الجمعة 20 / جمادى الأولى / 1446 - 22 / نوفمبر 2024
بعض ما جاء عن السلف في باب حسن الخلق (1-2)
تاريخ النشر: ١٣ / جمادى الآخرة / ١٤٣٠
التحميل: 1945
مرات الإستماع: 4086

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فمما ورد عن السلف في باب "حسن الخلق":

ما جاء عن أبي رافع قال: كان مروان بن الحكم ربما استخلف أبا هريرة على المدينة، يعني يكون أميراً، فيركب حماراً ببرذعة، وفي رأسه خُلبة من ليف، -أي حبل دقيق من الليف، وهذا يدل على التواضع، ركوب الحمار وبهذه الصفة، فيَلقى الرجل فيقول: الطريق، قد جاء الأمير، -يعني فيه دعابة، كأنه يمازحهم ويداعبهم، يقول لهم: الطريق، يعني أخلِ الطريق، قد جاء الأمير، يعني نفسه، وربما أتى الصبيانَ وهم يلعبون بالليل لعبة الأعراب -نوع من الألعاب كان الصبيان يلعبونها آنذاك، وقد أُلّف في ألعاب الصبيان قديماً بعض الرسائل قديمة وحديثة، فلا يشعرون حتى يلقي نفسه بينهم، ويضرب برجليه -يعني يخبط برجليه في الأرض، فيفزع الصبيان ويفرون -يعني أنه لا يؤذيهم ولا يشتمهم ولا يضربهم، يقول أبو رافع: وربما دعاني إلى عشائه فيقول: "دع العُراق للأمير"، العُراق يعني العظام التي أكل عامة ما فيها من اللحم، كأنه يمازحه ويداعبه، يقول: "فأنظر فإذا هو ثريدة بزيت"[1]، يعني ليس فيه لحم أصلاً، ليس فيه عظام.

وأما عمرو بن العاص فهو على خلاف ما يتوهمه بعضهم، فقد كان من خيار الناس، يقول قبيصة بن جابر: "قد صحبت عمرو بن العاص فما رأيت رجلاً أبين أو أنصع رأياً ولا أكرم جليساً منه، ولا أشبه سريرة بعلانية منه"[2].

وكان عمرو يقول: "لا أمل ثوبي ما وسعني، ولا أمل زوجتي ما أحسنت عشرتي، ولا أمل دابتي ما حملتني، إن المَلال من سيئ الأخلاق"[3]، بمعنى أن من الناس من لا يصبر على شيء، يصحب هذا مدة من الزمان ثم يدير ظهره، ولا يعرف ما هو السبب، انتهى، بعد العلاقة الجيدة، بعد الصداقة، والنبي ﷺ يقول: حسن العهد من الإيمان[4]، ثم يدير ظهره ولا يلوي على شيء، ويكون ذلك آخر العهد به، وهذا لا يليق، فهو يبدل الأصحاب لا لشيء وإنما للمَلال، يعني من الناس من يبدل لكن لعلة، تبيّن له فيه علة فأراد أن يستبعده بلطف.

فالشاهد أن هذا الملال تارة يكون بالأصحاب، وتارة يكون هذا الملال في الثياب، كل مرة يريد أن يغير، وتارة يكون ذلك في الأثاث، فالمرأة التي تريد دائماً أن تشتري أثاثاً جديداً تغير به أثاث المنزل فترهق زوجها بذلك، وهكذا الرجل الذي يمل النساء، كل مرة يتزوج، مزواج مطلاق، يبقى مع هذه شهرًا، ومع هذه تسعة أيام، ومع هذه، ويفتخر في المجالس أنه تزوج تسع عشرة امرأة، أو تزوج خمساً وعشرين، أو تزوج أكثر من هذا، فهي كالنعال -أعزكم الله، يلبس هذه ويخلع هذه، ويظن أن بنات الناس كلأ مباح.

