الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
بعض ما جاء عن السلف في باب استحباب زيارة القبور
تاريخ النشر: ٢٠ / صفر / ١٤٣٠
التحميل: 1555
مرات الإستماع: 3165

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب "استحباب زيارة القبور" مما يتصل بهذا المعنى عن السلف فمن بعدهم ما جاء عن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- أنه كتب إلى عدي بن أرطاة، وهو من التابعين، ولربما خطب وبكى الناسُ، وقد ولاه عمر بن العزيز -رحمه الله- على البصرة، ولكنه بعد ذلك بعد وفاة عمر  دعا إلى نفسه وأظهر أنه القحطاني الذي أخبر عنه النبي ﷺ، وقال: "إنه يسير بالناس سيرة عمر بن الخطاب "، فالشر قديم، والتحول والتقلب والفتنة ليست جديدة، هذا رجل روى عن بعض الصحابة، ومن ولاة عمر بن عبد العزيز.

فكتب له عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- يقول: "إنك غررتني بعمامتك السوداء، ومجالستك القُرّاء، وقد أظهرنا الله على كثير مما تكتمون، أما تمشون بين القبور؟"[1]، وهذا هو الشاهد هنا: أما تمشون بين القبور؟ باعتبار أن من تصدر منه مثل هذه الأكاذيب وهذا الدجل، ويقول: إنه هو القحطاني أو نحو ذلك، يعني هذا ما يعلم أنه سيموت وأن الله سيحاسبه وأن الحياة قصيرة، وأنها لا تستحق هذا كله، فمرجعه إلى الله وسيحاسبه، وهكذا يقال لكل من حصلت له غفلة أو انحراف أو نحو ذلك أما تمشي بين القبور؟، أما ترى؟!.

ويقول محمد بن صالح التَّمار: "كان صفوان بن سليم يأتي البقيع فيمر بي، فاتبعته ذات يوم وقلت: لأنظرن ما يصنع، ففتح رأسه -كأنه رفع عمامته أو نحو ذلك- وجلس إلى قبر منها، فلما يزل يبكي حتى رحمتُه وظننت أنه قبر بعض أهله، ومر بي مرة أخرى فاتبعته فقعد إلى جنب قبر غيره ففعل مثل ذلك، فذكرت ذلك   لمحمد بن المنكدر، وقلت له: إنما ظننت أنه قبر بعض أهله، فقال محمد: كلهم أهله وإخوته، إنما هو رجل يحرك قلبه بذكر الأموات كلما عرضت له قسوة، ثم جعل محمد يمر بي فيأتي البقيع، فسلمت عليه ذات يوم، فقال: أما نفعتك موعظة صفوان؟"[2].

يعني الآن لما حُكيت هذه القضية -هذا الخبر، هذه الواقعة- لمحمد بن المنكدر، وهو من علماء التابعين، فقال لمحمد بن صالح التمّار: "أما نفعتك موعظة صفوان بن سليم؟"، يعني الذي حكيتَ لي ما نفعك، ما تأثرتَ، ما غير شيئًا في حياتك، وحرك قلبك، يقول: "فظننت أنه انتفع مما ألقيتُ إليه منها".

فالإنسان يزور المقابر ليتعظ ويعتبر، يمكن أن يذهب من غير جنازة، يذهب إلى المقبرة ويجلس، ويتأمل وينظر أنه سيكون في أحد الأيام قطعاً من أهل القبور.

وهذا الأوزاعي -رحمه الله- يقول: "جئت إلى بيروت أرابط فيها فلقيت سوداء -يعني جارية سوداء، عند المقابر فقلت لها: يا سوداء أين العمارة؟ -يعني أين البلد، وأين العمران؟- قالت: أنت في العمارة، وإن أردت الخراب فبين يديك"[3].

يعني إن أردت الخراب الذي هو العمران فتوجه من هنا وستصل إلى البلد، ذاك الخراب، يعني أن مآله إلى الخراب، وهذه هي العمارة الحقيقية، مَن عمّر قبره بطاعة الله -، والعمل الصالح ونحو ذلك، هذا محل العمران، وأمّا الدنيا فكل الذي فوق التراب تراب.

وكل نعيم لا محالة زائل إلا نعيم الجنة.

وكان الحسن بن صالح إذا نظر إلى المقبرة صاح، يبكي.

وأما الإمام أحمد بن حنبل فكان إذا دخل مقبرة يخلع نعليه ويمسكهما بيديه، وهذا له تعلق بآداب دخول المقبرة، غير قضية الاعتبار والاتعاظ، ذكرت ذلك للتنبيه على معنى يغفل عنه كثير من طلاب العلم، وهو المشي بين القبور بالنعال، والنبي ﷺ قد نهى عن هذا، وقال للرجل الذي رآه يمشي بين القبور بالنعال قال: يا صاحب السِّبتيتيْن[4]، يعني نعلين كان يلبسهما، فلا يجوز للإنسان أن يمشي بين القبور بالنعال، إذا كان هناك طرق في المقبرة يمكن أن يمشي على هذه الطرق، إذا كان هناك مساحات بين القبور يمكن أن يقف عليها بالنعال، مساحات لكن إذا وصل إلى حد القبور وأراد أن يمشي بين القبور إما ليدفن أو ليسلم أو لأي سبب من الأسباب فإنه ليس له أن يمشي بنعاله، يخلع نعليه ويمشي، وللأسف حتى لا تكاد تجد من ينكر هذا، والمشكلة أن الناس في حالين يصعب الإنكار عليهم، في حال الأفراح، وفي حال الأتراح، في غمرة الفرح قد تنكر وتسبب مشكلة في هذا الفرح، الزواج يأتي واحد ويقول: أنتم يا جماعة هذا ما يجوز وهذه الأغاني لا تجوز تصير مشكلة في الزواج، وكذلك في حال الحزن والمصيبة، أو نحو ذلك تأتي وتقول لهم: هذا لا يجوز، وهذا الذي تفعلونه كذا، هم مشغولون بمصيبتهم، فلا يحتملون من يأتي ويُغيّر عليهم ويُنكر، فهذه أصعب الأحوال في الإنكار، على كل حال يُنكَر على الناس ويُعلَّمون بالتي هي أحسن.

