الجمعة 20 / جمادى الأولى / 1446 - 22 / نوفمبر 2024
بعض ما جاء عن السلف في باب التنافس في أمور الآخرة
تاريخ النشر: ٢٦ / ذو الحجة / ١٤٢٩
التحميل: 1537
مرات الإستماع: 3552

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي هذه الليلة أذكر جملة من الأخبار المروية في أحوال السلف في باب التنافس في أمور الآخرة والاستكثار مما يتبرك به، ونحن نعرف خبر الأنصار لما قدم إليهم المهاجرون، فكان إذا جاء الرجل مهاجراً إلى المدينة تنافس عليه الأنصار كل واحد يريد أن يأخذه معه إلى رحله، حتى إن النبي ﷺ كان يقرع بينهم قرعة، ولا يخفى على أحد منا خبر أبي بكر مع عمر -ا- لما دعا النبي ﷺ إلى الصدقة، فعمر أراد أن يسبق أبا بكر فذهب إلى أهله فجاء بشطر ماله وزوّر في نفسه أن يسبق أبا بكر في هذه المرة، فجاء بالمال بين يدي رسول الله ﷺ، فسأله ﷺ: كم تركت لأهلك؟ فقال: تركت لهم مثله، يعني: أنه جاء بشطر ماله، ثم جاء أبو بكر  ووضع المال بين يدي رسول الله ﷺ، فسأله ﷺ عما ترك لأهله؟ فقال: تركت لهم الله ورسوله، فعمر  قال: لا أنافس أبا بكر بعد اليوم[1].

فكانوا يتنافسون، يتسارعون، يتسابقون في الخيرات.

يقول محارب بن دِثار: صحبْنا القاسمَ بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود إلى بيت المقدس، فكان يفضلنا بكثرة الصلاة وطول الصمت والسخاء[2].

وقال حوشب لمالك بن دينار: رأيت كأن منادياً ينادي الرحيل، الرحيل، فما ارتحل إلا محمد بن واسع، ومحمد بن واسع كان من الزهاد العباد من السلف ، فبكى مالك بن دينار -رحمه الله[3].

ويقول سفيان بن عيينة -رحمه الله: إني لأشتهي من عمري كله أن أكون سنة مثل ابن المبارك، مثل عبد الله بن المبارك، فما أقدر أن أكون ولا ثلاثة أيام[4]، يعني: إذا كان هذا يقوله سفيان بن عيينة إمام من أئمة المسلمين في العلم والدين، يقول: ما أستطيع أن أكون مثل ابن المبارك، وأحوال أن أكون سنة واحدة مثله ما أستطيع ولا ثلاثة أيام، إذاً ماذا كان يعمل ابن المبارك؟.

ويقول ابن عيينة: نظرت في أمر الصحابة وأمر عبد الله بن المبارك فما رأيت لهم عليه فضلاً إلا بصحبتهم النبي ﷺ وغزوهم معه[5].

