الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
حديث «فإن الله قد حرم على النار..» (2-2)
تاريخ النشر: ٠٢ / ذو القعدة / ١٤٢٨
التحميل: 1466
مرات الإستماع: 6034

تابع حديث عتبان بن مالك

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فكنا نتحدث عن حديث عتبان بن مالك ، لما دعا النبيَّ ﷺ إلى بيته ليصلي له في مكان من بيته، ليتخذه موضعاً يصلي فيه، الشاهد: يقول كما ذكرنا سابقاً: "فسمع أهل الدار" أي: أهل الناحية، أهل الحي، "أن رسول الله ﷺ في بيتي، فثاب رجال منهم حتى كثر الرجال في البيت"، ثاب: يعني جاءوا واجتمعوا إلى عتبان أو إلى بيته، فقال رجل: "ما فعل مالكٌ؟ لا أراه!"، ويقصد بمالك هنا مالك بن الدُّخيشن.

وبعضهم ضبطه بمالك بن الدُّخشن، فهذا الرجل يسأل عنه، يقول: "ما فعل مالكٌ؟ لا أراه!"، يقول: أين هو؟، لماذا لم يأتِ مع هؤلاء الذين فرحوا بمجيء رسول الله ﷺ فثابوا إلى الدار؟، يعني كأنه يقول: هل الأمر بالنسبة إليه لا يحرك ساكناً؟، هل هذا الحدث لا يشده ولا يدعوه إلى الحضور والمجيء مع الناس؟، "ما فعل مالكٌ؟ لا أراه!"، ومالك هو من أهل بدر، ممن شهد بدراً، "فقال رجل: ذلك منافق، لا يحب الله ورسوله"، وأهل بدر لم يكن فيهم منافق، وهم أفضل أصحاب النبي ﷺ.

أفضل أصحاب النبي ﷺ الأربعة الخلفاء، ثم بقية العشرة، ثم أهل بدر، ثم أهل بيعة الرضوان، بهذا الترتيب، فهذا رجل شهد بدراً.

وعندما كان النبي ﷺ يتهيأ للخروج لتبوك دعاه المنافقون أن يصلي لهم في مسجدهم  -أي مسجد الضرار، وهو على طريق الخارج من المدينة، في الناحية الشمالية، فوعدهم النبي ﷺ أنه إذا رجع يصلي لهم فيه، ولما رجع النبي ﷺ من غزوة تبوك جاءه الوحي ينهاه عن الصلاة فيه، وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ ... [التوبة:107]، إلى أن قال الله لنبيه ﷺ: لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا... [التوبة: 108]، لا تصلِّ لهم، هم يريدون إضفاء شرعية على هذا المصلى الذي قصدوا فيه أمرين:

الأمر الأول: تفريق الجماعة عن النبي ﷺ.

الأمر الثاني: ليكون محلًّا ووكراً لمؤامراتهم، وكان قد ذهب رجل من هؤلاء إلى الروم يدعوهم إلى غزو المدينة، فهؤلاء أرادوا أن يبقوا في الطريق، طريق الداخل إلى المدينة من الناحية الشمالية، وهو الطريق الوحيد، فإذا جاء الروم انضموا إليهم، فالشاهد أن مالكًا هذا هو الذي أرسله النبي ﷺ مع رجل آخر بعد غزوة تبوك، وأحرق مسجد الضرار وهدمه، فهذا يدل على أنه ليس من النفاق في شيء، لكن هذا الرجل ماذا قال؟ قال: "ذلك منافق لا يحب الله ورسوله، فقال رسول الله ﷺ: لا تقل ذلك، ألا تراه قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله تعالى؟"[1]، بهذا القيد يبتغي بذلك وجه الله تعالى، كثير من الناس يرى من آخرين أموراً من الشرك الأكبر، يطوفون بقبر، أو يسجدون له، ويذبحون له، وإذا قيل: هذا شرك بالله ، ومن يفعل هذا فهو مشرك، قيل: كيف تقول: مشركون وهم يقولون: لا إله إلا الله؟ هم نقضوا لا إله إلا الله، وهذا الرجل شهد له النبي ﷺ، ولم يأتِ بناقض، قال: ألا تراه قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله؟، هذه تزكية، والنبي ﷺ لا ينطق عن الهوى، فهذا يدل على أنه لم يكن من المنافقين؛ لأن المنافقين كانوا يقولون: لا إله إلا الله، إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافقون:1]، فهم كلما دخلوا عليه قالوا: نشهد إنك رسول الله، وهم كذبة، هذا زكاه النبي ﷺ، وقال: إنه يبتغي بذلك وجه الله.

