الجمعة 20 / جمادى الأولى / 1446 - 22 / نوفمبر 2024
حديث «اليد العليا خير من اليد السفلى..»
تاريخ النشر: ٢٧ / رجب / ١٤٢٩
التحميل: 2003
مرات الإستماع: 42719

اليد العليا خير من اليد السفلى

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله:

في باب القناعة والعفاف والاقتصاد في المعيشة والإنفاق وذم السؤال من غير ضرورة أورد المصنف -رحمه الله-:

حديث حكيم بن حزام : أن النبي ﷺ قال: اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول، وخير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغنِ يغنه الله[1]، متفق عليه.

قوله ﷺ: اليد العليا خير من اليد السفلى سبق الكلام على هذا المعنى، والمقصود به: أن يد المعطي أفضل من يد الآخذ.

وقوله ﷺ: وابدأ بمن تعول سئل أبو هريرة عن هذا من المقصود بمن تعول؟ فقال: زوجتك، تقول: أنفق عليّ أو فارقني، وخادمك، يقول: أطعمني واستعملني، وولدك، يقول: إلى من تتركني؟، فمثّل بهؤلاء، والمقصود أن كل من تحت يده ممن استرعاه الله إياهم فهؤلاء هم من يعولهم، من يجب عليه نفقتهم، وهم مَن له من ولد وبنت، وكذلك أيضاً الوالد والوالدة، يعني: الآباء، وإن علوا إذا كانوا يحتاجون إليه، لا يجدون، فإنه يجب عليه أن ينفق عليهم.

وابدأ بمن تعول بمعنى: أن الإنسان لا يكون كما قيل:

كمرضعةٍ أولادَ أخرى وضيعتْ بني بطنها هذا الضلالُ عن القصد

فلا ينفق على الأبعدين أو يتصدق، ومن تحت يده من ولد وزوجة ونحو ذلك هم بحاجة، ولربما أخذوا من الناس الصدقات، كما نسمع أحياناً: المرأة تأخذ صدقة وزكاة، وزوجها غني، لكنه لا ينفق عليها.

وكثير من الناس يظن أن ما يبذله الإنسان لأهله وولده أن هذا ليس من الصدقة، والواقع أن هذا من الصدقة التي يؤجر عليها، الأحاديث الدالة على هذا المعنى كثيرة جدًّا، وقد مضى شيء من هذا، والنفقة على هؤلاء هي من قبيل الواجب، والنفقة على غيرهم هي من قبيل المستحب.

ومعلوم أنه ما تقرب العباد إلى الله -تبارك وتعالى- بشيء أحب إليه مما افترضه عليهم، فالواجبات في الميزان أثقل من المستحبات، وذلك يدخل فيه بالقدر الواجب النفقات الواجبة، يعني: في الأمور الضرورية من الملبس والمأكل والمشرب، في ضروراتهم، وما زاد على ذلك من غير إسراف فإن الإنسان يؤجر عليه، أما التوسع الزائد الذي يفسد نفوسهم ويورثهم شيئاً من البطر والزهد في النعمة، وما إلى ذلك فمثل هذا لا يحمد.

يقول: وخير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، بعضهم فهم هذه الجملة ما كان عن ظهر غنى قال: إن التنكير هنا يدل على أن المتصدق في حال من الغنى الواسع، ما كان عن ظهر غنى أي: إنسان غني، وبعضهم فهم منها أن المراد ما كان عن ظهر غنى أي: أنك تعطي المتصدق عليه ما يغنيه، وهذا بعيد، والأقرب -والله تعالى أعلم- أن المراد ما كان عن ظهر غنى بمعنى أنه فيما زاد عن ضرورات الإنسان، ولهذا يقول النبي ﷺ: أفضل الصدقة جهد المقل[2]، فلو كان المقصود أن أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى بمعنى أنه تصدُّق الإنسان الغني جدًّا لكان ذلك معارضاً فيما يبدو لقوله ﷺ: أفضل الصدقة جهد المقل، فنجمع بين الحديثين -وكلاهما صحيح- بأن المقصود عن ظهر غنى: أي: ما كان زائداً على ضرورات الإنسان، بحيث إنه إن تصدق به لا يبقى يعاني الجوع أو العري، أو أن أولاده يتضاغون جوعاً، أو لا يجدون ما يسترهم من اللباس، فأفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى يعني: يزيد عن ضروراته، ثم قال ﷺ: ومن يستعفف يعفه الله السين والتاء للطلب يستعفف، يعني: يطلب العفاف، بمعنى أنه يتعفف لا يسأل الناس، ولا يمد يده لأحد، ولا يحتاج إلى المخلوقين، فإن الله  يعينه ويغنيه عن خلقه أجمعين، من يستعفف يعفه الله، أما الذي يمد يده ويسأل الناس، ويُنزل بهم حاجاته وضروراته وفقره فمثل هذا -نسأل الله العافية، قد لا تُسد جوعته، ولا ينتهي فقره، وإنما يبقى في حال من البؤس؛ لأنه أنزل حاجته بمخلوق فقير ضعيف، والله المستعان.

قال: ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستَغنِ يغنه الله، يستغن: السين والتاء للطلب، أي: يطلب الغنى، يعني عن المخلوقين، يستغن عنهم، يغنه الله بمعنى: أنه لا يحتاج إلى الناس، فيكفيه الله حاجاته، وهذه النفس كما جاء عن النبي ﷺ أن: المعونة على قدر المئونة[3]، فالإنسان يُعانُ بقدر ما ينزل به، فإذا فهم الإنسان هذا المعنى فإنه يطمئن إلى ألطاف الله -تبارك وتعالى- وأنه سينزل عليه من الصبر والعون والمدد ما يحصل به كفايته، والله لا ينزل بعبده مكروهاً ليكسره، وإنما يبتلى الناس على قدر دينهم وإيمانهم، ولهذا تجد من الناس من تنزل به أمثال الجبال، وينزل له من عون الله ومدده ما يتعجب هو منه أحياناً، هو يستغرب كيف استطاع أن يضبط نفسه في تلك المصيبة التي حصلت مثلاً، في ذلك المكروه، كيف استطاع أن يتمالك، كيف صار رابط الجأش!، هو يتعجب من هذا، فيكون نزّل الله عليه من الألطاف والصبر والثبات والعون ما جعله بهذه المثابة، تجد الإنسان أحياناً لربما يأتي نصف النهار إذا لم يأكل ترتعش أطرافه، ولربما إذا لم يبادر إلى الأكل لربما يشعر أنه لا يستطيع أن يعمل شيئًا، وأنه قد يغمى عليه ويتعب، ولربما يتغير خلقه ومزاجه، فإذا أكل اطمأن وارتاح، لكن إذا كان صائماً لا يلتفت لشيء، وهو حينما كان مفطراً لربما أكل في الضحى، أو في أول الصباح، وإذا كان صائماً لربما لم يتسحر، ومع ذلك يأتي منتصف النهار في اليوم الثاني ولا يلتفت لشيء، ولا يخطر بباله شيء، لماذا؟ الله  أمده وأعانه.

فنسأل الله أن يلطف بنا وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى، (2/ 112)، برقم: (1427)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى، وأن اليد العليا هي المنفقة وأن السفلى هي الآخذة، (2/ 717)، برقم: (1034).
  2. أخرجه أحمد ت شاكر (8/ 392)، برقم: (8687)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2/ 109)، برقم: (566).
  3. أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (12/ 337)، برقم: (9481).

مواد ذات صلة