الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
حديث «بادروا بالأعمال سبعًا..» ، «أكثروا ذكر هاذم اللذات»
تاريخ النشر: ١١ / صفر / ١٤٣٠
التحميل: 1908
مرات الإستماع: 12088

بادروا بالأعمال سبعا

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله:

في باب ذكر الموت وقصر الأمل أورد المصنف -رحمه الله-:

حديث أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: بادروا بالأعمال سبعًا، هل تنتظرون إلا فقراً مُنسيًا، أو غنًى مُطغيًا، أو مرضاً مُفسدًا، أو هَرَماً مُفنِّدًا، أو موتاً مُجهِزًا، أو الدجال، فشر غائب ينتظر، أو الساعة، والساعة أدهى وأمر؟[1].

بادروا بالأعمال سبعاً، يعني: سابقوا وسارعوا قبل أن ينزل بكم واحد من هذه الأمور المذكورة، فقد ذكر النبي ﷺ سبعة أشياء، فبادروا بالأعمال وقت إمكان الفرصة، قبل أن يدهمكم ما لا قبل لكم به، فيحول بينكم وبين العمل، هذا هو المراد.

فيقول النبي ﷺ في ذكر هذه السبع: هل تنتظرون إلا فقراً مُنسيًا، ولذلك الإنسان إذا افتقر فقراً شديداً فإن هذا الفقر يُنسيه، يشتغل قلبه بلقمة العيش أين يجدها، فلا يتمكن من كثير من الأعمال، بل لا يتمكن من كثير من لذاته؛ لأنه مشغول بتوفير شيء يسد جوعته، الإنسان يجوع لربما يُغمى عليه من شدة الجوع.

أبو هريرة كان يسقط في مسجد رسول الله ﷺ ويأتي الرجل ويأخذ بخناقه، ويظن أن به الصرع والجن والمس، ويقول: وما بي إلا الجوع.

والشافعي -رحمه الله- الإمام المعروف يقول: لو كُلِّفت بشراء بصلة لما حفظت مسألة، أو ما حفظت مسألة.

فالإنسان الذي يتطلب لقمة العيش، ومشغول البال كيف يوفرها أنت لا تجد قلبه فيه محل للمعالي والمطالب في كثير من الأحيان؛ لأنه مشغول بما يقيم صلبه، بما يبقيه، بما يقيم عيشه.

أو غنًى مُطغيًا، فإن الغِنى -كما هو معلوم- مظنة للطغيان، كما قال الله كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى ۝ أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6-7]، فهذه طبيعة في الإنسان إلا من عصمه الله وأعانه على نفسه وقليل ما هم، ولذلك تجد في كثير من الحالات أن الغنى يحمل صاحبه على شيء من الفسق والبطر، والتضييع، والتفريط في حقوق الله بل والتعالي على الخلق.

أو مرضاً مُفسدًا، مرض يفسد الأعضاء، يصيبه بالشلل، يقعده على الفراش، فلا يستطيع أن يعتمر، ولا يستطيع أن يحج، ولا يستطيع أن يقوم الليل، ولا يستطيع أن يصوم النهار، لا يستطيع أن يفعل شيئًا، هو ضعيف، حتى صيام رمضان قد لا يتمكن منه، ويمنعه الأطباء من ذلك.

أو هَرَماً مُفنِّدًا، الهَرم المُفنِّد بمعنى: أن الإنسان إذا وصل إلى مرحلة متقدمة في العمر يحصل عنده شيء من الخلل في عقله، وهذا ما يعرفه الأطباء اليوم بتلف في خلايا المخ فيُفنَّد رأيه، بمعنى: أن هذا الإنسان لا يعتد برأيه، ولا بعقله، ولا بتفكيره، ولا بنظره في الأمور، إنسان قد وصل إلى مرحلة الخرف، فهو تارة تقول: هذا عاقل، يعي ما يقول، وتارة يخلط، فرض يصلي، وفرض يقول: صليت وهو لم يصلِّ، أو يصلي ثم يتكلم، ويتلفت، ويحتاج أن يقول له من عنده بالبيت، ودائماً الناس يسألون عن مثل هذا، يقولون: الآن كَبِّر تكبيرة الإحرام، الله أكبر، فيكبر، ثم يبدءون يقولون: سبحانك الله وبحمدك، دعاء الاستفتاح، ثم يقولون: الفاتحة يقرءون عليه، ثم يقرءون له سورة، ثم يقولون: الله أكبر، ركوع، يقولون: نحن نفعل هكذا معه في كل شيء، ولو تركناه ما عرف يصلي.

هذا بعدما كان قويًّا ونشيطاً، ولربما يعلِّم الآخرين، فهذا الهَرم المُفنِّد، بمعنى أنه ذهب رأيه، وذهب عقله، وإذا ذهب عقل الإنسان ارتفع عنه التكليف، انتهى.