حسن الظن والتماس المعاذير

وفي هذا فائدة وهي أن الإنسان لا يستعجل في الحكم على الناس، وإساءة الظن بهم، وإنما ينبغي أن يحسن الظن بإخوانه، وأن يلتمس لهم المعاذير، كما أن على المرء أن لا يضع نفسه موضع تهمة، يعني هذا الرجل قال: ذلك رجل منافق لا يحب الله ورسوله، وجاء في بعض الروايات أنه قال: إن وجهه للمنافقين، هذا يدل على أن الرجل كان يجالسهم، وبينه وبين بعض هؤلاء المنافقين علاقة قوية، أدت إلى إساءة الظن به، فيقال: ينبغي للإنسان أن لا يجعل نفسه في موطن ريبة يشك الناس فيه، وإذا أساء الناس الظن به ينبغي أن لا يلوم إلا نفسه؛ لأنه هو الذي دخل مداخل الريب، وقالوا كما في قصة الحديبية لما بركت القصواء: خلأت القصواءُ، قال: ما خلأت القصواءُ، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل[2]، خلأت يعني: حرنت من طول السفر، وكثرة التعب، الناقة تبرك، لو أُحرقت بالنار لا تقوم، هذا معروف، متى تقوم؟ الله أعلم، بعد أسبوعين، بعد شهر، وإذا جلس صاحبها عندها يأتيها بالعلف وهي باركة، لا تتحرك، ويتلطف بها ويمسح عنها، ويزيل القراد حتى ترضى، ثم بعد ذلك تنبعث قائمة، وقد احترق بعض الإبل، نعرف هذا، لربما يأتون بشيء -أعزكم الله- من التبن اليابس من أجل تخويفها، ويأتون بخشب تحتها، أحياناً يرفعها الرجال، يجتمعون، ولا تقوم، ولربما احترقت بسبب هذا، ووُجد هذا، احترقت تماماً تفحمت ولم تقم، هم يظنون أنها ستنهض وتخاف وتثور وتقوم بسرعة، لكنها لم تقم، فقالوا: حرنت القصواء، خلأت القصواء، يعني انقطعت، قال: ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل، ما قال لهم: لماذا أنتم حكمتم عليها، وأسأتم الظن بها؟ لأنهم شاهدوا شيئاً فحكموا بسبب الظاهر، والنبي ﷺ لمّا قام مع امرأته صفية، وكان معتكفاً المسجد، فمر رجلان من الأنصار فأسرعا، فقال: على رسلكما، إنها صفية، فقالا: سبحان الله يا رسول الله!، يعني هل نظن بك ظنًّا سيئاً؟!، فقال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم[3].

