الجمعة 20 / جمادى الأولى / 1446 - 22 / نوفمبر 2024
حديث «إن الحلال بين وإن الحرام بين..» (1-2)
تاريخ النشر: ١٢ / ربيع الأوّل / ١٤٣٠
التحميل: 1562
مرات الإستماع: 3944

إن الحلال بيّن وإن الحرام بيّن

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب "الورع وترك الشبهات" أورد المصنف -رحمه الله-:

حديث النعمان بن بشير -رضى الله عنهما- قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن الحلال بيّن وإن الحرام بيّن وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب[1]، متفق عليه.

هذا الحديث هو من أجلّ الأحاديث، حتى قال عنه بعض أهل العلم كأبي داود السجستاني -رحمه الله: إنه ربع الإسلام؛ وذلك لما يشتمل عليه هذا الحديث من المعاني الكلية العظيمة التي تتضمن كثيراً من حقائق الدين.

فبيّن النبي ﷺ في هذا الحديث الأقسام الثلاثة، وهو الحرام البيّن الواضح، والحلال البيّن الواضح، وما كان متوسطاً بين بين، وهو ما لم يتضح هل هو من الحرام أو من الحلال، كما سيأتي -إن شاء الله.

فقوله ﷺ: إن الحلال بيّن، وإن الحرام بيّن، يعني: هذا الحلال الواضح، والحرام الواضح، فالحلال البيّن: ما دل الدليل على أنه حلال، كما قال الله مثلاً في النساء: وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ [النساء: 24] إلى آخره.

وهكذا فيما يتعلق بالمطعومات، يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً [البقرة: 168]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:172]، إلى غير ذلك من النصوص.

فهذا يعني ما دل عليه الدليل إما بعينه في المفرد المعين، أو كان ذلك بدلالة الجملة -أعني العموم؛ ولهذا أخذ بعض أهل العلم من هذه الآيات التي أوردتها أن الأصل في المطعومات الحل، وهناك أدلة أخرى كثيرة أُخذ منها أشياء مثل: "الأصل في الطب الإباحة"، "الأصل في الألبسة الإباحة"، "الأصل في المعاملات الحل"، كل ذلك يستثنى منه ما دل الدليل على تحريمه، إما بعينه، وإما بقواعد الشرع الكلية، قواعد الشرع الكلية مثل كون المعاملة فيها غرر أو جهالة، فإن مثل هذا يكون محرماً.

والحرام بيّن وهو ما نهى الله عنه نهياً جازماً، أو تبيّن ضرره وفساده في الأشياء الضارة، كما قال الله وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [الأعراف:157]، ويبقى النظر فيما يدخل تحت هذه الجملة من الخبائث، ما الذي تصدق عليه؟، هل يرجع ذلك إلى ما يستخبثه العرب، حيث إنهم أقوم الناس فطرة، وأعدل الناس نظراً فما استخبثوه في غالبهم وجملتهم يكون من قبيل المحرمات، أو ما دل الشرع على تحريمه؟.

مثال المستخبثات التي لم يدل دليل معين على تحريمها أكل الخنافس -أعزكم الله، أكل الحشرات المتنوعة التي لم يرد فيها دليل معين، ما حكمها؟

بعض أمم الأرض يستمتعون بأكل هذه الأشياء، أمم شرقية، ومن يرِدُ عليهم من السائحين الغربيين يرون أن هذا من طريف المطعومات، فمثل هذه الأشياء هل هي حلال أو حرام؟ هذه الأمور المستخبثة طائفة من أهل العلم يقولون: هي حرام، وإن لم يرد فيها دليل.

لكن هناك أشياء ورد فيها دليل، مثل الحمار الأهلي، وكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، فهذا يدخل فيه كل ذوات المخالب، وكل ذوات الأنياب، مما يكون فيه ذوات المخالب، يعني: أنه يكون ذلك جارحة له يصطاد فيه، وإلا فالديك له مخلب، وكذلك الجمل له ناب، ولكنه ليس من المحرمات، وإنما المقصود الناب الذي يفترس فيه، فهو في فصيلة ذوات الأنياب، فهذه كلها حرام.

الذبائح هل الأصل فيها التحريم حتى يثبت أنه ذكر اسم الله عليها، وأنها ذبحت فعلاً، أو أن الأصل فيها الحل؟

من أهل العلم من قرر قاعدة: ن الأصل في الذبائح المنع؛ لأن الله قال: وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ [الأنعام:121].

والفروج الأصل فيها المنع أيضاً احتياطاً لها؛ لشدة حرمتها، وحفظاً للأنساب، حتى يثبت أن هذا العقد قد صح بالطريقة الشرعية، وما عدا ذلك يكون من الأمور المباحة.

لو أحد سأل ما حكم أكل لحم اللأمة مثلاً -تشبه الجمل، أصغر منه- ما حكمه؟ ما عندنا دليل فيها، يقال: هذه مباحة.

والفيل؟ الفيل له ناب، فيمكن أن يلحق بذوات الأنياب، لكن هل يفترس بنابه؟.

الأشياء البحرية، كلب البحر وما شابه ذلك هل يحرم أو يحل؟، وما كان له ناب في البحر؟، فالأشياء البحرية الأصل أنها حلال، لكن ما كان يعيش في البر والبحر، فينظر إلى الغالب في حاله، فإن كان أغلب حياة هذا الحيوان في البر فله حكم الحيوانات البرية، فينظر ما هو، خنزير البحر مثلاً، فإذا كان أغلب ما يعيش في البر فإنه يلحق بالخنزير، وهكذا، وما عدا ذلك فهو حلال، ولو كان يوافق اسم شيء محرم من الحيوانات البرية مثل كلب البحر.