ومن الناس من يمل في كل شأن من شئونه، كل يوم يشتري سيارة، ثم بعد ذلك يريد أن يشتغل ببيعها، فإذا باعها يبحث عن أخرى، وهذا ديدنه، ومنهم من يمل في دراسته أو طلب العلم، ذواق، يحضر في مجلس العلم مدة من الزمان، وتقول: هذا من أنشط الناس في العلم، ومن أكثر الناس حرصاً، ثم ما يلبث أن ينقطع، ويذهب إلى درس آخر، وثالث، ورابع، وخامس، وهذا لا يفلح غالباً في العلم، وقد يكون هذا الملال في دراسته في الجامعة، فيدرس في هذه الجامعة شهوراً أو سنة ثم يخرج إلى أخرى، إلى ثالثة، فهذه طبيعة كثير من الناس، أو في بعضهم، ينبغي على الإنسان أن يحذر من ذلك.

وكان سالم بن عبد الله بن عمر حسن الخلق، وكان بعض أصحابه يقول: "كان إذا خلا حدثنا حديث الفتيان"[5]، بمعنى أنه يتبسط مع أصحابه في خلوته، لكن أمام الناس يكون في حال من الاتزان.

وكان الحسن يقول: "اصحب الناس بما شئت أن تصحبهم، فإنهم سيصحبونك بمثله"[6]؛ لأن الناس سيتأثرون، إذا كان الناس يعامَلون معاملة جيدة بأخلاق كريمة ونحو ذلك سيستحون غالباً، وإذا كان الناس يعامَلون بشيء من الغلظة والفظاظة والجرح وإسماع الناس ما يكرهون أو نحو ذلك فأقل ما سيكون أنهم سيقابلونه بشيء من الانقباض، أقل ما يكون فيه.

وأما ابن سيرين -رحمه الله- فجاء في وصفه جملة من الأوصاف منها: أنه كان يكثر المزاح والضحك[7]، هذا يُحتمل من الكبير الذي عمت فضائله، أما إذا كان الإنسان ليس عنده إلا مزاح وضحك فقط، ليس له فضائل، ليس له مناقب، فإنه يعرف بذلك، ويكون ذلك شيناً في حقه ونقيصة.

وكان لعمر بن عبد العزيز -رحمه الله- سُمَّار يستشيرهم، يعني يجلسون معه بعد العشاء يستشيرهم، فكان العلامة فيما بينهم إذا أحب أن يقوموا يقول في نهاية المجلس: "إذا شئتم"[8] يعني بمعنى أنه يتأدب، لا يقول: قوموا، انتهى المجلس، اخرجوا، انصرفوا، لا، كان يقول لهم: إذا شئتم، فيفهمون أنه بحاجة إلى أن يخلو بنفسه.

وكان معاوية بن قرة من التابعين يقول: "من يدلني على رجل بكّاء بالليل بسام بالنهار؟"[9].

وكان عبد الله بن أبي زكريا سيد أهل المسجد، فقيل: بما سادهم؟ فقال ابن مسهر الذي يروي هذا الخبر قال: "بحسن الخلق"[10].

ومن كلام السفَّاح أعني أبا العباس وهو الرجل الذي وطد للخلافة العباسية، وكان على اسمِه لُقب بالسفاح لكثرة سفكه للدماء وبطشه وغشَمه، كان يقول: "من شدّد نفَّر، ومن لان تألف"[11].

وهذا صحيح، ويفسره الأثر الذي بعده عن أبي حازم المديني يقول: "السيئ الخلق أشقى الناس به نفسه التي بين جنبيه"[12]؛ لأن الإنسان إذا كان سيئ الخلق هو ينقبض قلبه، وينعصر، ويبقى في ألم، وضيق شديد في الصدر، إذا الإنسان ساءت أخلاقه انحبست نفسه، فكان يقول: "أشقى الناس به نفسه التي بين جنبيه، وهي منه في بلاء، ثم زوجته وولده"، يعني أقرب الناس إليه يكونون في معاناة من أخلاقه السيئة وفظاظته، وغلظته، وجفائه، وما يسمعون منه من موحش القول، "حتى إنه ليدخل بيته وإنهم لفي سرور، فيسمعون صوته فينفرون فرقاً منه"، والأمر الذي لا شك فيه أن النفوس والأخلاق وما يصدر من الإنسان يؤثر في المحيط الذي حوله، إذا جاء الإنسان وهو في حال من الحنق أو الغضب أو الضيق أو نحو ذلك تأثر من حوله وظهر ذلك في نفوسهم ووجوههم، وإذا دخل الإنسان مشرق النفس منبسطاً أثر ذلك فيهم، يقول: "فيسمعون صوته فينفرون فرقًا منه، وحتى إن دابته تحيد مما يرميها بالحجارة"، يعني لأنه متعود على رميها، "وإنّ كلبه ليراه فينزوي على الجدار، حتى إن القط ليفر منه"؛ لأنه إذا رآه رماه بحجر، رماه بما معه، وهكذا، فهذه البهائم إذا رأته نفرت، عرفت أنها الآن ستلقى منه صلفاً وعناءً وشدة.

