الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
الحديث على آيات الباب
تاريخ النشر: ١٥ / جمادى الأولى / ١٤٣٠
التحميل: 1608
مرات الإستماع: 2014

مقدمة باب تحريم الكبر والإعجاب

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فكما هي عادة المصنف -رحمه الله- في هذا الكتاب من جهة حُسن الترتيب والتبويب، بعد أن ذكر باب "التواضع" أتبعه بباب يتصل بـ"تحريم الكبر والإعجاب"، والكبر هو التعاظم، والترفع، وازدراء الناس، واحتقارهم، وقد فسره النبي ﷺ كما سيأتي في الحديث: ببطَر الحق، وغمْط الناس[1]، وبطَر الحق هو رده، أن الإنسان يرد الحق حينما يُذكر له ذلك على سبيل التسديد، أو يذكر له ذلك على سبيل التعليم، أو يذكر له ذلك على سبيل الأمر حينما يُؤمر بالمعروف ويُنهى عن المنكر أو نحو ذلك، يرد الحق ويأنف ويأبى، ولذلك تجد بعض الناس من فيه شيء من التكبر لربما يعجز المصلحون معه، ما هو السبيل، وما هي الحيلة كي يتوصلوا إلى إصلاح خلل فيه؟ ولربما عانى أهله معاناة كبيرة، ولربما عانى من حوله بسبب انحراف في السلوك أو نحو ذلك، لكن لترفعه لا يقبل من أحد، وكثيراً ما نجد هذا الجواب للأسف الشديد.

السؤال الذي يُطرح عادة لإصلاح انحرافات لدى الزوج، لدى الأب، حينما يشتكي الأولاد و الزوجة أو نحو ذلك يقبل ممن؟، ابحثوا عن أقرب طريق يقبل منه ويقدر كلامه فكان الجواب في كثير من الحالات محبطاً أنه لا يقبل من أحد شيئاً، أنه لا يرى الناس شيئاً، هذا كلام الأبناء أحياناً عن أبيهم، أو كلام الزوجة عن زوجها، هو لا يعتد بأحد، هو يرى أن رأيه أفضل من رأي الآخرين، وأنه أعلم من الآخرين، وأنه أبصر بهم، وأن هؤلاء جميعاً عندهم من العيوب والنقائص ما يكفي لرد كلامهم، هذا هو الكبر الذي قال فيه النبي ﷺ: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر[2].

وغمْط الناس هو احتقارهم، لا يرى الناس شيئاً، يرى الناس كأمثال الذر، ولذلك يجازيهم الله يوم القيامة -أعني المتكبرين- بأنهم يكونون أمثال الذر يطؤهم الناس بأقدامهم في أرض المحشر[3].

قوله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ...}

والله -تبارك وتعالى- يقول: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83]، فالمتكبر يريد العلو في الأرض، ويترفع عن الناس، ولهذا كان أكثر أهل الجنة الضعفاء والفقراء[4]؛ لأن العادة أن هؤلاء أهل تواضع ويقبلون الحق، وهم عامة أتباع الأنبياء؛ ولهذا كان أهل الكبر ممن ردوا دعوة الأنبياء وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف:31]، أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ [الأنبياء:36]، يقولونه على سبيل الازدراء والاحتقار، إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا [الفرقان:42] نعم، ويقولون عن الأتباع: وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا [هود:27]، وقالوا: لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ [الأحقاف:11] فمقياسهم وميزانهم هو عرض هذه الدنيا الزائل، فالمحصِّل من حطامها كثيراً هو الذي يرتفع في أنظار هؤلاء الناس، ويكون له المقام السامي، والمنزلة الرفيعة، ويقيسون الحق والباطل بمثل هذا، وقد كان ذلك سبباً عظيماً من أسباب رد دعوة الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- الكبر، وفرعون يقول: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ [الزخرف:52]، ويقول: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [الزخرف:51]، هذا المقياس عنده في الاستحقاق والارتفاع والرتبة والمنزلة، تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ، إذن العلو في الأرض، بل إرادة العلو في الأرض وإن لم يحصل له العلو -لأن ما كل مريد يحصل له مراده- فإن ذلك قد يحول بينه وبين الجنة، ولهذا قال ﷺ: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، بمعنى أن الجنة لا يصلح فيها هذا الخلق، فيحتاج إلى أن يمحص، ليس معناه أنه يخلد في النار، وإنما يمحص ويذهب في كير النار حتى يذهب ما في نفسه وقلبه من هذا الزهو، والتعاظم، فيدخل الجنة طيباً، نقيًّا، نزيهاً من هذه الآفات.

