الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
حديث «الدنيا سجن المؤمن..»
تاريخ النشر: ١٢ / ربيع الأوّل / ١٤٢٩
التحميل: 1916
مرات الإستماع: 21843

الدنيا سجن المؤمن

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب الزهد في الدنيا أورد المصنف -رحمه الله-:

حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر[1] رواه مسلم.

هذه الجملة المختصرة الموجزة هي في غاية البلاغة، وقد تضمنت معنى عظيماً واسعاً قد يعبر عنه بمجلدات.

الدنيا سجن المؤمن كيف تكون الدنيا هي سجن المؤمن؟ قد يكون المؤمن في هذه الحياة الدنيا ممتعاً يأكل من الطيبات، ويسكن الدور الواسعة، ويركب المراكب الفارهة، ومع ذلك هي كذلك بالنسبة إليه هي سجن المؤمن، والمقصود بذلك المؤمن الذي يراعي إيمانه، وما يقتضيه هذا الإيمان، وما يتحقق به، وذلك من جهتين اثنتين:

الأولى: بالنظر إلى أن المؤمن يتقيد بأحكام الله وحدوده، فإذا طلبت نفسه شيئاً من الشهوات المحرمة توقف، وحبس نفسه عنها، وإذا أراد لسانه أن يتكلم بكلام لا يرضاه الله فإنه يمتنع من ذلك، وإذا أرادت عينه أن تنظر إلى مواقع محرمة، وإلى قنوات محرمة، وإلى صور ومظاهر محرمة في الواقع، في الأسواق، فإنه يمنع نفسه ويجاهدها، ويصبر ويفطم نفسه عن اللذائذ المحرمة، وعن كل فعل مشين لا يليق، ومعلوم أن الجنة حفت بالمكاره، والنار حفت بالشهوات، فهو يحمل نفسه على الأفعال التي هي من قبيل الطاعات والقرب مما يحبه الله ويرضاه ولو كانت نفسه تجد مشقة وعنتاً بسبب ذلك، وطريق النار محفوف بألوان الشهوات والمتع المحرمة، والنفوس قد ركب فيها هذا الأمر تركيباً مازجها وخالطها تمام المخالطة، فهو يحبس نفسه ويصرفها عن هذه المحرمات، فهي سجن بالنسبة إليه، ولهذا بعض من لا فقه له ولا علم يقول: كلما أردنا شيئا قلتم لنا: حرام، أنت تطلب الأشياء المحرمة دائماً، ما تكتفي بالمباح ولا تطلب المباح، لم تكتفِ بالمشروع، وإنما طلبت المباح، وبعد المباح طلبت الأشياء المحرمة، فنفسه صاحبة شهوات، وتطلب الشهوات، فهو يتنقل بين محرم إلى محرم.

طيب هذا ماذا فيه؟، وهذا ماذا فيه؟، هذا يا أخي حرام، وهذا حرام، وهذا حرام، كل شيء عندكم حرام؟، هذا طريق الجنة، الجنة حفت بالمكاره، والنار حفت بالشهوات، النار فيها النساء المتبرجات، تطلق بصرك تنظر إلى القنوات، تنظر إلى مواقع إباحية في الإنترنت، هذا هو طريق النار، الأموال الحرام، الصفقات الحرام، الربا، الأسهم المحرمة، هذا هو طريق النار.

فمن تحوم نفسه حول هذه الدنايا وتطوف عندها هو دائماً يواقعها أو يكاد، ولهذا دائماً يسأل عنها إذاً لماذا هذا حرام؟، هذا ماذا فيه؟، هذا ما أنا مقتنع أنه حرام، أنتم كل شيء نسأل عنه تقولون لنا: حرام، ما هو كل شيء تسأل نقول لك: حرام، الحلال أكثر من الحرام، والأصل في الأشياء الإباحة، لكن أنت نفسُك تحوم حول هذه الأشياء المحرمة التي تشتهيها وتطلبها وتسأل عنها ويقال لك: حرام، هذه هي القضية.

