الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
حديث «ألا أيها الناس فإنما أنا بشر..» ، "ارقبوا محمدًا ﷺ في أهل بيته"
تاريخ النشر: ٠٦ / جمادى الأولى / ١٤٢٨
التحميل: 1832
مرات الإستماع: 9365

أذكركم الله في أهل بيتي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب إكرام أهل بيت رسول الله ﷺ وبيان فضلهم أورد المصنف -رحمه الله-:

حديث يزيد بن حبان قال: انطلقنا أنا وحصين بن سبرة وعمرو بن مسلم إلى زيد بن أرقم فلما جلسنا إليه قال له حصين: لقد لقيت يا زيد خيرا كثيرا، رأيت رسول الله ﷺ وسمعت حديثه، وغزوت معه، وصليت خلفه: لقد لقيت يا زيد خيرا كثيرا، حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله ﷺ قال: يا ابن أخي، والله لقد كبرت سني، وقدم عهدي، ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله ﷺ فما حدثتكم، فاقبلوا، وما لا فلا تكلفونيه، ثم قال: قام رسول الله ﷺ يوما فينا خطيبا بماء يدعى خما بين مكة والمدينة، فحمد الله، وأثنى عليه، ووعظ وذكر، ثم قال: أما بعد، ألا أيها الناس، فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به، فحث على كتاب الله، ورغب فيه، ثم قال: وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي فقال له حصين: ومن أهل بيته يا زيد، أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده، قال: ومن هم؟ قال: هم آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس. قال: كل هؤلاء حرم الصدقة؟ قال: نعم. رواه مسلم.
وفي رواية: ألا وإني تارك فيكم ثقلين: أحدهما كتاب الله وهو حبل الله، من اتبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على ضلالة[1].
ترجمة زيد بن أرقم

زيد بن أرقم من صغار الصحابة، وغزا مع النبي ﷺ سبع عشرة غزوة، ورَوى عنه نحواً من سبعين حديثاً، وكان قد نشأ يتيماً، وكان يخرج مع عبد الله بن رواحة .

وزيد بن أرقم هو من الأنصار من الخزرج، وهؤلاء من التابعين كانوا يغبطون الصحابة على صحبتهم لرسول الله ﷺ، ورؤيتهم له، ولذلك لما قال بعض التابعين للنعمان : طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله ﷺ، فقال: يا ابن أخي لا تقل ذلك، لقد رأيتُنا مع رسول الله ﷺ وإن الرجل يُفتن في دينه، الرجل يكون مؤمناً وأبوه كافراً، ويكون مؤمناً وأمه كافرة[1].

فالشاهد أن الصحابة كانوا يبينون للتابعين أن أناسًا رأوا النبي ﷺ ومع ذلك كبوا على وجوههم في النار، فليس كل من رأى النبي ﷺ فإن هذا يعني أنه ينقاد للإيمان بالضرورة، فكم من أناس رأوه ﷺ وعادوه أشد المعاداة، والموفق من وفقه الله -تبارك وتعالى، فيحمد الإنسان ربه -تبارك وتعالى- على الهداية، وكان بعض هؤلاء التابعين يقولون للصحابة : والله لو رأينا رسول الله ﷺ لما جعلناه يمشي على الأرض، لحملناه على أعناقنا، فهذه أمور كانوا يعزمون عليها وهم صادقون في ذلك، ولكن إذا ابتلي الإنسان فإنه قد لا يصبر، ولهذا لما كان في يوم الخندق، كان النبي ﷺ يقول لأصحابه: من يأتيني بخبر القوم وأضمن له العودة؟ الرجعة، فما يقوم أحد، وفيهم أبو بكر وعمر، ويقول: من يأتيني بخبر القوم وأضمن له الجنة؟، وما يقوم أحد، وفيهم أبو بكر وعمر، ويقول: من يأتيني بخبر القوم ويكون رفيقي في الجنة؟، كل واحد منا حينما يسمع هذا الكلام يقول: لو كنت موجوداً لطرت، لكن كان معهم أبو بكر وعمر ، ففرق بين كون الإنسان يحسن الظن بنفسه، ويتخيل أنه يستطيع أن يفعل أشياء كثيرة جدًّا، وإذا جاءت الحقائق تبيّن له خلاف ذلك.