فالمقصود أن المخلوق زينته وحليته ورفعته في العبودية، والعبودية إنما يصلح لها التواضع، وأما الخالق  -جل وعلا- فإن من شأنه الكبر فهو وصف كمال فيه، كثير من صفات الله -تبارك وتعالى- إذا اتصف المخلوق بها فإن ذلك يكون زَيناً في حقه، مثل الرحمة، العزة، المحبة، الكرم، وما إلى ذلك وهناك أوصاف كالكبر لا تصلح للمخلوق بحال من الأحوال.

قال: لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا [القصص:83]، والفساد ضد الصلاح، تغيير دين الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، إشاعة الفاحشة بل كل معصية لله -تبارك وتعالى- فهي داخلة في هذا المعنى الفساد، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83] العاقبة في الدنيا وفي الآخرة على حد سواء، قد يموت الفرد ولا يدرك العاقبة في الدنيا لكنه يدرك في الآخرة ولابد، ولكن المجموع يدركون العاقبة في الدنيا، فالرسل وأتباع الرسل -عليهم الصلاة والسلام- تكون العاقبة لهم فيكون لهم الظهور والغلبة، والنصر ولو بعد حين، وإن ذهب أفراد وقُبضوا وماتوا قبل أن يروا النصر، ولكن البقية تدرك ذلك.  

قوله تعالى: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا}

قال: وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا [لقمان:18] هذا تأديب من الله -تبارك وتعالى، الخطاب موجه في ظاهره إلى النبي ﷺ ولا شك أنه خطاب متوجه إلى أمته؛ لأنه ﷺ هو القدوة والأسوة، والأمة تخاطب في شخص قدوتها ومقدمها -عليه الصلاة والسلام.

والمرح فسره بعض أهل العلم بالفرح، وفي القراءة الأخرى: وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرِحًا فهل الفرح مذموم بإطلاق؟.

الجواب: لا، وإنما من أهل العلم من يفسر هذا بلازمه فيقول: وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا أي: متبختراً في حال تبختر وزهو وتعاظم، وهذا قد يكون من قبيل التفسير باللازم، ولكن على كل حال يمكن أن نفسره بظاهره إذا تبين المراد، وذلك أن يقال: إن المقصود هنا وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا نهي عن المرح والفرح الذي يحمل صاحبه على العلو والزهو، والإعجاب، والفخر، والخيلاء، هذا مذموم، ولهذا قال أهل الإيمان والعقلاء وأهل العلم ممن شاهدوا قارون حينما خرج على قومه في زينته: لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [القصص:76] وهنا: وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا، فالفرح ليس بمذموم بإطلاق، الله -تبارك وتعالى- يقول: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58]، فالفرح أنواع منه نوع يحبه الله ويؤجر الإنسان عليه كالفرح بنصر الإسلام، وإعزاز الدين، والفرح بما يقرب إلى الله من التوبة، أبشِرْ بخير يوم مر عليك أو طلع عليك منذ ولدتك أمك، يقال لكعب بن مالك ، وهكذا الفرح بحفظ القرآن، وتحصيل المطالب العالية مما يرفع العبد ويقربه في سلم العبودية، وعمر حفظ القرآن فنحر جزوراً فرحاً ودعا الناس، هذا يُفرح به وهذه غنيمة لا شك أنها من حصلت له أنها نعمة تحتاج إلى شكر، وهناك فرح مباح وهو الفرح في الدنيا التي لا تطغيه ولا تلهيه فرح أنه ربح في تجارته، يفرح بأنه قد نجح في الاختبار، يفرح بأنه قد حصّل مطلوباً من مطلوبات الدنيا ونحو ذلك، هذا جائز لا إشكال فيه، وهذه طبيعة النفس البشرية، والإسلام ما جاء ليصادم الفطر.  