ويقول العباس بن الوليد: "ما رأيت أبي يتعجب من شيء في الدنيا تعجبه من الأوزاعي، كان يقول: سبحانك تفعل ما تشاء، كان الأوزاعي يتيماً فقيراً في حجر أمه تنقله من بلد إلى بلد، وقد جرى حكمك فيه أن بلّغته حيث رأيتُه"[13]، يعني في أعلى المنازل، يقول: "يا بني عجزت الملوك أن تؤدب أنفسها وأولادها أدب الأوزاعي في نفسه، ما سمعت منه كلمة فاضلة إلا احتاج مستمعها إلى إثباتها عنه"، يكتبون دررًا، ولا رأيته ضاحكاً قط حتى يقهقه، بمعنى يضحك لكنه لا يقهقه، "وقد كان إذا أخذ في ذكر المعاد أقول في نفسي: أتُرى في المجلس قلب لم يبك؟"، إذا تكلم أثر، وهو يتيم.

وأما الإمام مالك فقد قال ابن وهب: "ما نقلنا من أدب مالك أكثر مما تعلمنا من علمه"[14]، يعني كانوا يحضرون أيضاً لأخذ السمت والهدي والأدب والخلق من العالم.

ويقول سلم بن جنادة: "جالست وكيعاً سبع سنين فما رأيته بزق، ولا مس حصاة"[15]، يعني كان في غاية الوقار في المجلس، "ولا جلس مجلساً فتحرك، وما رأيته إلا مستقبل القبلة، وما رأيته يحلف بالله؛ لشدة تعظيمه لربه"، بمعنى أن الحلف يكون نادراً، أما الذي دائماً على لسانه والله، والله، والله، فهذا يدل على استخفاف وقلة تعظيم، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. انظر: تاريخ دمشق لابن عساكر (67/ 372)، وسير أعلام النبلاء (2/ 614).
  2. انظر: الإصابة في تمييز الصحابة (4/ 539)، وتاريخ دمشق لابن عساكر (19/183)، وسير أعلام النبلاء (3/ 57).
  3. انظر: تاريخ دمشق لابن عساكر (46/ 183)، وسير أعلام النبلاء (3/ 57).
  4. أخرجه الحاكم في المستدرك، برقم (40)، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين"، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (2056).
  5. انظر: تاريخ دمشق لابن عساكر (20/ 66)، وسير أعلام النبلاء (4/ 466).
  6. سير أعلام النبلاء (4/ 584).
  7. تاريخ دمشق لابن عساكر (53/ 183).
  8. انظر: تاريخ دمشق لابن عساكر (45/ 170)، وسير أعلام النبلاء (5/ 128).
  9. انظر: تهذيب الكمال في أسماء الرجال (28/ 213)، وتاريخ دمشق لابن عساكر (59/ 271)، وسير أعلام النبلاء (5/ 471).
  10. انظر: تاريخ دمشق لابن عساكر (40/ 394).
  11. سير أعلام النبلاء (6/ 78).
  12. المصدر السابق (6/ 99).
  13. انظر: تاريخ دمشق لابن عساكر (35/ 157)، وسير أعلام النبلاء (6/ 543).
  14. انظر: ترتيب المدارك وتقريب المسالك (1/ 127)، وسير أعلام النبلاء (7/ 187).
  15. سير أعلام النبلاء (7/ 567).

مواد ذات صلة