فالدنيا سجن المؤمن هذا معناها، وجنة الكافر، ولذلك انظروا إلى أحوال الناس الذين ما اعتادوا الطاعة والتقيد بحدود الشرع، جاءت امرأة من بلد ينتشر فيه السفور والتبرج والانحلال وهي مسلمة، جاءت إلى أناس في هذه البلاد من قراباتها فزارتهم، فأرادوا أن يحجبوها وأن تلبس العباءة، وأن تغطي وجهها قالت: كيف تستطيعون هذا؟، فوضعت قليلاً على وجهها ثم قالت: كتمة، ما أستطيع هذا، من يستطيع أن يغطي؟، أنتم دائماً هكذا؟ قالت: نعم دائماً هكذا، قالت: وما تروحون وتسافرون وتتمشون في العواصم والدول التي يسافر إليها الناس فيها الفجور -طبعاً هي ما تقول: الفجور-؟، قالت: لا، والله ما نسافر، ولا نعرف هذا السفر والحمد لله، نعم أنتم في سجن، هكذا تقول، أنتم في سجن، هي مستغربة جدًّا من هذا الوضع؛ لأنها ما اعتادت عليه، وهكذا كل من لم يعتد على شيء، الإنسان الذي ما اعتاد على الصلوات الخمس يريد أن يصلي الصلاة يقول: أنا ما لي شغل إلا أنتظر كل فترة فريضة، خمسة فروض -ما هو واحد- متقيد بها مرتبط أرتب جدولي وبرنامجي على هذه الفروض، لكن الذي اعتاد عليها، الذي ارتاضت نفسه بها يرى أنه شيء طبيعي، ولو ما صلى كأنه على ملّة، كأنه يحترق، يتضايق، الوضع غير طبيعي، وهكذا قل مثل ذلك في سائر الأعمال، فهي سجن المؤمن بهذا الاعتبار.

وباعتبار آخر أيضاً: بما يكون للمؤمن عند الله من النعيم المقيم واللذات غير المتناهية، الجنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر[2].

وذكرنا لكم الرجل الذي يغمس غمسة في الجنة، أشقى -أتعس- إنسان في الدنيا يغمس في الجنة غمسة، ثم يخرج يقال: يا فلان هل رأيت بؤساً قط؟، يقول: لا، والله ما رأيت بؤساً قط.

فالجنة فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، فيها الخمر، أنهار من الخمر لذة للشاربين، وفيها أنهار من العسل المصفى، واللبن، وكل ذلك فيها، فالدنيا بالنسبة إليها مهما كان الإنسان في رغد فهو في سجن، في الجنة لا يوجد شيء حرام، بعض الناس يسأل يقول: هل في الجنة حجاب؟، الجنة ما فيها معاصٍ، ولا تمتد عين أحد من أجل أن ينظر إلى ما حرم الله ، في الجنة حور مقصورات في الخيام، قاصرات الطرف لا تنظر إلى غير زوجها، وزوجها لا يتطلع إلى غيرها؛ لأنه يرى أن الحسن قد اجتمع فيها.

ليس فيها معصية، ولا إرادات سيئة، فيها كمال النعيم المقيم والخلود، وفيها رضوان الله والنظر إلى وجهه الكريم، والجمال والحسن الذي يتجدد حيناً بعد حين، فما نحن فيه في هذه الدنيا وحالتنا وضعفنا وعجزنا وأمراضنا ومصائبنا وهمومنا سجن بالنسبة للجنة.

وجنة الكافر، الكافر هنا في الدنيا هي جنته لهذين السببين:

الأول: أنه لا يتقيد أصلاً بأحكام الشريعة، يتمتع كما تأكل الأنعام، كلما طلبت نفسه شيئاً رعت، يسرح في كل ما تشتهيه نفسه بدون أي قيود، الرجل يضاجع بنته، يضاجع أخته ويقول: أنا أولى بها من الآخرين، وهذا موجود، وبكثرة، والفجور، والخمور، والمال الحرام والمكاسب، وكل الأفعال المشينة هو لا يرعوي منها، ولا يستحيى، يأكلون ويتمتعون تماماً كما تأكل الأنعام، فهي بالنسبة إليه جنة، أطلق لنفسه العنان من أجل أن تسرح في أودية الشهوات، ومن جهة أخرى ما يكون فيه الكافر -ولو كان بائساً في هذه الحياة الدنيا، ولو كان فقيراً معدماً، ولو كان مريضاً- بالنسبة لعذاب الله والنار التي تنتظره والجحيم أبد الآبدين، بالنسبة إليه تعتبر هذه جنة، وهذا شيء مشاهد في المقارنة بين أحوال الناس في هذه الحياة الدنيا.