فأقول: هؤلاء من التابعين كانوا يقولون له: لقد لقيتَ يا زيد خيراً كثيراً، ولا شك أن من لقي النبي ﷺ وآمن به فقد لقي خيراً كثيراً، يقولون: رأيتَ رسول الله ﷺ، وهذا شرف تحصل به الصحبة؛ لأن الصحابي على الراجح في ضابطه أنه من لقي النبي ﷺ مؤمناً به، ولو لحظة، فهذا هو الصحابي، ولذلك قد يكون مكفوف البصر، ما يراه، ولهذا يقولون: من لقي النبي ﷺ، ولهذا فإن شرف الصحبة لا يدانيه شرف، مهما عمل العاملون بعد الصحابة فإنهم لا يبلغون هذا الشرف، فإنه قد فات، لا يمكن لأحد أن يدركهم فيه، مع تفاوت الصحابة .

رأيتَ رسول الله ﷺ وسمعتَ حديثه، وهذا فوق مجرد الرؤية أو المقابلة، قد يلقاه الإنسان ولا يسمع حديثه.

قال: وغزوتَ معه، وليست غزوة واحدة، وإنما سبع عشرة غزوة، ولا شك أن غزوة واحدة لا يعدلها شيء من نفقات الدنيا لو أنفقناها اليوم، ولهذا كان النبي ﷺ يقول: لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مُد أحدهم ولا نصيفه[2].

يقول: لقد لقيتَ يا زيد خيراً كثيراً، حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله ﷺ، قال: يا ابن أخي -وهذه كلمة يقولها الإنسان تلطفاً- لقد كبرت، أو كبرت سني، وقدم عهدي، ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله ﷺ، جاوز الثمانين، وكان الصحابة يتحرجون من التحديث عن رسول الله ﷺ، بعضهم كان إذا أراد أن يحدث يصفر وجهه، وإذا ذكر الحديث قال: أو كما قال النبي ﷺ، أو نحو هذا، من شدة التحرز، وكان عمر ، يقول للصحابة: أقلوا الحديث عن رسول الله ﷺ وأنا شريككم، وكان يعاتب على كثرة التحديث عن رسول الله ﷺ، ولهذا لما جاءه أبو موسى الأشعري واستأذن عليه، فطرق الباب، وقال: هذا أبو موسى، فما أجابه عمر، ثم استأذن ثانية، وقال: هذا الأشعري، فما أجابه عمر، ثم استأذن الثالثة، ثم انصرف، فأرسل إليه عمر، فرُد إليه، فقال: ما منعك؟ فقال: استأذنت ثلاثاً وسمعت النبي ﷺ يقول: إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع، فقال عمر: لتأتين عليه بالبينة أو لأفعلن بك وأفعلن، فجاء أبو موسى الأشعري يرتعد، وعمر كان مهيباً، كان إذا مشى ومعه الصحابة هو يسرع المشية، مشيته قوية، فكان إذا التفت جثوا على الركب من الخوف والهيبة، الشاهد أن أبا موسى جاء إلى مجلس من الأنصار وهو مضطرب وخائف، قالوا: ما بك؟ فقال: أنشدكم الله من سمع رسول الله ﷺ يقول كذا وكذا وكذا؟، فقالوا: كلنا سمعه، والله لا يقوم معك إلا أصغرنا، فقاموا معه وشهدوا بذلك، فقال عمر: أما إني لم أتهمك ولكن أردت، يعني ذكر أنه يريد أن يحتاط الناس في التحديث عن النبي ﷺ[3].