ويقول محمد الأشهلي: "مررت بمقابر فسمعت همهمةً، فإذا يحيى بن أيوب في حفرة من تلك الحفر، وإذا هو يدعو ويبكي، ويقول: يا قرة عين المنقطعين -يعني يدعو الله، ويا قرة عين العاصين، أنت سترت عليهم، ولِم لا تكون قرة عين المطيعين وأنت سننت عليهم بالطاعة، ويُعاود البكاء، يقول محمد الأشهلي: فغلبني البكاء، فتفطن بي -سمع بكاءه- فقال: تعال، لعل الله إنما بعث بك لخير"[5]، يعني لعلك تستفيد وتتعظ.

 ويقول أحمد بن أبي الحواري: "بينا أنا في قبة في المقابر، بلا باب إلا كساء أسبلته، قبة في القبر لربما كانوا يعني لأي سبب من الأسباب يستريحون تحتها أو تحتها ماء أو شيء، وليس لأحد أن يبني قبة في القبر، في المقابر لا على قبر ولا غير ذلك، سدًّا للذريعة، يقول: "فإذا أنا بامرأة تدق علي الحائط، فقلت: من هذا؟

قالت: ضالة فدلني على الطريق، فقلت: رحمك الله أي طريق تسلكين؟ فبكت ثم قالت: على طريق النجاة يا أحمد، قلت: هيهات إن بيننا وبينها عِقاباً -يعني جمع عَقَبة، وتلك العِقاب لا تقطع إلا بالسير الحثيث، وتصحيح المعاملة، وحذف العلائق الشاغلة -يعني حذف الصوارف، فبكت ثم قالت: سبحان من أمسك عليك جوارحك، -يعني: تدرك هذا المعنى كله ومتماسك ما شاء الله، سبحان من أمسك عليك جوارحك فلم تنقطع، وفؤادك فلم يتصدع!، ثم خرت مغشيًّا عليها، يقول: فقلت لبعض النساء: أي شيء حالها؟ فقمن ففتشنها، فإذا وصيتها في جيبها كفنوني في أثوابي هذه، فإن كان لي عند الله خير فهو أسعد لي، وإن كان غير ذلك فبُعداً لنفسي، قلت: ما هي؟ فحركوها فإذا هي ميتة، فقلت: لمن هذه الجارية؟ قالوا: جارية قرشية مصابة -يعني بها مس، وكان قرينها يمنعها من الطعام، وكانت تشكوا إلينا وجعًا في جوفها، فكنا نصفها للأطباء، فتقول: خلوا بيني وبين الطبيب الراهب، -تعني أحمد بن أبي الحواري، أشكوا إليه بعض ما أجد من بلائي؛ لعله أن يكون عنده شفائي"[6]، فهؤلاء الذين يسقطون موتى بسبب موعظة، أو يحصل لهم غشية، أو نحو ذلك هذا وُجِد في بعض المتقدمين، ومن هؤلاء الأجلاء علي بن الفُضيل بن عياض هذا ثابت أنه مات بسبب سماع آية[7].

هذا العمل إن كان الإنسان يتكلفه كما كان بعضهم يفعل ذلك فهم كما قال بعض السلف : "بيننا وبينهم أن يقعدوا على جدار ويُقرأ عليهم القرآن من أوله إلى آخره هل يسقطون أو لا؟، لكن بعضهم يُغلب، فمثل هؤلاء يكون في قلوبهم من الضعف ما يجعلهم يكونون بهذه المثابة، يغشى عليه أو يموت، لا يحتمل، وأكمل الأحوال حال النبي ﷺ فقد كان يخشع، ويتأثر، ويتعظ بسماع القرآن، وما كان يغشى عليه، وما كان يغشى على أحد من أصحابه .

فهذا هو الهدي الكامل، ولكن من غُلب فلا يقال: هذا أكمل خشوعاً ورقة أو نحو ذلك من رسول الله ﷺ وأصحابه، ولكن يقول: هؤلاء يغلبون فيُعذرون، وهذا لاشك يدل على رقة في قلوبهم وخشوع وتأثر بالموعظة، وهذا ابن أبي الحواري الذي هو أحمد يقول: قلت لأبي بكر بن عياش: حدِّثنا، قال: "دعونا من الحديث فقد كبرنا ونسينا، جِيئُونا بذكر المعاد، وبذكر المقابر، لو أني أعرف أهل الحديث لأتيتهم إلى بيوتهم أحدثهم"[8]، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. سير أعلام النبلاء (5/ 53).
  2. المصدر السابق (5/ 367).
  3. المصدر السابق (7/ 121).
  4. أخرجه أبو داود، كتاب الجنائز، باب المشي في النعل بين القبور، برقم (3230)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (7913).
  5. سير أعلام النبلاء (11/ 387).
  6. انظر: حلية الأولياء، لأبي نعيم (10/ 11)، وسير أعلام النبلاء (12/ 91).
  7. سير أعلام النبلاء (8/ 443).
  8. المصدر السابق (12/ 92).

مواد ذات صلة