﷺ.

يقول: "فتَلّه رسول الله ﷺ في يده". متفق عليه.

"تله في يده" يعني وضعه في يده، حقه، خلاص، ما تنازل، فلا يهضم حقه، ولا يظلم، ما قال له عبارات نسعمها أحياناً، تقال للصغار جارحة.

فليتنا ننتبه في تربية الأولاد، ونعرف على الأقل أن عندهم أحاسيس ومشاعر، وأنهم بشر، وأوادم، ويفهمون، والله أعطاهم سمعًا وأبصارًا، ويدركون ما يدور حولهم.

أما التعامل معهم على أنهم حجارة أو حديد كأنه لا مشاعر لهم، تصدر العبارات صباح مساء في الإهانة والتحقير، فهذا لا يُخرج لنا رجالاً، ربما الواحد منهم يظهر الشيب في مفارقه، وهو في غاية الضعف والخور لا يستطيع أن يقابل الناس ولا يستطيع أن يقوم بمعروف، والله أعلم.  

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه ابن ماجه، كتاب الأشربة، باب إذا شرب أعطى الأيمن فالأيمن (2/ 1133)، رقم: (3426).

مواد ذات صلة