فهذا زيد بن أرقم كان يحتاط، وكانوا يتوثقون، ويدققون في العبارة، وكلامُهم وما نقل عنهم في ضبط ذلك عجب عجاب، لم يحصل لأمة قط، ولهذا من لم يعرف هذه الأمور يقع منه من ألوان الجرأة شيء عجيب، يعني: من الناس من يقال له: هذا الحديث أخرجه البخاري، قال: وإذا أخرجه البخاري، يمكن أن يكون مدسوسًا، هذا تحتاج أن تشرح له شرحاً طويلاً حتى تصل معه كيف يفهم الجهود التي بذلت في ضبط السنة، وأنه ما يمكن أن يضيع لفظ، حتى يعرف ماذا يعني أخرجه البخاري، وبعض الناس يسمع حديثاً لا يصل إليه عقله، المرأة لها نصف الميراث، أو أن الذباب إذا سقط في إناء أحدكم أنه يغمس وكذا، يقول: لا، لا، تقول له: هذا الحديث مخرج في البخاري، يقول لك: وإذا مخرج في البخاري.

فالحاصل أن الصحابة كانوا يتحرزون.

يقول : فما حدثتكم فاقبلوا وما لا فلا تُكلفونيه.

ثم قال: قام رسول الله ﷺ خطيباً بماء يدعى خُمًّا، وخُم هو: عبارة عن ماء يخرج من عين يصل إلى مكان سُمي بهذا الماء، كما يقال: بدر بالنسبة للبئر التي وجدت يقال لها: بئر بدر، فسمي المكان كله ببدر، فهذا الماء يقال له: خُم، وهو قريب من الجُحفة، بين مكة والمدينة، عن الجحفة نحو ثلاثة أميال.

فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذّكر ثم قال: أما بعد: ألا أيها الناس... طبعاً هذه ليست خطبة جمعة، إنما هي كلمة ألقاها النبي ﷺ لهم؛ لأنه لم يكن النبي ﷺ يصلي بأصحابه الجمعة إذا خرج من المدينة، ولهذا فإن المسافر لا يشرع له إقامة الجمعة، نعم لو مر ببلد وأراد أن يصلي معهم، لكن لو أن المسافرين قالوا: نجتمع الآن نتوقف نريد أن نصلي الجمعة، أو هم مسافرون في سفينة فقالوا: نصلي الجمعة، أو ذاهبون إلى البرّية مجموعة كبيرة من الناس فقالوا: سنصلي الجمعة، فإن هذا العمل على خلاف السنة، يصلون ظهراً هذه هي السنة.

قال: أما بعدوهذه كلمة تقال لفصل الكلام، أما بعد: ألا أيها الناس وألا هذه للتنبيه فإنما أنا بشرٌ يوشك أن يأتي رسولُ ربي فأجيب يوشك يعني: يقرب، يعني الأجل، إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ [الزمر:30]، وأنا تارك فيكم ثَقَلين ثَقَلين مفرده ثَقَل ويقال للشيء العظيم، وبعض أهل العلم يقول: لثِقَل التبعة من أجل القيام بحقهما، فالشاهد أن الثَّقَلين هنا قال: أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به، هذا الثَّقَل الأول، والله جعل هذا القرآن هدى للناس، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9].

قال: واستمسكوا به، فحث على كتاب الله ورغّب فيه، ثم قال: وأهل بيتي، أهل بيت النبي ﷺ هم أعلم الناس بأحواله، يخالطونه في داخل بيته، ويعرفون منه من الأمور الخاصة ما لا يعرفه عامة الناس، أُذَكِّركم الله في أهل بيتي فقال له حصين، هذا التابعي يسأل زيد بن أرقم قال: ومن أهل بيته يا زيد؟، أليس نساؤه من أهل بيته؟ نحن ذكرنا لكم بالأمس أن أهل البيت يطلق بإطلاقات متعددة، إطلاق ضيق جدًّا وهم أصحاب الكساء، لما النبي ﷺ جاء بكساء أسود من شعر، فجاءت فاطمة فأدخلها فيه، ثم جاء عليٌّ فأدخله فيه، ثم جاء الحسن والحسين فأدخلهما فيه، فقال: هؤلاء أهل بيتي قرأ الآية التي من سورة الأحزاب إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب:33][4]. فهذا أضيق إطلاق.

