الجمعة 20 / جمادى الأولى / 1446 - 22 / نوفمبر 2024
حديث «البذاذة من الإيمان..»
تاريخ النشر: ١٥ / جمادى الآخرة / ١٤٢٩
التحميل: 1434
مرات الإستماع: 4196

إن البذاذة من الإيمان

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فعن أبي أمامة إياس بن ثعلبة الأنصاري الحارثي قال: ذكر أصحاب رسول الله ﷺ يومًا عنده الدنيا، فقال رسول الله ﷺ: ألا تسمعون؟ ألا تسمعون؟ إن البذاذة من الإيمان، إن البذاذة من الإيمان يعني: التقحُّل[1] رواه أبو داود.

قوله: ذكر أصحاب رسول الله ﷺ يومًا عنده الدنيا، يعني: كأنهم ذكروا اللباس الرفيع الحسن، فقال النبي ﷺ: ألا تسمعون؟ ألا تسمعون؟ وهذا الأسلوب: ألا تسمعون، مع التكرار، يعني: بصيغة الاستفهام مع التكرار فيه مزيد من استدعاء الأذهان والقلوب؛ من أجل أن تعقل عنه ﷺ ما يقول.

ثم قال: إن البذاذة من الإيمان، إن البذاذة من الإيمان -كرره توكيدًا ﷺ، قال: يعني التقحُّل.

والمقصود بالبذاذة في باب اللباس: أن يترك الإنسان رفيع اللباس، وقد جاء في الحديث الآخر أن من ترك اللباس وهو يقدر عليه تواضعًا لله دعاه الله على رءوس الخلائق يوم القيامة، حتى يخيره من حلل الإيمان يلبس من أيها شاء[2]، وذلك -والله تعالى أعلم- لأن الظاهر يؤثر في الباطن، فإذا كان الإنسان يلبس رفيع اللباس فإن ذلك ينعكس على باطنه ويؤثر فيه، كما أنه يؤثر على غيره، أمّا أثره على نفسه فهو أن الإنسان يجد في نفسه ميلًا إلى الترفع، فلباس الإنسان يحرك نفسه ويؤثر فيها ولابدّ، كما أن ما يركبه الإنسان يؤثر فيه، ولهذا جاءت عناية الشريعة بالظاهر، كما جاءت عنايتها بالباطن، فاعتنت الشريعة بلباس الإنسان وبمشيته، وما إلى ذلك من الأمور الظاهرة، لما لها من التأثير في الباطن، ومن هنا جاء النهي عن التشبه بالكافرين والفاسقين، والتشبه بالحيوانات، وبالشياطين، كل هذا لما يورثه هذا التشبه من انعكاسات داخلية حيث يجد الإنسان في نفسه انجذابًا إلى ذلك الإنسان الذي شابهه في الظاهر.

فالإنسان الذي يلبس رفيع اللباس يؤثر ذلك فيه فيجد في نفسه لربما ميلًا إلى العجب أو التعاظم والترفع، والشريعة دعت إلى التواضع وخفض الجناح، وكذلك أيضًا يؤثر في غيره فتنكسر قلوب الفقراء ويجدون في قلوبهم لربما عصرة بسبب أنهم يرون ما يعجزون عنه، فإذا رأوا من أهل الجِدَة شيئًا من التواضع في لباسهم وهيئتهم ومراكبهم، وما إلى ذلك فإن ذلك أدعى إلى المواساة، وهذا الحديث البذاذة من الإيمان لا يعارض الأحاديث التي قال فيها  النبي ﷺ: إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده[3] وكذلك أيضًا لما سئل النبي  ﷺ عن الرجل يحب أن يكون نعله حسنًا وثوبه حسنًا، فبين ﷺ أن الله جميل يحب الجمال، وأن ذلك ليس من الكبر، فالشاهد أنه ليس هناك تعارض بين هذه الأحاديث، فالمقصود بهذا الحديث أن يترك الإنسان رفيع الثياب، لكنه يلبس لباسًا معتدلًا متوسطًا، وذلك يختلف من زمان إلى زمان، فاللباس المعتدل في هذا الزمان ليس كاللباس المعتدل قبل خمسين سنة، اللباس المعتدل في هذا الزمان ليس كاللباس المعتدل في زمن النبي ﷺ، فليس معنى هذا الحديث أن يلبس الإنسان الثياب الرثة الممزقة التي قد وجدت فيها الرقاع وهو يجد، وقد أعطاه الله وأغناه، لا، وإنما يترك اللباس الرفيع، يعني: يترك العناية الزائدة في المظهر بدلًا من أن يشتري الأغلى من الأقمشة والثياب ونحو ذلك، لاسيما المرأة.

فألبسة النساء تتفاوت غاية التفاوت، فقد يصل الفستان الذي تلبسه المرأة إلى نحو مائة ألف وأكثر، وقد يصل إلى ثلاثين ريالا أو نحو هذا، وهكذا بعض ما يلبسه الرجال لاسيما من غير زِيِّنا لربما يوجد بعينه في مكان يبيع رفيع اللباس، ولا يصل إليه أو لا يأتي إلى هذا المكان ويرتاده إلا أهل الجدة والثراء، ويباع هذا الثوب، أو هذا اللباس بألف أو أكثر، ويباع نفسه في المكان الآخر الذي يأتيه الناس الفقراء أو من المتواضعين أو نحو هذا بخمسة وعشرين ريالا، اللباس نفسه.

