الأربعاء 25 / جمادى الأولى / 1446 - 27 / نوفمبر 2024
حديث "وعظَنَا رسولُ الله ﷺ موعظة.." ، آثار عن السلف في الباب
تاريخ النشر: ٢٦ / محرّم / ١٤٣١
التحميل: 1573
مرات الإستماع: 4556

وعظَنَا رسولُ الله ﷺ

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب "الوعظ والاقتصاد فيه" آخر ما أورد المصنف -رحمه الله-:

حديث العرباض بن سارية قال: "وعظَنَا رسولُ الله ﷺ موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون"[1]، وذكر الحديث. 

وهذا الحديث قد مضى في باب "الأمر بالمحافظة على السنة"، وسبق الكلام عليه، والشاهد فيه هو أن النبي  ﷺ وعظ أصحابه موعظة بليغة حصل منها هذا التأثير، وَجَلُ القلب مع دمع العين، وهذا هو الأبلغ، فإن دمع العين لا يكون من غير وجل القلب وخشوعه كما هو معلوم إلا إن كان ذلك تصنعاً، إما على سبيل المحاكاة، أو على سبيل التباكي، وما إلى ذلك، وقد يكون وجل القلب من غير دمع العين، فإذا زاد ذلك في القلب فإن العين تجاوبه فيحصل الدمع، ونحن عُلِّمنا أن ندعو بأن نستعيذ بالله -تبارك وتعالى- من قلب لا يخشع ومن عين لا تدمع[2]، فالمقصود أن النبي ﷺ كانت مواعظه لأصحابه بليغة تؤثر فيهم غاية التأثير، ولم يكن ﷺ كثير الكلام لأصحابه، وإنما كان كلامه يستطيع أن يعده العاد، هذا فيما يتصل بهذا الباب، ولا حاجة للكلام على بقية الحديث؛ لأن ذلك قد مضى في موضعه.

وفيما يتصل بالآثار المنقولة عن السلف في هذا الباب، فيمكن أن أذكر شيئاً يسيراً من ذلك، جاء عن عطاء بن أبي رباح -رحمه الله- أنه قال: "دخلت أنا وعبيد بن عمير -وهؤلاء من التابعين، على عائشة -رضى الله عنها- فقالت له: خفف، فإن الذكر ثقيل"[3]، يعني إذا وعظتَ، تعنى عطاء بن أبي رباح كان يعظ، وجاء في صفة عطاء أنه كان يطيل الصمت، فإذا تكلم خيل للسامعين أنه مؤيَّد[4]، يعني يُفتح عليه في الوعظ أمور يتعجب السامع كيف يفتح عليه ذلك، فكانت عائشة -رضى الله عنها- تقول له توصيه بهذا: "خفف، فإن الذكر ثقيل"، يعني لا تطل الموعظة على السامعين.

وجاء عن أبي حازم أنه قال: "إني لأعظ، وما أرى موضعاً وما أريد إلا نفسي"[5]، هذا وإن لم يتصل بالباب اتصالاً مباشرة في الاقتصاد في الوعظ، ولكنه يفيد، نحتاج إلى هذا المعنى، وهو أن المتكلم دائماً ينبغي أن يلتفت إلى نفسه، أن يوجه هذا الكلام الذي يقوله للآخرين إلى نفسه، وأن يعظ نفسه بذلك، هو ليس بمنأى عن هذا، ولا منزه، ولا معصوم، وعنده من التقصير ما الله به عليم، فهذا أمر ينبغي العناية به؛ لأن الإنسان أحياناً حينما يتصدر للخطابة، أو الوعظ قد ينسى نفسه، فيوجه الكلام للآخرين بأساليب، وصيغ كأنه بمنأى عن هذا، كأنه قد حقق أسباب النجاة والسلامة، وتنزه من كل عيب ونقص، وبقي على هؤلاء أن يصلحوا حالهم، وهذا الأسلوب غير صحيح، وكان أبو حازم هذا يقصُّ بعد الفجر، وبعد العصر في مسجد المدينة، يقص: يعني يعظ، يذكّر، يقال له: القَصص والقُصّاص.

وقد جاءت آثار في ذم القَصص والقُصّاص، وجاءت آثار في الثناء على ذلك، وجاءت آثار في الإذن به، أو في فعله، ومزاولته، والصحيح أن يجمع الإنسان هذه الآثار جميعاً، وأن ينزل كل لون منها على ما يليق به، بعض الناس يسمع بعض الآثار في ذم القُصاص فيظن أن ذلك على سبيل الإطلاق وهذا غير صحيح، فالآثار التي جاءت في ذم القُصاص والقَصص، القَصص المقصود به لون من الوعظ الذي كان موجوداً في ذلك الزمان، فكان من الناس من يقص ويتكلف في إيراد القصص المختلفة التي لا حقيقة لها من أجل الوعظ، وهذا خطأ، والناس يحتاجون إلى صدق في القصد والنية، وصدق أيضاً فيما يورده الإنسان من أخبار، وكون الإنسان يقصد الموعظة لا يجوز له أن يترخص فيختلق أشياء، أو أن يدعي أن أحداً رأى أو أنه رأى رؤيا أو نحو ذلك في إنسان فيذكر ذلك له موعظة، وهذا يفعله بعض الناس، يريد أن يخوف أحدًا من الناس قد استرسل في معصية الله فيأتي ويقول: قد رأيت فيك رؤى كذا وكذا من أجل أن يخاف، هذا لا يجوز، وهو من الكبائر ويطالَب يوم القيامة بأن يعقد بين شعيرتين -حبات الشعير- تعذيباً له، ومن يستطيع أن يعقد بين حبتين من حبات الشعير؟!، فدل ذلك على أنه من كبائر الذنوب.