فالإنسان لا يدخل مدخل ريبة، ويطلب من الناس أن يحسنوا الظن به، بل يرفع نفسه ويتنزه عن مواطن الريب، ولا يرى منه الناس إلا ما يجمل وما يحسن، وعلى الناس أن يحسنوا الظن بإخوانهم المسلمين، لا تستعجل في الحكم على الناس فتندم، وقد يكون هذا أقرب إلى الله منك، وأبر قلباً، ولربما يكون هذا الفعل الذي فعله قصد به محض الإحسان، ولربما تكون هناك أمور أنت لا تشعر بها ولا تعلمها، ولو علمتها لعذرته غاية العذر، وهذا يحصل كثيراً، فكم نسمع أحياناً أن فلاناً كذا، وفيه كذا، من أجل تصرف، ولربما يسبب هذا النكير منا ردة فعل عند هذا الإنسان فيرتمي بأحضان من لا يرجون لله وقاراً، ويبتعد عن الخير وأهل الخير، وربما الرجل في موقف معيّن اجتهد، تأول، وقال كلاماً فُهم على غير مقصوده، أو أن هذا الذي أدى إليه اجتهاده، فلربما يأتي الناس ويتناقلون الرسائل بالجوال، انشر فلان الذي كذا وكذا وكذا قال كذا، أو استضاف فلانًا، أو أقام البرنامج الفلاني، أو المؤتمر الفلاني، أو الملتقى الفلاني، انشر وأنْكِر، وتجد هذه الرسائل مثل النار في الهشيم، ثم يبدءون يرسلون، وأحياناً تكون من الوزن الثقيل، تُهم بالنفاق، وتهم أحياناً بالعلمنة، والرجل من الخيّرين، من الصالحين، لكن هكذا ظُن به، وقد رأيت رجلاً من هؤلاء يرأس عددًا من البرامج الشرعية وله دور اجتماعي في منطقته، وفي بيئته، وفي قومه، وفي جماعته، وفي الناس الذين يعيش معهم، ونفع الله به، ورسائل، قرأ عليّ مجموعة من الرسائل، يقول: أكثر من ألف رسالة وصلتني، غاية النكير، وقرأ عليّ بعضها ووجهه يتقلب، ويتمعر، يقول: انظر ماذا يقولون عني، بعد القرآن أصحبت كذا؟، كلمات ما أقدر أقولها، يُتهم بالعلمنة وأنه علماني، وأنه يرتمي بأحضان العلمانيين، وأنه أدار ظهره، وهو ما سوّى شيئًا، فقط موقف واحد قابل فيه بعض الناس الذين كان هؤلاء يتهمونهم، ولما سُئل بيّن أنه ما كان هذا عن قصد، ويقول: أكثر من ألف رسالة، وسمعت بعض هذه الرسائل، قرأها شيء مخزٍ، حتى إنك تخشى على هذا الإنسان أنه يدير ظهره ويبتعد ويكره الخير وأهل الخير، بل أحياناً تأتيك رسالة أنت في جوالك من إنسان تعرفه أو تعرف رقمه، رسالة غريبة غير لائقة أحياناً، تستغرب من هذه الرسالة، لا تستعجل، أحياناً ترسل له علامة استفهام، ثم يتصل يعتذر غاية الاعتذار ويقول لك: هذه الرسالة الأطفال أخذوا يعبثون بالجوال وأنا نائم الظهر، فجلسوا يرسلون لأسماء مخزّنة، ووقعت لك، جاءتك هذه الرسالة، هذا يحصل، تحصل أشياء غريبة، لو أبقيناها على الظاهر هكذا لربما هذا الإنسان لا يُطاق، ويُساء الظن به جدًّا، ثم يتبيّن أن هذه الرسالة ليست منه، وإنما أطفال يعبثون.

فأقول: ينبغي للإنسان أن يتأنى ويتريث ويتمهل، فلا تستعجل في الحكم على أحد، لا تستعجل في اتخاذ موقف من أحد، بل بعض الناس لربما يرسل رسالة لآخر، رسالة كلها كفر، إلى هذا الحد، وقد أرسلتْ لي إحدى النساء رسالة كلها سحر وأسماء شياطين، تقول: هذه جاءتني من صديقتي، طيب سألتِها؟ قالت: سألتُها، قالت: أنا ما أرسلتها، تقول: وهو من جوالها، تبيّن فيما بعد أن تلك الفتاة مسحورة، وأن الذي فيها يتسلط عليها ويرسل من جوالها، تبيّن هذا بصورة لا مجال للشك فيها، وكان يرسل من جوالها رسائل فيها طلاسم وأسماء شياطين، وكُفريات، يرسلها بجوالها، وهي تقول: أنا ما أرسلت شيئًا.

