الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
الحديث على آيات الباب
تاريخ النشر: ٠٦ / رجب / ١٤٣٠
التحميل: 1482
مرات الإستماع: 1970

مقدمة باب العفو والإعراض عن الجاهلين

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا باب "العفو والإعراض عن الجاهلين"، وهذا الباب يتفرع من الباب الأصل الذي جاءت بعده هذه الأبواب، وهو باب "حسن الخلق".

العفو هو: زوال أثر الإساءة من النفس، لا يبقى لها أثرٌ، وذلك مأخوذ من قولهم: عفت الريح الأثر، أي: محته، فتقول: هذا عفا عليه الدهر، بمعنى طمس معالمه وأزالها وأبطلها وأذهبها.

والفرق بينه وبين الصفح: الصفح مأخوذ من صفحة العنق، بمعنى أن الإنسان يعرض عن الإساءة، ولا يقف عندها، وأن العفو أبلغ من ذلك، فإن الإنسان قد يعرض عن إساءة المسيء، ولكن يبقى ذلك في نفسه.

فإذا عفا يكون قد انمحى ذلك الأثر من قلبه، وأما الإعراض عن الجاهلين فهو ألا يطاولهم، وألا يقابل جهالتهم وإساءتهم بمثلها، وإنما يترفع عن ذلك، فإن الجاهلين هم الذين لا يقفون عند حدود ما يجب، وما يلزم من الآداب، والأخلاق، والحقوق، والواجبات، وإنما يتجاوزون ذلك، فيفعلون مالا يليق، ويصدر منهم مالا يحسن ولا يجمل، هذا هو الجاهل، وليس المقصود به الذي لا يعلم، فقد يكون هذا الجاهل يعلم الحكم، ولكنه لا يقف عند حدود الله فيظلم هذا، ويسيء إلى هذا، ويقذف هذا، ويشتم هذا، فهذا جاهل، وهذا الذي عناه الله -تبارك وتعالى- بقوله: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [الفرقان:63]، في صفة عباد الرحمن.

فهم يقولون: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ [القصص:55] لا نطلبهم، ولا نقف معهم، ولا نستطيع أن نجاريهم؛ لأنك إن جاريت هؤلاء السفهاء فإنك تكون قد نزلت، وانحطت مرتبتك، فيصدر منك ما لا يحسن، ولا يجمل، ولا يليق من الأقوال والأفعال.

تنزل معه، هو يتكلم بكل شيء، ومستعد أن يفعل كل شيء، فإذا أردت مجاراته فمعنى ذلك أن القضية في انحدار، ثم لا يزال يسفل ويهبط في شتائمه، وكلامه، وسبابه، حتى يصل إلى قعر وحضيض يصعب مجاراته فيه.

فما هو الحل من أجل أن لا يتدنس الإنسان، ولا يتلطخ، ولا يتلوث بهذه الأوحال والمستنقعات إذا مر بها؟

هو الإعراض.

كما جاء عن الشافعي -رحمه الله:

قالوا سكتَّ وقد خوصمتَ قلتُ لهم إنّ الجواب لباب الشر مفتاحُ

إلى أن قال:

أمَا ترى الأُسْد تُخشى وهي صامتةٌ والكلب يَخْسى لعمري وهو نبّاحُ

يعني: أن الكلب لا يبالي به أحد، بينما الأَسَد وهو صامت يُحسب له حسابه، فليست العبرة بطول اليد، ولا بطول اللسان، وإنما يكون ذلك لنقص العقل، فإذا نقص عقل الإنسان طال لسانه، وطالت يده؛ لأنه يتحول إلى مثل البهيم، فالبهيمة لا تعقل، وإنما تعارك، وتناطح بقرونها، وإن كانت من ذوات الأنياب فبأنيابها ومخالبها، والإنسان حينما يهبط، وينحدر، ويضعف عقله، ويضعف دينه تتلاشى أخلاقه، ثم بعد ذلك يطول اللسان، فتطول اليد، فيحصل منه التعدي، والإجرام، والوقيعة في أعراض الناس، والقذف والسباب، والشتائم، فمن اقترب منه لم يسلم، ولهذا قال الله تعالى: وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا [الفرقان:72].

تمر كريمًا؛ لأنك إن طاولته لم تسلم، ولم يحصل لك هذا الوصف: مَرُّوا كِرَامًا لا يمكن، بل سيصيبك شيء من أوضاره، وتتلوث بقدر ما تنجر معه بتلك الأوضار والأوحال والأقذار التي ينبغي أن يترفع عنها المؤمن.

قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}

قال الله -تعالى:خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199]، وسبق الكلام على هذه الآية، وقلنا: إنها من أجمع الآيات، بل أجمع آية في الأخلاق.

وبيّنا المراد بقوله: خُذِ الْعَفْوَ يعني: من أخلاق الناس، بحيث إن الإنسان لا يطالبهم بأكثر مما تسمح به نفوسهم، فلا يستقصي، لا يطالبهم أن يؤدوا له من الحقوق، وأن يتصرفوا معه من التصرفات بأكثر مما يحصل منهم طواعية، وعن طيب نفس؛ لأنك إذا استقصيت معهم فإنهم قد يفعلون ذلك معك تكلفاً، قد يفعله بعضهم وفي وهمه، أو في ظنه أن شر الناس أو من شر الناس من أحسن الناس إليه اتقاء شره.

قد يتصرف معك من هذا المنطلق، يقول: من أجل أن لا يتكلم، لا يغضب، لا يحقد إذا ما أتيناه، وما زرناه، وما أكرمناه، فيأتون كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ [الأنفال:6]، وقد يأتي بعضهم تكلفاً، وإن كان لا يبلغ به إلى ذلك الحد يعني لا يبلغ به الأمر إلى ما سبق، ولكنه يقول: من باب تطييب القلوب، وإزالة أسباب الشر والشحناء، ونحو ذلك، والمؤدَّى واحد.

خُذِ الْعَفْوَ لا تطالب الناس بأكثر مما تسمح به نفوسهم طواعية، وعن رضا ومحبة، وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ، وأمرْ بكل جميل من الأقوال والأفعال.

وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ستصادف من يلاسن، وستصادف من لا يتورع من شيء، فحينما تكون بمثل هذه المثابة من الأخلاق -الأخذ بالعفو والأمر بالعرف- سيصادفك أناس من هؤلاء، فما هو الحل؟ هل يتلون الإنسان ويتقلب ويكون كاملاً في بعض أحواله، وإذا صادف هؤلاء ينزل ويهبط معهم؟.

الجواب: لا، وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ.

قوله تعالى: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ}

وقال: فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ [الحجر:85]، وعرفنا معنى الصفح، صفحة العنق، تُعرض عن الإساءة.

والصفح الجميل هو الذي لا يحصل معه عتاب ولا ملامة؛ لأن من الناس من يصفح، ويقول: أنا صفحت عنك، لكن ما كان ينبغي لك أن تفعل هذا، ما الذي حملك على هذا الفعل؟ لماذا؟ أنا قدمت، وساعدت، وخدمتك، وأحسنت إليك ويعاتب، يقول: أنا مسامحك، أنا صفحت عنك، لا.

الصفح الجميل هو الذي لا عتاب معه، ولا تثريب، اصفح، وستلقى جزاء ذلك، هذه -أيها الأحبة- درجات ومراتب نحن الذين ننتفع حينما نرتقي إليها، حينما نصفح عن الآخرين، حينما لا نعاتب، حينما لا نكثر من الملامة، نحن نفعل ذلك لأنفسنا قبل كل شيء، نرتقي، نصعد، أمَا ترون الرجل حينما تلقاه ويعفو ويصفح، وعُرف عنه هذا، أن هذا يكون في نفوس الناس كبيراً ومحبوباً، وسيداً، وعظيماً؟، بخلاف الذي لا يفوت صغيرة، ولا كبيرة، حاقد على هذا متحامل على هذا، ومشكلة مع هذا، وخصومة مع هذا، وتصفية حسابات كثيرة عنده مع جملة من الناس.

قوله تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ...}

قال: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور: 22]، وعرفنا الفرق بين العفو والصفح، فجمع له بين الأمرين، لا يبقى أثرٌ للإساءة.

وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ [النور:22] في أبي بكر لما قُذف عرضه، وعرض رسول الله ﷺ هل هناك شيء أكثر من هذا؟

ومع ذلك: وَلْيَعْفُوا يعني: ما هي الإساءة التي وصلت إليك أعظم من النبي ﷺ وأبي بكر، وهو باقٍ هذه المدة الطويلة، لا يوحى إليه في كرب؟، ومَن؟ مسطح، الذي أحسن إليه أبو بكر وهو من قرابته، وكان ينفق عليه، ثم بعد ذلك يقذفه في عرضه في ابنته عائشة -رضي الله  عنها، الطاهرة المطهرة، الصديقة بنت الصديق، زوج النبي ﷺ أطهر العالمين، أطهر عرض، ومع ذلك: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ فنحن الذين ننتفع، فدل على أن العفو والصفح عن الناس يكون من أسباب المغفرة، والجزاء من جنس العمل، الذي يغفر للناس حري أن يحصّل مغفرة الله -تبارك وتعالى.