بعض الناس قد يذهب مثلاً إلى مكان ضيق ونحو ذلك، في الحج مثلاً، ويجلس في حملة في مقدار متر في مترين كفراش، وإذا أراد أن يغتسل أو نحو ذلك يحتاج أن يقف طابورًا، حتى الطعام يقف طابورًا طويلا من أجله، فإذا جاء إلى بيته ولو كان بيتًا من أربع غرف، أو ثلاث غرف ما شاء الله هو في متر هناك، في مترين، فإذا جاء إلى بيته قال: جنة، لا أقف طابورًا عند دورة المياه -أعزكم الله، ولا أقف طابورًا عند الطعام، ولا أحد نائم جنبي من هنا، ونائم جنبي من هنا في غرفتي، أنام بهذه الغرفة، وأجلس، هذا خاص بالمجلس، وهذا خاص باستقبال الضيوف، وهذا خاص بالطعام، فهو يرى أن مثل هذه الأمور أنها جنة بالنسبة إليه.

لاحظ مع أن المكان الذي هو فيه قد لا يكون قصراً عظيماً، لكن يرى أنه جنة، وقل مثل ذلك حينما يكون الإنسان -مثلاً- في مستشفى ضيق وأسرّة بجانبه، والغرف صغيرة وغير نظيفة وخدمات ضعيفة، وينتقل إلى مستشفى آخر ليس له إلا سرير، لكن يقول: هذا جنة، بالنسبة إليه، فكيف بالنسبة للدنيا والآخرة؟ لا مقارنة.

فالدنيا جنة الكافر وسجن المؤمن، والآخرة سجن الكافر، وجنة حقيقية للمؤمن، ولهذا مر أحد أهل العلم وهو سهل الصعلوكي -رحمه الله- وهو عالم كبير، وله أبهة ومعه أتباع، وله رونق وهيئة ولباس، فخرج يهودي -أعزكم الله- من حمام، الحمام المكان الذي يستحمون فيه سابقاً بأجرة، وهذا اليهودي متسخ، ثيابه سوداء ممزقة، فقير حالته حالة، خرج وإذا هو بهذا العالم الذي في هذا اللباس، فوقف في وجهه وقال: تزعمون أن الدنيا جنة الكافر وسجن المؤمن؟ قال: نعم، قال: انظر إلى حالي أنا من الفقر ورثاثة الهيئة، وانظر إلى حالك أنت في هذه الأبهة، وهؤلاء الأتباع وهذه اللباس وهذا المركب، قال: نعم، إن ما تصير إليه أنت في الآخرة من النار يكون هذا جنة بالنسبة إليك -يعني في الدنيا، وما يصير إليه المؤمن في الآخرة يكون ما له في الدنيا من هذا النعيم هو سجن بالنسبة لنعيم الآخرة الذي ينتظره، فأفحم اليهودي وسكت.

فأقول: نسأل الله أن يبصرنا وإياكم بما ينفعنا، وأن يشرح صدورنا لطاعته، وإلا فمثل هذه الأمور تحتاج من الإنسان إلى تعقل وتأمل، فلا يجزع من حدود الله ويتضايق، يضيق بها ذرعاً ويقول: لماذا هذا حرام، وهذا حرام، وهذا حرام؟.

يا أخي الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، ماذا تريد؟ إذا حبست نفسك عن الشهوات المحرمة الآن وعندك مساحة واسعة من العمل المشروع والمباح قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ [الأعراف:32].

لكن أن يريد الإنسان أن يمتع نفسه بكل متعة تطلبها هذا الكلام غير صحيح إطلاقاً، والله الموفق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، (4/ 2272)، برقم: (2956).
  2. أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، (4/ 118)، برقم: (3244)، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، (4/ 2174)، برقم: (2824). بلفظ: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

مواد ذات صلة