الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
الحديث على آيات الباب (2-3)
تاريخ النشر: ٠٥ / صفر / ١٤٢٩
التحميل: 1577
مرات الإستماع: 2017

قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ...}

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب فضل الزهد في الدنيا أورد المصنف -رحمه الله- جملة من الآيات تكلمنا على اثنتين منها، ومما أورده: ما ذكره الله -تبارك وتعالى- في وصفها من قوله: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا ۝ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا [الكهف:45-46].

تكلمنا على صدر هذه الآية، والله يقول بعد أن قرر هذا المعنى ووضحه في صفتها الكاشفة لحقيقتها، قال: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لما ذكر أن هذه الدنيا كالمطر الذي ينزل من السماء ويختلط به نبات الأرض فيتشابك، فيعجب الناظرين ويستهويهم، ثم بعد ذلك يتحول إلى ما ذكره الله من كونه هشيماً تذروه الرياح، ذكر أجمل ما في هذه الدنيا، وهو المال والبنون فهو زينتها، وذلك أن الإنسان يتجمل بهما أمام الآخرين في المناسبات، يتجمل بأولاده، فيكون الواحد منهم ريحانة في عين أبيه، ويبقى الذي ليس له ولد لربما يكون كسيفاً إذا حضر الناس مع أولادهم.

وكذلك أيضاً الأموال يتجمل الناس فيها بالمنح والعطايا والهبات كما يتجملون أيضاً بأنفسهم باللباس والمآكل والمراكب والدور والقصور وما أشبه هذا، كل هذا يتجمل به الناس من هذا المتاع الزائل، الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لكن ذلك عما قريب يزول ويتلاشى، ومن أراد أن يعرف هذه الحقيقة فأين أموال أصحاب القرون الماضية؟ أين أموال فرعون؟ وأين أولاد فرعون؟ أين أموال كسرى؟ وأين قصور كسرى؟ وأين أموال قيصر؟ أين أموال الملوك وأين أبناء الملوك؟ أين قصور الخلفاء التي كانت عامرة ببغداد أو بدمشق أو بغير ذلك؟.

بقي منها بقايا لربما يسيرة من عمود وطوب، ولربما لم يبقَ شيء، ولربما حفروا الحفر في الأرض لاستخراج أدنى ما يدل على آثارهم، لكن أين الكنوز؟ وأين الملابس؟ وأين المراكب؟ وأين القصور؟ وأين الأولاد؟ وأين المعايش؟.

كل ذلك قد ذهب، فنحن في هذا الجري خلف الحياة الدنيا والتعمير واللهو سيكون حالنا بعد ذلك بلا شك إلى حال غيرنا، إلى البلى، ويندثر ذلك جميعاً ويفيق الناس على الحقيقة الكبرى، وهي أن العمل هو المعول بعد عفو الله ومغفرته ورضوانه، أما الباقي فكله أحلام تتبخر وسراب يتبعه الناس، يستهويهم فترة يستلذون به ويتمتعون، ثم ما يلبث أن ينكشف عن عدم وزوال.

يقول الله تعالى: وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا الباقيات الصالحات: من أهل العلم من يقول: الصلوات الخمس، ومنهم من يقول: الصيام، ومنهم من يقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، ومنهم من يقول غير هذا، والأقرب -والله تعالى أعلم- أن ذلك يصدق على كل ما يبقى، وما الذي يبقى ويوصف بالصلاح؟ السيئات تبقى لكنها لا توصف بالصلاح، فالذي يبقى ويوصف بأنه من الصالحات هو الأعمال الطيبة الزاكية من الأقوال والأفعال، فالذكر بجميع أنواعه وقراءة القرآن، وهكذا الصلاة أيضاً والصيام، والحج، والصدقة كل ذلك من الباقيات الصالحات، كما قال كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله: إن جميع الأعمال الطيبة الزاكية عند الله داخلة في هذا العموم.

خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا أجراً وجزاءً وَخَيْرٌ أَمَلًا هذه التي يؤملها الإنسان ويرجوها ويجدها بعد موته إذا عمر آخرته بالعمل، أما أن تعمر هذه الدنيا القصيرة ثم الآخرة تكون خراباً فإن هذا من انتكاس المفاهيم وقصر النظر.

قوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ...}

والله يقول: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ [الحديد:20]، هذه حقيقتها اعْلَمُوا الذي خلقها وأوجدها وأوجد فيها المتع يصف حالها لَعِبٌ وَلَهْوٌ  اللعب كل شيء يستهويك، ثم ما يلبث أن ينقشع ويزول، يشد الإنسان في أوله، يطرب له، ولكنه يذهب من غير طائل، يقال له: لعب، واللهو: كل ما ألهى الإنسان وشغله عما هو بصدده من عمارة آخرته أو من عمارة دنياه يقال له: لهو، فلان لاهٍ، يلهو، لَعِبٌ وَلَهْوٌ، هذا الجري وراء أحجار الذهب والفضة والريالات والآلاف والملايين، إذا عنده مليون يبغى مليونًا آخر، وإذا عنده مليونان يبغى ثالثًا، وإذا عنده عشرة يبغى عشرين، وإذا عنده مائة مليون يبغى مائة ثانية، والذي عنده مليار يبغى يكمله بمليار ثانٍ، نقول: اشرب من ماء البحر، ما ينتهي أبدًا، ما تجد من يقتنع، لا الذي عنده مليون مقتنع، ولا الذي عنده مليار مقتنع، ولا الذي عنده عشرة مليارات مقتنع وجالس في بيته ويمدد رجليه ويقول: الحمد لله عندي ما يكفيني وسبعة أجيال بعدي، لا، الكل مشغول، إلى متى؟ هل خلقنا من أجل هذا؟ ليس معنى ذلك أن ينصرف الإنسان عن العمل للدنيا، لا، يعمل ويكتفي عن الناس، ولكن لا ينشغل بذلك عن آخرته، هذا هو الضابط، لا تشغلنا الدنيا ولا تلهينا عما نحن بصدده، نحن هنا وُجدنا للعبادة، ما وجدنا من أجل جمع المال والمكاسب، ثم بعد ذلك نموت ونترك ذلك جميعاً.

لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ تتزينون بها وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ أنا عندي أكثر، وأنا بيتي أفضل، وأنا عندي مخطط، وأنا عندي سيارة أحسن وموديلها أفضل، وأنا عندي كذا، تفاخر بالأولاد، تفاخر بالأموال، بالضيعات.

وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ فلان عنده كذا في الرصيد وأنا عندي كذا، فلان رقم سبعة عالميًّا، وفلان رقم ستة، وفلان رقم سبعة عشر، وفلان رقم سبعة وستين، وتعال انظر إلى هذا اللعب والعبث.

كَمَثَلِ غَيْثٍ يعني: المطر أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ الكفار يعني: الزُّراع؛ لأنه يكفر البذور في الأرض، يغطيها، فالليل يقال له: كافر؛ لأنه يستر بظلامه الأشياء، فالكفار يعني الزراع أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ كذلك أيضاً الكفار تعجبهم الحياة الدنيا وتستهويهم وتشغلهم عن الآخرة أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [الحديد:20].

المتاع الشيء الذي يتمتع به الإنسان ثم ما يلبث أن يزول، ولهذا قال النبي ﷺ ممثلاً حاله والدنيا: ما لي وللدنيا، ما أنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت ظل شجرة ثم ذهب فتركها[1] فالحياة هي أحلام بهذه الطريقة، حينما كان الإنسان في المكان الفلاني أو سكن في الحي الفلاني، أو حينما كان يعمل في المكان الفلاني، أو يتاجر في المكان الفلاني، أو سافر إلى المكان الفلاني تمضي هذه المدة وكأنها أحلام ثم يستيقظ بعد ذلك بعدما تنتقل روحه إلى الدار الآخرة يستيقظ على الحقيقة الكبرى، فيكشف الحجاب فيرى الملائكة، ويرى أعماله تمثل له بصورة إنسان حسن الوجه أو في غاية الكراهة، ويرى عند ذلك النعيم، ويرى منزله في الجنة أو منزله من النار، ويعرف ما يصير إليه.

فنسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل السعادة ووالدينا وإخواننا المسلمين، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه الترمذي، أبواب الزهد عن رسول الله ﷺ (4/ 588)، رقم: (2377) وابن ماجه، كتاب الزهد، باب مثل الدنيا (2/ 1376)، برقم: (4109)، وأحمد في مسنده (6/ 241)، برقم: (3709)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1/ 800)، برقم: (438).

مواد ذات صلة