وقد ذكر هذا بعض من يبيع، عنده متجر في هذا، ومتجر في هذا، اللباس نفسه، يقول: نبيعه هنا بثمانمائة، وهنا نبيعه بخمسة وعشرين ريالا، لماذا؟ قالوا: أولئك ما يشترون بالخمسة والعشرين، أولئك ما يشترونه إلا بثمانمائة، ماذا أصنع به؟ لن يُشترى هناك، فمن الناس من يقصد إلى رفيع اللباس والثمن الغالي، وهذا يوجد حتى في الإيجار، قد يستأجر شقة ثلاث غرف، أو أربع غرف بسبعين، بثمانين ألفًا وأكثر من هذا مِن مستأجر بهذا المبلغ، طيب ثم ماذا؟ بعض العقول لا تفكر إلا بهذه الطريقة، ما يريد أن يقول: أنا مستأجر بثمانية عشر ألفًا، أو بعشرين ألفًا.

وأقول مثل ذلك في دراسة الأولاد في المدارس، قد توجد مدارس مجانية أفضل بكثير من هذه المدرسة التي يدرس أولاده فيها بمبلغ وقدره، آلاف، كل ولد بنحو ثمانية آلاف، أو عشرة آلاف، لا، لكن من أجل أن يقول: أولادنا يدرسون في مدارس خاصة، وهل هذا هو المعيار على مستوى هؤلاء الأولاد وتميزهم؟، أبدًا، لكن من الناس من يفكر بهذا الأسلوب، بهذه الطريقة، وهذا خطأ، لكن النظافة ونقاء الثوب، ولو كان الثوب بسيطًا هذا أمر مطلوب أن يلبس الإنسان لباسًا نظيفًا، لباسًا حسنًا، ولكن لا يلزم أن يكون ذلك من رفيع اللباس، وقد جُرب هذا، ولعلي ذكرته في إحدى المناسبات: في بعض السجون في أمريكا قرأت تقريرًا عن تجربة أقيمت فيها صاروا يطالبون السجناء، هؤلاء السجناء من المجرمين، صاروا يطالبونهم بصبيحة كل يوم أن يغتسلوا، ثم يعطونهم ثيابًا جديدة بيضاء، فوجدوا تغيرًا في سلوكهم، وهذا شيء مشاهد، أنت حينما تقدم من سفر طويل، ومتعب وشاق، ولربما حصل لك شيء من التعطيل في هذا السفر، وتلوثت ثيابك، أو نحو هذا، أو غبار أو غير هذا، تصل لا تريد أن تقابل أحدًا، ولا يراك أحد، وإذا جلست مع الناس في أي مكان أحرجت أو نحو ذلك، لربما تنتظر متى تقوم، لكن إذا اغتسل الإنسان، ولبس ثيابًا نظيفة وجد في نفسه تغيرًا كبيرًا، فدل ذلك على أن اللباس النظيف النقي يؤثر.

ولهذا فإن الشريعة تدعو إلى النظافة والنقاء، والنبي ﷺ يقول: البسوا من ثيابكم البياض وكفنوا بها موتاكم[4] فالثياب البيضاء أفضل من غيرها، لكنْ فرق بين أن يلبس الإنسان هذا، وبين أن يبحث دائمًا عن الأغلى لاسيما الرجال، فإن المبالغة في الزينة بالنسبة للرجل نقيصة، كما قال الشاعر:  

وما الحَلْيُ إلا زينةٌ مِن نقيصةٍ يُتمم من حسنٍ إذا الحسنُ قصّرا
أمّا إذا كان الجمال موفَّرًا كحسنكِ لم يحتج إلى أن يُزوَّرا

فالرجل لو أنه لبس الحلي كما تلبس المرأة، وضع سوارًا، وضع قلادة، وضع في أذنه شيئًا لضحك منه الناس ومجّوه ورأوا أن ذلك قبحًا، وإنما جمال الرجل بهيئته هكذا، فالمرأة هي التي تحتاج إلى هذه الأشياء، وإذا مشت بدأت هذه الخلاخل ونحو ذلك، بدأت أصواتها تجلجل، أما الرجل فلا يليق به هذا.

وهكذا الرجل إذا كان يعتني عناية زائدة في مظهره، لربما تجد الرجل أحيانًا يضع زَرْيًا في أطراف الثوب ونحو هذا، وزيادة في التجمل والتزين، ونظارة غريبة عجيبة، وخواتم باليد اليمني واليسرى، أقول: رفقًا بنفسك ما يُحتاج هذا التجمل الزائد، وهذه العناية الزائدة في المظاهر، فالاعتدال في الأمور والتوسط هو المطلوب، فالإسلام لا يدعو أن تكون هيئة الإنسان غير مقبولة، وأيضًا لا داعي للمبالغات، فالاعتدال هو الحسن.
أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

  1. أخرجه أبو داود، أول كتاب الترجل، (6/ 238)، برقم: (4161)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1/ 666)، برقم: (341).
  2. أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (20/ 180)،  برقم: (386)، والحاكم في المستدرك (4/ 204)، برقم: (7372)، والبيهقي في شعب الإيمان (8/ 230)، برقم: (5740)، وصححه الألباني في السلسلة  الصحيحة (2/ 337)، برقم: (718).
  3. أخرجه الترمذي، أبواب الأدب عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء إن الله تعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، (5/ 124)، برقم: (2819)، وأحمد في مسنده (8/ 175)، برقم: (8092)، وصححه الألباني في السلسلة  الصحيحة  (3/ 280)، برقم: (1290).
  4. أخرجه أبو داود، كتاب الطب،  باب في الأمر بالكحل، (6/ 27)، برقم: (3855)، والنسائي، كتاب الجنائز، باب أي الكفن خير، (4/ 34)، برقم: (1896)، وأحمد (4/ 94)، برقم: (2219)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته (1/ 267)، برقم: (1236 ).

مواد ذات صلة