الحلال بيّن والحرام بيّن، وقد يشتبه هذا على بعض أهل العلم؛ ولهذا قال النبي ﷺ: وبينهما مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، ما قال: لا يعلمهن الناس؛ لأنه لا يوجد شيء من الأحكام الشرعية مما خاطبنا الله به يخفى على جميع الأمة، فإن الله تعبدنا بما نعرف، وهذه الشريعة ليس فيها ألغاز، ولا غموض، ولكن هذا المتشابه يكون من قبيل التشابه النسبي، يخفي على بعض، ويعرفه البعض.

على سبيل المثال: النبي ﷺ يقول: لا سَبَق إلا في خف أو في حافر أو نصل[2].

الفيل له خف، هل يجوز السباق على الفيلة بمقابل مثل الخيول والجمال، باعتبار أن له خفًّا؟، ما حكم السباق عليه؟

فيبقى هذا يختلف فيه أهل العلم؛ لأن هذا من جنس المسائل النادرة، هل النادر يدخل في العام أو لا؟

يعني: هذا لا يخطر على بال المخاطبين آنذاك، ما عندهم أفيال في بيئتهم، فحينما يقول: لا سَبَقيعني: جائزة، تسمى السَّبَق، لا سبَق إلا في خف الجمل من ذوات الخف، والفيل له خف، هل يدخل في هذا العموم، فيجوز السباق على الفيلة بمقابل أو لا؟

يبقى هذا محل لا يعلمهن كثير من الناس، فهذا الذي يخفى على الإنسان، ويلتبس عليه ويتردد، إما لأن الأدلة تقابلت فيه، أو ورد فيه دليل خفي مأخذه، ما هو المقصود بهذا الحديث؟ أو أنه لم يرد فيه دليل أصلاً فتنازعته القواعد الشرعية، فيبقى الإنسان متردداً، فهنا يأتي الاحتياط، الاحتياط لا يشرع دائماً فيما ورد فيه، الحلال البيّن ما يشرع فيه الاحتياط، والحرام البيّن ما في مجال للاحتياط، الشيء الذي ظهرت حلِّيته ويوجد قول شاذ إنه حرام لا يلتفت لهذا القول الشاذ، ويقال: احتياطاً.

الشيء الذي عُرف بالأدلة أنه لا يجب، ويوجد قول شاذ إنه يجب، هنا لا يقال: الاحتياط أن نفعل، فالاحتياط ليس دائماً يُطلب ويعمل به، إنما يكون ذلك في الأشياء التي ورد فيها دليل معارض في الظاهر، أو تنازعتها القواعد الشرعية، أو نحو ذلك، أو دليل خفي مأخذه، فهنا يأتي الاحتياط، وأحياناً ما يأتي الاحتياط؛ لأن كل واحد من القولين لا يمكن أن يرتكب أو يفعل إلا مع تأثيم أو تجريم على القول الآخر.

قراءة الفاتحة خلف الإمام، طائفة من أهل العلم تقول: هي ركن، وإن لم تقرأ فصلاتك باطلة.

القول الآخر: أنه لا يجوز أن تقرأها خلف الإمام؛ لأن قراءة الإمام تكفي، والله يقول: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [لأعراف:204]، فإذا لم تفعل فأنت آثم.

هل يأت الاحتياط أو لا؟، ينظر الإنسان عندئذ، إن كان يستطيع أن يستنبط الأحكام، وما إلى ذلك فإنه يستنبط ويجتهد، ويتقي الله، فإن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر، وإن كان لا يحسن فإنه يسأل أهل العلم .

يسأل من؟ الناس تحيروا، في هذه الفضائيات يجد من يفتيه بالجواز، وفي برنامج المغرب من يفتيه بالتحريم، وبرنامج العشاء من يقول له: هذا من القربات، فماذا يفعل؟ والناس في حيرة يقولون: نأخذ بقول من؟

نقول: الأمر سهل، تأخذ بقول الأعلم والأتقى في نظرك، إن كان كل واحد ذكر أدلة، وتبين لك من خلال الأدلة أن هذا عنده أدلة، وهذا ما عنده أدلة فلا بأس، وإن لم يتبين لك شيء من هذا فإنك تأخذ قول الأعلم والأتقى، أمّا أن يأخذ الإنسان ما يوافق هواه فهذا ما يجوز.

رأيت أحد الشباب في صالة أفراح قبل مدة يسيرة يصور في هذه الكاميرا، وجاء ليصورني، قلت: لا تصور، اتق الله، أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون[3].

فنظر إليّ وقال: الشيخ فلان يقول: يجوز، قلت له: الشيخ ابن باز يقول: لا يجوز، إذا كانت المسألة قول فلان وقول فلان، الشيخ ابن باز يقول: لا يجوز، -رحمه الله.

فذهب ومشى، ثم رأيته بعد ذلك جالساً يدور على الموجودين ويصورهم، يأخذ لكل واحد لقطة كما يقال.

فحسبنا الله ونعم الوكيل، هذا العمل لا تبرأ به الذمة.

والحديث له بقية، يكفي هذا القدر، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب: الحلال بين، والحرام بين، وبينهما مشبهات (3/ 53)، رقم: (2051) ومسلم، كتاب الطلاق، باب أخذ الحلال وترك الشبهات (3/ 1219)، رقم: (1599).
  2. أخرجه أبو داود، كتاب الجهاد، باب في السبق (3/29)، رقم: (2574)، والترمذي، أبواب الجهاد عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في الرهان والسبق (4/ 205)، رقم: (1700).
  3. أخرجه البخاري، كتاب اللباس، باب عذاب المصورين يوم القيامة (7/ 167)، رقم: (5950)، ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة (3/ 1670)، رقم: (2109).

مواد ذات صلة