الإطلاق الذي أوسع منه يدخل معه النساء، والآيات التي في الأحزاب كلها في نسائه، فهن من أهل بيته، والإطلاق الذي هو أوسع من هذا بنو هاشم وبنو عبد المطلب، كذلك ما ذكره أهل العلم من أهل البيوت الأربعة آل عباس وآل جعفر وآل علي وآل عقيل، هؤلاء الأربعة الذين منعوا من الزكاة.

الشاهد أنه هنا قال: أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حُرم الصدقة بعده.

هو ما أنكر هنا أن نساءه من أهل بيته، لكن قال: المقصود بأهل البيت -يعني: بإطلاق أضيق- من حُرم الصدقة بعده، وليس أزواج النبي ﷺ كذلك.

من أهل العلم من يحاولون أن يجمعوا بين هذا، وهل هو متناقض؟، ما في أي تناقض، يقول: نساؤه من أهل بيته، يعني: بأحد الإطلاقات، ولكن المقصود هنا كما قال: ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده، قال: ومن هم؟ قال: آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس، قال: كل هؤلاء حُرم الصدقة؟، قال: نعم.

وفي رواية: ألا وإني تارك فيكم ثَقَلين أحدهما كتاب الله وهو حبل الله الحبل: هو الشيء الذي يتوصل به إلى غيره، فحبل الله هو الذي يتوصل به إلى جنته ومرضاته ودار كرامته، قال: وهو حبل الله من اتبعه كان على الهدى ومن تركه كان على ضلالة[5].

ارقُبُوا محمداً ﷺ في أهل بيته

وجاء بحديث بعده حديث ابن عمر عن أبي بكر الصديق موقوفاً عليه أنه قال: "ارقُبُوا محمداً ﷺ في أهل بيته"[6]. رواه البخاري.

ومعنى ارقبوه: راعوه واحترموه وأكرموه في أهل بيته، يعني: بإكرامهم وتعظيمهم وإجلالهم، وتقديرهم، ومعرفة أقدارهم، ومحبتهم.

هذا، وأسأل الله أن يحشرنا وإياكم تحت لواء نبينا محمد ﷺ، وأن يسقينا شربة من حوضه لا نظمأ بعدها أبداً، وأن يجعلنا وإياكم من أتباعه حقًّا، ومن أوليائه، وأن يرزقنا شفاعته، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين، وأن يصلح أحوالنا وأحوال إخواننا المسلمين في كل مكان، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه أحمد في مسنده (39/ 230)، برقم: (23810)، وابن حبان في صحيحه، كتاب التاريخ، باب ذكر تفريق المصطفى ﷺ بين الحق والباطل بالرسالة، (14/ 489)، برقم: (6552)، والطبراني في المعجم الكبير(20/ 253)، برقم: (600)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (6/ 779)، برقم: (2823).
  2. أخرجه البخاري، كتاب أصحاب النبي ﷺ، باب قول النبي ﷺ: لو كنت متخذًا خليلا، (5/ 8)، برقم: (3673)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب تحريم سب الصحابة (4/ 1967)، برقم: (2540).
  3. أخرجه البخاري، كتاب الاستئذان، باب التسليم والاستئذان ثلاثا، (8/ 54)، برقم: (6245)، ومسلم، كتاب الآداب، باب الاستئذان، (3/ 1694)، برقم: (2153).
  4. أخرجه مسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب فضائل أهل بيت النبي ﷺ (4/ 1883)، رقم: (2424).
  5. أخرجه مسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل علي بن أبي طالب (4/ 1874)، برقم: (2408).
  6. أخرجه البخاري، كتاب أصحاب النبي ﷺ، باب مناقب قرابة رسول الله ﷺ، ومنقبة فاطمة -عليها السلام- بنت النبي ﷺ، (5/ 20)، برقم: (3713).

مواد ذات صلة