لذلك مثل هؤلاء الذين يسألون عن هذا يقال لهم: لا يجب عليكم أن تقولوا له: الآن كَبِّر، الآن اركع، الآن اقرأ الفاتحة، اتركوه، هذا إنسان غير مكلف.

أو موتاً مُجهِزًا، والموت المُجهِز هو الموت السريع، نحن نشاهد الآن كثرة الموت المُجهِز سواء كان بجلطة، أو كان بأسباب أخرى، مثل حوادث السيارات، تجد الناس في غاية القوة، والنشاط، والفتوة، والشباب، وما إلى ذلك، ولربما يكون يشرب، أو يأكل ويتحدث مع من حوله، وبلحظات أقل من الدقيقة تحول كل شيء إلى أشلاء، نسأل الله العافية.

فهذا موت مُجهِز لا يسعه الوقت أنه يقول: أتوب، وأعمل الآن، وأتصدق، وأفعل، وأرجع عما كنت فيه، وكم من واحد جاءه هذا الموت المُجهِز وهو في حال المعصية بالله .

يحدثني أحد الإخوان ولعله معنا في المسجد الآن: غسل رجلاً ممن يعرفهم حصل له حادث، يقول:أخرجنا بكرات الأشرطة من بطنه، مختلط بطنه بالأشياء التي في السيارة وكذا، تقطّم، تمزق، يقول: بكرات الأغاني شريط مكسر، يقول: في بطنه، يقول: أجرُّ شيئًا ويطلع فتبين أنه بكرة.

أو الدجال، فشر غائب ينتظر، والدجال من أراد أن يعرف خبره وخطره فليقرأ في كتاب الفتن في صحيح مسلم الحديث الطويل الذي شوهد فيه الدجال، من حديث تميم الداري ، قال لهم الدجال:خبروني عن نخل بَيْسان، قلنا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال: أسألكم عن نخلها، هل يثمر؟ قلنا له: نعم، قال: أما إنه يوشك أن لا تثمر، قال: أخبروني عن بحيرة الطبرية، قلنا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال: هل فيها ماء؟ قالوا: هي كثيرة الماء، قال: أما إن ماءها يوشك أن يذهب، قال: أخبروني عن عين زُغَر، قالوا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال: هل في العين ماء؟ وهل يزرع أهلها بماء العين؟ قلنا له: نعم، هي كثيرة الماء، وأهلها يزرعون من مائها، قال: أخبروني عن نبي الأميين ما فعل؟ قالوا: قد خرج من مكة ونزل يثرب، قال: أقاتله العرب؟ قلنا: نعم، قال: كيف صنع بهم؟ فأخبرناه أنه قد ظهر على من يليه من العرب وأطاعوه، قال لهم: قد كان ذلك؟ قلنا: نعم، قال: أما إن ذاك خير لهم أن يطيعوه، وإني مخبركم عني، إني أنا المسيح، وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج[2].

فهذا الدجال إذا خرج فتنة عظيمة جدًّا، انظروا الآن حينما تقع حرب في جزء يسير من الأرض كيف ينشغل الناس بها، فكيف إذا خرج الدجال؟!، كم يحصل من الفتنة؟، وإذا أردت أن تقيس مدى قابلية الناس للاستجابة لفتنة الدجال الذي يمر بالخَرِبة فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل، ويمر على الأرض المجدبة، ويدعوهم يقول لهم: إنه هو إلههم، فإن تبعوه أخصبت أرضهم، وأنبتت، وعادت إليهم سارحتهم ممتدة الخواصر ممتلئة الضروع، وإذا كذبوه أمحلتْ أرضهم وهلكت داوبهم.

فمثل هذا الذي يفعل هذه الأشياء لو خرج ما ظنكم؟ ونحن نشاهد كثيرًا من الناس يتلقفون من الفضائيات الدجل، وكيف يصدقونه، وكيف يسألون السحرة، وكيف يسألون المشعوذين، ويصدقون ما يقولون لهم، ويخبرونهم عن أمور غيبية، انظروا إلى تلقف الموضة بأشياء أحياناً هي من الأمور الوثنية، ومع ذلك تروج عند كثير من الناس، فإذا جاء الدجال، فهذه فتنة عظيمة جدًّا، ولهذا قال النبي ﷺ: وإن الله لم يبعث نبيًّا إلا حذر أمته الدجال[3].

قال: أو الساعة، والساعة أدهى وأمر؟، الساعة أشد من هذا كله، والله -تبارك وتعالى- يقول: يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [لحـج:2].

قبل الساعة إذا خرجت الشمس من مغربها فعند ذلك لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا  [الأنعام:158]، والساعة تقوم بلمح البصر، أو أسرع، الرجلان يتعاطيان الثوب فلا يحصل هذا البيع، تقوم الساعة والرجل يصلح حوضه فلا يسقي منه، والرجل يحلب لقحته ولا يشرب، تقوم الساعة وهو في هذه الأثناء.