فأقول: هذه قضية مهمة، فالنبي ﷺ قال: لا تقل ذلك، ألا تراه قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله تعالى، وهذا هو الشاهد، ثم قال: "فقال: الله ورسوله أعلم، أما نحن فوالله ما نرى وُده ولا حديثه إلا إلى المنافقين"، طبعاً هو أخطأ بهذا، قد يكون عنده تأويل، قد يكون لم يتبيّن له أن هؤلاء منافقون، قد يرى أن هؤلاء بالغوا مثلاً في اتخاذ موقف منهم، وأنه لا يصل الأمر إلى هذا الحد، قد يكون يقصد دعوة هؤلاء الناس واستصلاحهم، قد يرى أنه ما في داعٍ لمزيد من منابذتهم؛ لئلا يموتوا على ما هم عليه، لعل الله أن يتوب عليهم، يعني يبقى البعض على الأقل له علاقة بهم، فيكون خط رجعة لهم، لعلهم يتوبون، لعلم يرعوون، لا يقاطعهم الجميع، قد يكون الإنسان بهذه الطريقة يفكر، فلا نحكم عليه أنه إنسان بهذه المثابة وبهذا السوء، وهذا يعني أشياء كثيرة لو الإنسان يقف عليها أحياناً لا يمكن لكثير من الناس إلا أن يحكم بالحكم السيء.

أحد الناس الفضلاء من حفظة كتاب الله أخذه شخص وقال: في حفلة في مسجد، نريد أن تَفتتح، وذهب به، يقول: يوم جئت اكتشفت الأشياء التي يرددونها كلها شركيات، عرفت أنني في مكان رافضة، وزوجته نزلت بمكان للنساء آخر، وأخذوه من مكان بعيد، ولا يعرف شيئًا في المكان، وخاف على نفسه، يقول: فجلست متحيراً ماذا أصنع وأنا أسمع هذا الشرك؟، يقول: طلبوا مني أن أقرأ قرآنًا، يقول: وأنا مرتبك، لو رأيناه أو جاءنا أحد وقال: أنا رأيته داخلا عندهم وقارئًا عليهم القرآن، ماذا سيُقال عنه؟ ما ظنكم؟

سنقول: هذا له ستة أوجه، ليس وجهان، يلقى كل ناس بوجه، لكن الرجل هو جاء بنفسه يقول: أنا حصل لي الموقف الفلاني، ما هو التصرف الصحيح عندئذ، يقول: أنا خفت على نفسي واضطررت أن أسكت، ولا استطعت أن أنكر، ولا أن أفعل شيئاً، وهو ليس من أهل هذه البلاد، يقول: أنا غريب، ولا علم لي بهذا، فلاحظ الآن لو بلغك عنه -وأنت تعرفه- أن هذا الرجل شوهد في المكان الفلاني، هل ستثق به، هل ستحسن الظن به؟ لا تحسن الظن، لكن لا تستعجل، اسأله: ما الذي حملك على ما بلغني عنك؟، ثم اسمع منه.

فقال رسول الله ﷺ: فإن الله قد حرم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله يعني: الإخلاص، ومن أهل العلم من قال: حرم على النار يعني: الخلود فيها، لا يخلد فيها، وهذا صحيح، لا يخلد فيها، ومنهم من قال: حرم على النار يعني: النار التي للكافرين، فالنار طبقات، هناك طبقة لعصاة الموحدين، عصاة المؤمنين، فالله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله.

فالنار طبقات، هناك طبقة لعصاة الموحدين، عصاة المؤمنين، فالله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله.

ومن أهل العلم من قال: حرمه على النار لا يخلد فيها، ولكنه يدخلها بقدر أعماله.

ومن أهل العلم من قال: إن لا إله إلا الله والتوحيد إذا كان راسخاً في القلب فإن نور لا إله إلا الله يبدد كل الظلمات، فلا يبقى عنده لا شبهة ولا شهوة تنازع أمر الله ، فيكون مستقيماً على الصراط المستقيم، من كان بهذه المثابة، فهذا يحرم على النار.

أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب المساجد في البيوت (1/ 92)، رقم: (425).
  2. أخرجه البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط (3/ 193)، رقم: (2731).
  3. أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده (4/ 124)، رقم: (3281)، ومسلم، كتاب الآداب، باب بيان أنه يستحب لمن رئي خاليا بامرأة وكانت زوجته أو محرما له أن يقول هذه فلانة ليدفع ظن السوء به (4/ 1712)، رقم: (2175). 

مواد ذات صلة