فالمقصود: أن الآثار التي جاءت في ذم القُصاص تحمل على هذا اللون الذي لا تثبُّت فيه، وإنما قصص مختلقة ومكذوبة، والأشياء التي جاء فيها الفعل أو الحث فإنها تحمل على ما كان على الجادة، فهذا الذي قيل فيه: نِعم الشيءُ القَصص أو القُصاص، إذا كان من هذا القبيل.

ومن الآثار المنقولة أيضاً عن السلف ما جاء عن الأصمعي قال: "شهدتُ صالحاً المُريِّ عزّى رجلاً، فقال: لئِن كانت مصيبتك بابنك لم تُحدث لك موعظة في نفسك فهي هينة بجنب مصيبتك في نفسك، فإياها فابكِ"[6]، ما معنى هذا الكلام؟

هذا الرجل مات ابنه فهذا يعزيه، يقول له: "لئن كانت مصيبتك بابنك لم تُحدث لك موعظة في نفسك، يعني ما ذكّرتك الآخرة، والدنيا قصيرة، وهذا ولدك وهو جزء منك، وفرع منك، وبضعة منك قد فارق الدنيا فأنت على الدرب كذلك، فهذا حينما يقع للإنسان موت القريب لاسيما من كانت وشيجته بمنزلة الابن، فإن ذلك يحدث فيه موعظة، ويزهد في الدنيا، ويتذكر الآخرة فيقول: إذا كان هذا لا يؤثر فيك فينبغي أن تبكي على مصيبتك في نفسك، أنت ما تبكي على الولد، أنت عندك مصيبة، غفلة عظيمة، قسوة في القلب حيث حصل لك مثل هذا التبلد، حتى هذه المواعظ البليغة موت الأحبة لم يعد يؤثر فيك.

وهنا فائدة: هنا قال له هذا الكلام حينما جاء يعزيه، وكثير من الناس يسألون يقولون: هل يصح أن نستغل أوقات العزاء للمواعظ لاسيما أنه يُطلب منا ذلك؟، وبعضهم يقولون: الناس يجتمعون، النساء يجتمعنْ فلو جئنا بداعية نستغل الوقت بدلاً من الكلام في غيبة، وأمور أخرى، فطالما أنهم جُلوس العصر والمغرب والعشاء فيأتي من يعظ، يقال لهم: لا يُتخذ ذلك عادة وسنة، وإنما لو حصل ذلك في مناسبة أو لأمر لاح، فاحتاج الداعية أن يعظ أو يذكر أو نحو ذلك رأى جزعاً غير عادي فذكّر مثلاً، رأى مخالفات فذكّر فلا إشكال، أمّا أن يتقصد الدعاة إلى الله -تبارك وتعالى- مجامع الناس في العزاء لإلقاء المواعظ فهذا غير مشروع على سبيل المداومة، فتتخذ هذه المجامع مجالاً للدعوة إلى الله -تبارك وتعالى- وتنصب فيها مكبرات الصوت فيما بعد، ويصير الذي ما يأتي بواعظ مقصرًا أو عاقًّا أو نحو ذلك كما يُفعل في بعض البلاد يأتون بقراء كبار، ويجلس يقرأ، ولربما ظنوا أنه إن لم يفعل ذلك أنه قصر، لابدّ من ختمة، ولابدّ من قارئ يُعطَى مقابلا على هذا، فهذا لا يشرع أصلاً كله في العزاء، العزاء يأتي الناس ويعزون، ويسلمون ثم ينصرفون، أمّا أن يتعطل الناس هكذا من أعمالهم، ويجلسون أياماً فهذا لا أصل له، لكن لو لاحت فرصة مثل هذه وهو يسلم عليه قال له هذه الكلمة الموعظة، يمكن أن تسلم عليه وتقول: قال سفيان: "من لم يعد البلاء نعمة فليس بفقيه"[7]، كلمة مؤثرة قصيرة لكنها معبرة، فلا إشكال، أمّا أن يأتي ومحاضرة فلا، والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه أبو داود، كتاب السنة، باب في لزوم السنة، برقم (4607)، والترمذي، أبواب العلم عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع، برقم (2676)، وابن ماجه، أبواب السنة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين، برقم (42)، وصححه الألباني في إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، برقم (2455).
  2. أخرجه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل، برقم (2722).
  3. الطبقات الكبرى (6/ 16)، وسير أعلام النبلاء (4/ 157).
  4. تاريخ الإسلام للإمام الذهبي (3/ 278).
  5. تاريخ دمشق لابن عساكر (22/ 26)، وسير أعلام النبلاء (6/ 97).
  6. سير أعلام النبلاء (8/ 47).
  7. انظر: الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (1/ 94)، وتاريخ دمشق لابن عساكر (10/ 66)، وسير أعلام النبلاء (7/ 266).

مواد ذات صلة