الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
قوله تعالى {وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ..} إلى «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته»
تاريخ النشر: ٠٧ / صفر / ١٤٣١
التحميل: 1460
مرات الإستماع: 2114

تابع مقدمة باب إكرام الضيف

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

فمضى الكلام في باب إكرام الضيف على قوله -تبارك وتعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ [الذاريات:24].

وذكر قوله -تبارك وتعالى: وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ ... [هود:78]، أي: جاءوا إلى لوط -عليه الصلاة والسلام، يسرعون إليه طلبًا للمنكر والفاحشة، قال: وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ [هود:78]، كان ذلك من عادتهم وديدنهم.

قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ [هود:78]، المقصود بقوله: هَؤُلَاءِ بَنَاتِيقيل: أي البنات من صلبه، عرض عليهم أن يتزوجوا بهنّ، والمشهور أن قوله: هَؤُلَاءِ بَنَاتِي أي: بنات القبيلة، وذلك أن النبي بمنزلة الوالد لقومه، ولقوله -تبارك وتعالى: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ [الأحزاب: 6] جاء في قراءة أخرى غير متواترة: {وهو أب لهم، وأزواجه أمهاتهم}، جاء هذا في قراءة ابن عباس، وأبيٍّ -ا.

قال: هَؤُلَاءِ بَنَاتِي يعني: بنات القبيلة، عرض عليهم أن يتزوجوا منهن، وأن يكتفوا بالحلال عن الحرام.

هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي [هود:78]، فقوله هنا: هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ أفعل التفضيل ليس على بابه، وإنما المقصود به مطلق الاتصاف؛ لأنه لا يمكن أن تقارن الفاحشة بوطء الزوجات، فيقال: هذا أطهر من هذا؛ لأن هذا دنس ورجس، لا طهارة فيه، إنما يقال: هذا أفضل من هذا، فيما إذا اشتركا في صفة، وزاد أحدهما على الآخر، اشتركا في الطهارة وزاد أحدهما، أما إذا كان لا يوجد وجه للاشتراك فأفعل التفضيل لا يكون على بابه.

ألم ترَ أنّ السيفَ يَنقصُ قدرُه إذا قيل إنّ السيفَ أمضى من العصا

فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ [هود:78]، هؤلاء الضيوف هم الذين جاءوا إلى إبراهيم ، وسبق الكلام بشيء من التفصيل عن الفوائد والمواضع التي يُستنبط منها كرم إبراهيم .

فهنا لوط  حامَى عن ضيوفه، ودافع عنهم، ونهى قومه عن الإساءة إليهم فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي، وهذا من إكرام الضيف، أن يدفع عنه ما يسوءه من الأقوال والأفعال، فلا يهان، ولا يؤذى في ضيافتك، وإنما تدفع عنه ما استطعت.

من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه
ثم ذكر: حديث أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت[1]متفق عليه.

مضى الكلام على هذا الحديث في باب صلة الرحم.

وقوله ﷺ: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر يذكر هذا كثيرًا في القرآن والسنة، للحث على الامتثال على الفعل، أو الكف، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليفعل كذا، إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [النساء:59]، [النور:2].

وذلك أن الإيمان بالله هو الذي يدفع الإنسان للعمل والامتثال، لاسيما إذا أيقن أنه سيقف بين يديه في يوم يحاسبه على القليل والكثير، والدقيق والجليل، فهذا هو المحرك الذي يحرك الإنسان إلى الامتثال والقبول عن الله -تبارك وتعالى- ولهذا يأتي كثيرًا من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليفعل كذا.

قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، فهنا علقه بالإيمان بالله وباليوم الآخر، وهذا القدر يدل على الوجوب، وأيضًا الأمر بصيغته الصريحة هنا، دخول اللام على الفعل، فليكرم ضيفه والأصل أن الأمر للوجوب، فدل ذلك على أن إكرام الضيف واجب، وليس بشيء يفعله الإنسان تفضلًا من عند نفسه، بل يجب عليه أن يفعله، ولكن ذلك يتفاوت ويختلف بحسب حال الإنسان من يسر وعسر، وبحسب أعراف الناس في زمانهم ومكانهم، إلى غير ذلك، لكن أصل الإكرام مطلوب، وإن كان هذا الإكرام يتفاوت، منه ما هو واجب، ومنه ما هو مستحب، ومنه ما يكون خارجًا عن ذلك، لكن هذا يختلف كما سبق باختلاف الأحوال والأزمنة والأمكنة.

قال: ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه ومضى الكلام على هذا، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت.

من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته
ثم ذكر: حديث أبي شريح خويلد بن عمرو الخزاعي وهو من خزاعة، وهو أحد حملة اللواء في غزوة الفتح، لواء بني كعب، يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته... في هذا الحديث زيادة، قالوا: وما جائزته يا رسول الله؟ قال: يومه وليلته، والضيافة ثلاثة أيام، فما كان وراء ذلك فهو صدقة عليه[2]متفق عليه.   

هذه الجائزة التي هي يوم وليلة، هذا حق للضيف، وقال ﷺ: والضيافة ثلاثة أيام من أهل العلم من قال: إن جائزته التي هي اليوم والليلة داخلة في الثلاثة الأيام، ولكنه في أول يوم وليلة يكون الإكرام أبلغ، وفي اليوم الثاني والثالث فإنه يكون ذلك بما يتيسر من طعامه وشرابه، ونحو ذلك، أما اليوم الأول فيكون فيه مزيد من الإكرام والحفاوة، وبذل الطعام، ونحو ذلك، أما باقي الأيام فإنه بما يتيسر له مما يأكل منه هو وأهله، أو نحو ذلك.

ومن أهل العلم من يقول: إن اليوم والليلة زائدة على الثلاثة الأيام؛ لأنه قال: والضيافة ثلاثة أيام، وما كان وراء ذلك فهو صدقة عليه بعضهم قال: يوم وليلة هذه زائدة، والذي أظنه أقرب -والله أعلم- أنها ثلاثة أيام بما فيها اليوم والليلة هذه، ولكنها أبلغ في الإكرام، وهذا جرت به عادة الناس، أن الضيف حينما ينزل بهم فإنهم يقدمون له من القِرى في أول ذلك ما لا يكون بعده في اليوم الثاني، واليوم الثالث، ويكون في ذلك من تطمين قلبه وتطييب خاطره، وإدخال السرور عليه والإكرام ما لا يخفى.

ثم بعد ذلك لا ينتظر في كل يوم أن يقام له ما يقام في اليوم الأول، كما هو معلوم، لكنه يبقى عندهم يأكل معهم، ويبيت عندهم.

قال: والضيافة ثلاثة أيام، فما كان وراء ذلك فهو صدقة عليه يعني: لا يجب، هذا دليل أيضًا على الوجوب أن الزيادة على الثلاثة صدقة، وأما الثلاثة فهي حق للضيف، حق ثابت له، ولهذا جاء في بعض الأحاديث: ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه، فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قِراه[3]، وهذا أمر والأمر للوجوب، فإن لم يقروه، فأذن له النبي ﷺ أن يأخذ مثل قِراه، يأخذ إن وجد طعامًا أكل منه، ولم يستأذن، إن وجد شاة احتلب، إن وجد مالًا له أن يأخذ منه ما لم يلحقه بذلك تهمة، أن يأخذ مثل قراه، إذا لم يقروه له أن يأخذ؛ لأن ذلك حق ثابت له، كان في مزرعة له أن يأخذ منها ما يصلح لمثله مما يأكل منه ثلاثة أيام وهو بحضرتهم، إذا كان عندهم، أما إذا انتقل بعد ذلك فلا يحمل معه.

قال: فما كان وراء ذلك فهو صدقة عليه متفق عليه.