الإنسان يُبادر إلى الأعمال قبل فوات الأوان قبل أن ينزل به ما يحول بينه وبين العمل، هذا هو المراد، وذكر بعده -أيضا- حديث أبي هريرة أكثروا ذكر هاذم اللذات يعني الموت[4]،رواه الترمذي.

وبعضهم ضبطه بـهادم اللذات، بعضهم يفرق بين الهاذم والهادم، فيقول: هاذم بمعنى قاطع، وهادم هو الذي يقتلعها من أصلها.

في الحديث الآخر قال ﷺ: أكثروا ذكر هادم اللذات، فإنه لا يكون في كثير إلا قلله، ولا في قليل إلا كثره[5].

وقال ﷺ:ما ذُكر في حال سعة إلا ضيقها، ولا في حال ضيق إلا وسعه[6].

فإذا تذكر الإنسان الموت انهدمت لذاته، ولذلك الله لما ذكر الجنة ونعيم الجنة ذكر الخلود فيها؛ لأن ذكر الموت، بل وقوع الموت ينغص عليه لذته، مهما كان الإنسان فيه من اللذة والنعيم والسرور والحبور، إذا ذكر أنه سينقل في يوم من الأيام ويموت، وهذا المكان وهذا القصر المشيد سيدخله الناس للعزاء تنغصت عليه لذاته، فلا يغتر بالدنيا وحطامها وما فيها، ولا يبطر، ولا يترفع على عباد الله ، وإذا كان في لذة فإنها لا تستهويه فينسى ذكر الله ولقاءه والعمل لآخرته، وإنما يأخذ من هذه الدنيا، ومن لذاتها بقدر يبلغه إلى آخرته، ويحتاج هذا إلى إكثار، وهذا الإكثار يشمل الإكثار منه باللسان والإكثار منه أيضاً بالقلب، يعني: الذكر يشمل ذكر اللسان، وذكر القلب.

فيتحدث الناس في مجالسهم عن الموت والأجل وقرب ذلك، من أجل أن يحصل عندهم الاعتبار والتذكر، فلا تحصل غفلة.

كلما جلسوا يتحدثون عن الدنيا، أو لذات الدنيا وشهواتها والبيع والشراء والتجارات والعقارات، وما أشبه ذلك، وينسون الموت، وهو حتم لابد من وقوعه، فلابد لنا من ذكره في المجالس، وأن يذكره الإنسان أيضاً فيما بينه وبين نفسه، فيكون حاضراً في قلبه دائماً، فإذا لاح له طمع ذكر الموت، إذا عافس اللذات ذكر الموت.

ولو تبصر العاقل فإنه يجد كل لذات الدنيا تذكره بالفناء، ما هي أعظم لذات الدنيا؟

العرب يقولون: الأطيبان الأكل والنكاح، تجد الإنسان في غاية الجوع ويستشرف للطعام، فإذا أكل يتلذذ أثناء الأكل، لكن بعد الأكل تنقضي هذه اللذة، ولو أكل ثانية لربما يمرض ويتنغص.

وأما النكاح فإنه بمجرد ما تنقضي شهوته وينقضي وطره يذهب ذلك كله وينقشع، فيذكّره بانتهاء لذات الدنيا وانقضائها، وأنها لا تستحق أن الإنسان يبذل ويعيش من أجلها، ما هو حال الكثيرين؟ إن درس فهو يدرس من أجل الدنيا، وإن عمل فهو يعمل من أجل الدنيا فقط، وإن قام وقعد بل حتى بعضهم وإن عبد ربه فهو يعبد من أجل الدنيا، إما رياء وسمعة ليحصّل منزلة في قلوب الخلق، وإما أن يعمل العمل الصالح من أجل الدنيا، مثلاً الزكاة تكون سببًا لبركة المال، وصلة الرحم سبب لطول العمر، إلى آخره، فهو يقوم ويقعد من أجل الدنيا، والله يقول: مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ ۝ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [هود: 15-16]، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه الترمذي، أبواب الزهد عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في المبادرة بالعمل (4/ 552)، رقم: (2306).
  2. أخرجه مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب في خروج الدجال ومكثه في الأرض، ونزول عيسى وقتله إياه، وذهاب أهل الخير والإيمان، وبقاء شرار الناس وعبادتهم الأوثان، والنفخ في الصور، وبعث من في القبور (4/ 2263)، رقم: (2942).
  3. أخرجه ابن ماجه، كتاب الفتن، باب فتنة الدجال، وخروج عيسى ابن مريم، وخروج يأجوج ومأجوج (2/ 1359)، رقم: (4077).
  4. أخرجه الترمذي، أبواب الزهد عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في ذكر الموت (4/ 553)، رقم: (2307)، والنسائي، كتاب الجنائز، كثرة ذكر الموت، (4/ 4)، رقم: (1824).
  5. أخرجه القضاعي في مسنده، (1/ 392)، رقم: (671).
  6. أخرجه ابن حبان (7/ 260)، رقم: (2993)، والطبراني في المعجم الأوسط (8/ 256)، رقم: (8560).

مواد ذات صلة