والنوع الثالث من الفرح: هو الفرح المحرم، هذا الذي جاءت فيه هذه النصوص وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا والمقصود به الفرح الذي يحمل على الزهو والعجب والتبختر، ولا زال الناس إلى يومنا هذا يعبرون بالفرح عن هذا اللون من السلوك والخلق يقال: فلان فرِحٌ بنفسه، آل فلان فرحون بأنفسهم، ما المقصود بـه؟ يعني عندهم شيء من المال، عندهم شيء من العرض، عندهم شيء من متاع الحياة الدنيا فكان ذلك سبباً لترفعهم على الناس ورؤية النفس والعجب وما شابه ذلك، هذا فرح مذموم لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [القصص:76].      

قوله تعالى: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا...}

قال: وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [لقمان:18]، الآية الأولى في الإسراء وهذه في لقمان، لا تصعر خدك للناس، تصعر يعني تُميل ويقال: هذا البعير مثلاً فيه صَعَر بمعنى أنه فيه شيء في عنقه فتلتف الرقبة كما يحصل للناس بسبب شدٍّ أو نحو ذلك، يحصل لهم اعتلال بسببه فيَميل الوجه، فيقال: صَعَر مصاب بالصَّعَر، وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ ما المقصود به؟    

المقصود به أن الإنسان لا يواجه الناس كبراً إذا تحدث معهم، لا يواجههم لتكبره، لكن لو فعله الإنسان أشاح بوجهه تعزيراً، وتأديباً لأحد لولده أو لغيره يعني ممن أراد أن يؤدبه، فإن التأديب والتعزير تارة يكون بالضرب، وتارة يكون بالهجر، وتارة يكون بالإشاحة، وكلٌّ بحسبه، يعني من الناس من يحتمل هذا، ومنهم من يصلح له هذا، ومنهم من يصلح له هذا، فهذا ليس هو المراد لكن أن يكون ذلك خلقاً للإنسان يكلم الناس هكذا، يترفع، يتكبر عليهم وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا كما سبق: متكبراً إن شئت أن تفسر باللازم، أو فرحاً ذلك الفرح الذي يحمل صاحبه على التعاظم؛ إِنَّ اللَّهَ هذا التعليل، "إنّ" تدل على التعليل، لماذا لا يفعل الإنسان هذا؟ لأن اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ والمختال هو صاحب التبختر والخيلاء والكبر والعجب، الذي رأى نفسه وينظر في عطفيه ويعجب بما له من الأملاك، أو الإمكانات، أو القُدر العقلية، أو العلوم أو غير ذلك فيفرح بها، يرى نفسه أنه قد حصل ثروة، أو أنه قد حصل علماً، أو أنه قد حصل رتباً وظيفية، أو نحو ذلك ويختال ويمشي إذا مشى بطريقة معينة، وكما سبق علي بن الحسين زين العابدين كان إذا مشى لا تفارق يداه جنبيه أو فخذيه، وأما الذي يمشي بزهو وتعاظم فكأنما يمشي والأرض بما رحبت لا تسعه مع أن الله أدبنا فقال: وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا [الإسراء:37]، فيقول: اعرف قدرك، إنك حينما تضرب على رجلك بالأرض فلن تخرق الأرض، لن تنقب الأرض بهذا الضرب، إنما هو ضرب ذرة -نملة- ماذا عسى أن تؤثر في الأرض، وعلى القول الآخر إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ لن تقطع الأرض بمشيتك، ولن تطاول السماء حينما تشمخ بأنفك على الناس وتتكبر عليهم فتطاول السماء وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا، وإذا أراد الإنسان أن يعرف حقيقة هذا المعنى فلينظر إلى الناس حينما ينظر إليهم من مكان مرتفع أو حينما ينظر إليهم من الطائرة أو نحو ذلك يرى الناس أمثال الذر، بل لا يرون أصلاً، وإنما ترى بيوتهم كأنها لعب صغيرة تومض في الليل، المدن أحياناً العواصم حينما يراها الإنسان في ارتفاع شاهق في الطائرة فإنه يراها تمر كبُقع في الأرض في الليل مضيئة، وكم فيها من متعاظم، وكم فيها من مختال، وكم فيها من بطِر أشِر، وهي بهذا المقدار!، وقد عرضنا مرة صورة فضائية للأرض من بعيد حقيقية، وقربناها حتى وصلنا إلى المسجد الذي نحن فيه، ورأيتم كيف أن الأرض قاع صفصف من بعيد لا يظهر فيها شيء لا من العمارات والبنايات الشاهقة، فأين المتبختر؟ وأين المتكبر والمتعاظم والذي يرى نفسه؟ كل هذا لا يظهر، فالإنسان صغير ينبغي أن يعرف قدره فلماذا يتعاظم ويتكبر؟!.  