وفي رواية لمسلم: لا يحل لمسلم أن يقيم عند أخيه حتى يُؤثمه، قالوا: يا رسول الله، وكيف يؤثمه؟ قال: يقيم عنده ولا شيء له يُقريه به[4].

فدل ذلك على أنه لا يقال: إن الإقامة أكثر من ثلاثة أيام لا تحل، لا، وإنما حيث يلحقه الحرج، يقيم عند إنسان فقير حقه في الضيافة ثلاثة أيام، جلس ثلاثة أيام، وثلاثة أيام، وثلاثة أسابيع، والرجل ليس عنده إثم، فكيف يحصل له الإثم؟ إما يحصل ذلك بالتبرم منه، ولربما وقع في عرضه، ولربما استدان، ووقع في أمور من المكاسب غير المرضية، أو نحو ذلك، وكما جاء عن النبي ﷺ: إن الرجل إذا غرم حدث فكذب، ووعد فأخلف[5].

فتركبه الديون بسبب هذا، ويحصل عليه الضرر، فيلحقه الحرج، والإنسان مأمور بأن يرفق بإخوانه، وأن يتلطف، ولا يثقل عليهم، وهذا أحد أسباب كون الإنسان ثقيلًا، فإن الثقلاء إذا تأملت، لماذا كانوا ثقلاء؟ فإن ذلك يرجع إلى أسباب متعددة.

ولعله يأتي يوم للحديث عن الثقلاء، منه ما يكون خلقة، هكذا طُبع، هكذا خُلق، وهذه مشكلة، وأحيانًا يكون مكتسبًا لسبب أو لآخر، ككثرة الطلب والسؤال، لا يكاد يلقاك إلا بدأ يشكو لك الحال، ويطلب، ودائمًا يطلب مساعدة، ويطلب قضاء دين، فيكون ثقيلًا على الناس.

أو أنه كلما يلقاك حدثك بما تكره، ينقل لك: فلان يقول كذا، فلان قال فيك كذا، ويذكر أشياء يكره الإنسان سماعها.

أو نُقَدة، كلما جلس بدأ ينتقد كل ما حوله، ينتقد المصلين، ينتقد الجيران، ينتقد العمل، ينتقد الزملاء، ينتقد المدير، ينتقد المؤسسة، ما يجلس إلا ينتقد، أو يعاتب، كلما جلس يعاتب، أو يكون الإثقال بطريقة السؤال، يجلس أمامك، وبعد كل فرض يكون راصدًا لك سؤالا، خمسة أسئلة في اليوم والليلة، كل يوم، وينظر إليك متى تنتهي، فقط تُحدِّث، أو تقول الأذكار، بعد ذلك يأتي ويسأل.

فهذا مما يثقل على الناس، يستثقلون صاحبه، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: " إن الثقلاء حمّى الروح"، وصدق -رحمه الله.

ومن طرائف الشعبي الإمام المعروف من التابعين، من أوعية العلم، كان يقول: إذا صلى بجانبك أحد الثقلاء يكفيك تسليمة واحدة، وأظنه صدق -رحمه الله.

والله المستعان، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب إكرام الضيف، وخدمته إياه بنفسه (8/ 32)، رقم: (6138)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الحث على إكرام الجار والضيف، ولزوم الصمت إلا عن الخير وكون ذلك كله من الإيمان (1/ 68)، رقم: (47)، واللفظ للبخاري.
  2. أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذِ جاره (8/ 11)، رقم: (6019)، ومسلم، كتاب الحدود، باب الضيافة ونحوها (3/ 1352)، رقم: (48).
  3. أخرجه أبو داود، كتاب السنة، باب في لزوم السنة (4/ 200)، رقم: (4604).
  4. أخرجه مسلم، كتاب الحدود، باب الضيافة ونحوها (3/ 1353)، رقم: (48).
  5. أخرجه البخاري، كتاب في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس، باب من استعاذ من الدين (3/ 117)، رقم: (2397)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب ما يستعاذ منه في الصلاة (1/ 412)، رقم: (589).

مواد ذات صلة