وابن المبارك أحواله عجيبة اقرءوا ترجمته في سير أعلام النبلاء، ينطفئ السراج فإذا أوقدوه وجدوا دموعه على خديه ولحيته، تذكر ظلمة القبر لما انطفأ السراج، كان يسافر للحج سنة وللغزو سنة، وكان يتولى مَن معه، يخرج معه خلق يتولى نفقتهم، وكان يقوم على كثير من العبّاد والزهاد وأئمة العلم والحديث، ينفق عليهم، كان من أجواد الناس ومن عبّادهم، وكان يخفي عمله غاية الإخفاء، القصة المعروفة في الحرب مع الروم لما خرج علج من الروم طلب المبارزة فخرج إليه رجل من المسلمين فقتله، ثم خرج آخر فقتله، ثم خرج آخر فقتله، فخرج له رجل وجال معه جولة ثم إن هذا المسلم قتل ذلك الفارس من الروم، ثم تلثم ودخل في الناس، اجتمعوا عليه فلم يعرفوه، فجاء رجل وأزال اللثام عن وجهه فإذا هو ابن المبارك، فقال الذي نزع ذلك: وأنت ممن يشنّع علينا؟، ما جاء وقال: تعال نجري لقاء فضائيًّا خلوا الفضائيات تتجمع أولاً كلها ثم تزدحم، هؤلاء المصورون والصحفيون والمراسلون حتى أصرح لهم كيف استطعت أن أقتل هذا العلج، لا، تلثم ودخل في الناس لئلا يراه أحد، هذا ابن المبارك، ولما كان يأتي إلى بغداد ويخدمه شاب فقده في بعض المرات التي جاء فيها فسأل عنه؟ فقيل: في السجن، في دين كان عليه، فذهب إلى صاحب الدين وقضى دينه ليلاً، وقال: لا يأتي عليه الصباح إلا وقد خرج، فأُخرج وهو لا يدري ذلك الشاب من الذي أخرجه، واستكتمهم هذا، وأن لا يخبروا أحداً ما كان ابن المبارك حيًّا، فلم يُعرف ذلك إلا بعد موته، أخباره عجيبة.

يقول أبو أحمد القلابسي: فرّق رجل أربعين ألفاً على الفقراء، فقال أحد الزهاد للقلابسي هذا: أما ترى ما أنفق هذا وما قد عمله ونحن لا نرجع إلى شيء ننفقه، ما عندنا شيء، فامضِ بنا إلى موضع، يقول: فذهبنا إلى المدائن فصلينا أربعين ألف ركعة[6].

المقصود أن هؤلاء لما رأوا هذا الرجل ينفق وما عندهم مال فجعلوا يكثرون من التطوع والصلاة، ونحن نعرف ما حصل من أصحاب النبي ﷺ من الفقراء لما قالوا: ذهب أهل الدثور بالأجور يصومون كما نصوم، ويصلون كما نصلي، ويتصدقون ولا مال لنا نتصدق به، فلما ذكر لهم النبي ﷺ ما ذكر مما يقولونه بعد الصلاة علم الأغنياء بذلك فصاروا يقولون، فجاء الفقراء يقولون للنبي ﷺ: علم إخواننا بذلك فقالوه، قال: هذا فضل الله يؤتيه من يشاء[7]، يتنافسون، الأغنياء والفقراء، والأغنياء يتنافسون فيما يبذلون وما يقدمون، فينظر الإنسان في ماذا تتعلق همته ونفسه، وإلى أي شيء يتطلع، وهل نفسه تميل إلى أهل الدنيا فينظر أن هذا يركب سيارة أفضل مما أركب، وعنده دخل أفضل مما عندي، وعنده مسكن أحسن مما عندي، أو أن نفسه تطمح إلى الأعمال الصالحة، يقول: فلان أعبد لله مني، فلان أتقى لله مني، فلان أنفع لعباد الله مني، فلان يتصدق أكثر مما أتصدق، يصوم أكثر مما أصوم، وهذا التفاضل إن كانت معه نية سيكون في الآخرة كذلك، فهي أكبر درجات وأكبر تفضيلا، فعلى حسب تفاضل الناس في هذه الدنيا في الأعمال الصالحة يكون تفاضلهم في مراتبهم ومنازلهم في الدار الآخرة.

فالذي يقبل على الآخرة وهو زاهد فيها أصلاً، زاهد في الآخرة حريص على الدنيا، ما ظنكم أن يحصّل؟!

وعلى كل حال نسأل الله أن يصلح قلوبنا وأعمالنا، وأن يلهمنا رشدنا، ويقينا شر أنفسنا، وأن يرينا الحق حقًّا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

 
  1. مسند الفاروق لابن كثير (1/ 264).
  2. سير أعلام النبلاء (5/ 196).
  3. المصدر السابق (6/ 121).
  4. المصدر السابق (8/ 389)
  5. المصدر السابق (8/ 390).
  6. المصدر السابق ( 13/ 171).
  7. أخرجه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته (1/ 416)، رقم: (595).

مواد ذات صلة