قوله تعالى: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}

وقال: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134]، يعني: من صفتهم العفو عن الناس، وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ فدل ذلك على أن العفو عن الناس من صفات أهل الإحسان.

قوله تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}

وقال: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [الشورى:43] صبر على الإساءة، والتقصير في حقه، وكظم غيظه، كل هذا يحتاج إلى صبر.

وغفر: ستر إساءة المسيء، ولم يعاقبه على ذلك، فإن هذا معنى الستر، معنى الغفْر: الستر مع عدم المؤاخذة، فلا يتكلم فيه ويقول: فلان أساء، ولا يعاقب. 

إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ معناه الأمور التي يعزم عليها، يعني: أنها من العظائم، من المراتب العالية التي حريٌّ بأهل الهمم العالية أن يشمروا لتحصيلها.

 لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ليست من الأمور الدنية، ومن الأمور الدقيقة، أو التافهة، أو التي لا قيمة لها.

قال: والآيات في الباب كثيرة معلومة.

أما بالنسبة للعفو ففرق بين حق الله وبين حقوق العباد، فيما يتعلق بخاصة نفسه النبي ﷺ ما انتقم لنفسه قط، كان هذا من أخلاقه ﷺ، وأما ما يتعلق بأسرى بدر فإن ذلك يتعلق بأمر شرعي ولهذا نزلت فيه الآيات لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ  [الأنفال:68].

فكان عذابهم قريباً، ولكن الله عفا عنهم حينما أخذوا الفداء من هؤلاء الأسرى، فهذه قضية شرعية.

وأما ما يتعلق بالأولاد المراهقين، وتربية الأولاد المراهقين فقد سبق الكلام على حديث أنس أن النبي ﷺ ما عاتبه، وما قال له لشيء فعله: لماذا فعله، ولا لشيء لم يفعله: لماذا لم يفعله؟.

لكن إن صدر منه مالا يليق في حق الله ترك الصلاة، وفعل المعاصي، ونحو ذلك، فإنه يعلم ويؤدب، ويحمل على طاعة الله بأقرب طريق، وأحسن أسلوب.

أما ما يتعلق بالحقوق الشخصية يعني: قصر في حق أبيه أو قصر في الخدمة، أو قصر في حق أمه، أو قصر في الخدمة فأنا أرى لاسيما في مثل هذه الأوقات التي كثر فيها تفلت الشباب، وكثرت فيه الأمور التي تصرفهم عما يحسن ويجمل، ألا ينقر الوالد والوالدة، وألا يستقصوا في طلب حقوقهم من الأولاد، ولكن يفوّت، فإذا رأى في الولد تقاعداً، وتكاسلاً، وتثاقلاً عن القيام بما ينبغي من معاونته ومساعدته في العمل يفوّت، كأن يكون الولد مثلاً يستطيع أن يذهب ويقضي حاجات أهله، ويشتري لهم، فتقاعد وتثاقل وتكاسل، ممكن يذهب الأب، ويسكت، ولا يعاتب.

حينما يأتي الأب بما يحمل من أمتعة، وأغراض، وحاجات وأشياء تحتاج لربما لتردد صعود، ونزول ودخول، وخروج إلى سيارته، قد يتثاقل بعض الأولاد، فيمكن أن تعلمهم أمهم، وأن تحثهم على هذا.

لكن لو فرضنا أنهم قعدوا عن هذا، هل يشتمهم؟ هل يضربهم؟ أنا أقول: لو أنه فوّت فهم يرونه حينما يبذل هذا الجهد هذا سيحرك شيئاً في نفوسهم، فلا يستقصي، لكن ليس معنى ذلك ألا يُعلَّموا، يكون هناك تبادل أدوار بين الأب والأم، هو يعلمهم وينصحهم ويرشدهم فيما يتعلق بحقوق الأم، وما حصل من تقصير بأحسن أسلوب، والأم أيضاً تتحرك حينما ترى التقصير في حق الأب، وهي تمثل دوراً آخر، وهذا أبوكم، يتعب، يذهب من أجلكم، يقوم بأشياء بأعباء، انظروا إليه جاء متعباً، جاء من العمل، جاء من السوق، يحمل أمتعة، يفترض أنكم تقومون بما ينبغي، المفروض أن تستقبلوه عند الباب، بأسلوب جيد، بأسلوب حسن، من غير تبكيت، وتقريع، وشتم، وكلام يجرح.

والله المستعان، والله أعلم .

مواد ذات صلة