يقول المصنف -رحمه الله: "ومعنى تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ أي: تميله وتعرض به عن الناس تكبراً عليهم، والمرَح: التبختر"، وكما سبق أن هذا قد يكون من قبيل التفسير باللازم، وقال تعالى: إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [القصص:76]، قارون من قوم موسى، من بني إسرائيل، كان من قوم موسى فبغى عليهم، الله لم يذكر هذا البغي ما الذي حصل بالضبط؛ لأن ذلك لا يعنينا حصل منه بغي، والبغي هو تجاوز الحد والعدوان، بعضهم يقول: كان قيماً على بني إسرائيل من قبل فرعون، وأساء إليهم، وظلمهم، وكان يعمل بشيء من العسف والقهر والإذلال لهم، إضافة إلى نكاية فرعون بهم، وبعضهم يقول: إنه تطاول على موسى ﷺ إلى غير ذلك من الأقاويل، كل ذلك لا حاجة إليه. فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ العصبة بعضهم يقول: من الثلاثة إلى العشرة، وبعضهم يقول: العشرة إلى الأربعين، وبعضهم يقول: خمسة عشر، وبعضهم يقول: واحد وعشرون، وبعضهم يقول: أربعون، فالعصبة هم الجماعة من الناس، لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ المفاتح تنوء بالعصبة، بعضهم يقول: هذا من القلب وهو لون من الألوان البلاغية، لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أي لتنوء العصبة بالمفاتيح، يعني ليست المفاتيح تنوء بالعصبة، قالوا: تنوء العصبة يعني ناء بالشيء أي أثقله وأرهقه لثقله، تنوء بالعصبة أي تنوء العصبة بها تعجز عن حملها، جماعة من الرجال الأقوياء يعجزون عن حمل المفاتيح فقط، مفاتيح هذه الكنوز إذاً فكيف بهذه الكنوز؟ ما قدرها؟ والمفسرون يذكرون مبالغات كثيرة جدًّا في هذا، لكن يكفي لمعرفة ضخامتها أن المفاتح تثقل على العصبة من الرجال، فما شأن إذًا تلك الكنوز؟!.  

قال: إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ لا تفرح الفرح المذموم، إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ذلك الفرح النوع الثالث الذي ذكرته، وقالوا له: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ [القصص:77] يعني: اطلب الآخرة بالدنيا وأنفق وقدم لنفسك واعمل صالحاً، وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [القصص:77] بعضهم يقول: لا تنسَ نصيبك من الدنيا بإصلاح شأنك منها والأخذ منها بقدر ما تحتاج إليه، وبعضهم يقول: ولا تنسَ نصيبك من الدنيا أن تستغله لآخرتك، والعمل لطاعة الله ، وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ [القصص:77] أحسن إلى الناس وأحسن إلى نفسك كما أحسن الله إليك بالمال والعقل والعلم والإدراك، إلى أن قال: فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ [القصص:79] ثم بعد ذلك أعجب به من أعجب، وتمنوا أن يكون لهم مثل مال قارون يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [القصص:79] فعاتبهم أهل العلم والبصر في الأمور والمعرفة بالعواقب وحقائق الأشياء وقالوا لهم: إن ثواب الآخرة خير من هذا الذي أعطيه قارون، الشاهد كانت النتيجة في النهاية أنه الله خسف به وبداره الأرض، ابتلعته الأرض وانتهى كل شيء، وصار خبراً بعد ذلك، عند ذلك أفاق أولئك الذين أعجبوا به، وعرفوا خطأهم، وأنهم لم يعطوا الأمر حقه من الحكم والتصور الصحيح، والله أعلم.  

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

  1. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه، برقم (91).
  2. المصدر السابق.
  3. أخرجه الترمذي، في أبواب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله -ﷺ، برقم (2492)، وأحمد في المسند، برقم (6677)، ولفظهما: يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال يغشاهم الذل من كل مكان، فيساقون إلى سجن في جهنم يسمى بولس تعلوهم نار الأنيار يسقون من عصارة أهل النار طينة الخبال، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (8040).
  4. أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب لا تأذن المرأة في بيت زوجها لأحد إلا بإذنه، برقم (5196)، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء، برقم (2846).

مواد ذات صلة