الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
حديث «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟»
تاريخ النشر: ١٢ / ربيع الآخر / ١٤٢٨
التحميل: 1658
مرات الإستماع: 7454

ألا أنبئكم بأكبر الكبائر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب "تحريم العقوق وقطيعة الرحم" أورد المصنف -رحمه الله-:

حديث أبي بَكرة نُفيع بن الحارث قال: قال رسول الله ﷺ: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ثلاثاً، يعني قالها ثلاث مرات، قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين ، وكان متكئا فجلس، فقال: ألا وقول الزور وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت[1].

ألا أنبئكم يعني: ألا أخبركم، والنبأ لا يقال عادة إلا في الخبر الذي له أهمية وشأن، وأما الخبر الذي لا قيمة له فإن العرب لا تسميه نبأً، فلا تقول العرب: جاءنا نبأ عن حمار الحجام، وإنما يقولون: جاء نبأ الجيش، وجاء نبأ الأمير والحرب، وما شابه ذلك، فهنا ألا أنبئكم هذا أمر يستدعي الانتباه، وهو أمر في غاية الأهمية؛ لأنه يتصل بأكبر الكبائر، والذنوب التي يُعصى الله -تبارك وتعالى- فيها ليست على مرتبة واحدة، منها ما يكون من قبيل اللمم، على المشهور من تفسير اللمم بأنه الصغائر، ومنها ما يكون فوق ذلك، ومنها ما يكون من الكبائر، ومنها ما يكون من أكبر الكبائر، يعني حتى الكبائر ليست على مرتبة واحدة، ولهذا قال النبي ﷺ: اجتنبوا السبع الموبقات[2]؛ لأنها توبق صاحبها، أي: أنها تهلكه، فهذه سبعة ذنوب من أكبر الذنوب، ومن أعظم الكبائر، فالكبائر تتفاوت، وكذلك الصغائر تتفاوت، وقد تَضْمُر الكبيرة بأمور تحتفّ بها، كأن يقوم في قلب الإنسان من الخوف من الله ، والحياء منه، وما أشبه هذا مما تصغر معه الكبيرة، وقد تكبر الصغيرة إذا وجد معها من الاستخفاف والاستهتار والفرح بها، والبجاحة، فإن هذا يصيرها عظيمة، وهكذا أيضاً الإصرار على الصغيرة، فإن الإصرار على الصغائر يصيرها كبائر، وضابط الكبيرة اختلف فيه أهل العلم اختلافاً كثيراً، ومن أحسن ما قيل في ذلك: إنه ما ورد فيه وعيد خاص في الآخرة بالنار، أو رتب عليه لعن، أو رتب عليه إقامة حد، أو جاء وصفه بأنه عظيم، أو أنه جريمة، أو أنه كبير، أو نحو ذلك، كما قال الله : وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا [الإسراء:31]، والخِطأ الفرق بينه وبين الخَطأ عند جماعة من أهل العلم أن الخِطأ هو: الخَطأ المقصود المتعمد، والخَطأ: ما وقع من المخالفة من غير قصد ولا عمد، إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا، فهنا دل على أن ذلك من الكبائر، وهكذا حينما يقول الله عن شيء بأنه: كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا [الأحزاب:53] مثلاً، وحينما يقول مثلاً: إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا  [النساء:22]، وهو نكاح زوجات الآباء، وكذلك أيضاً الزنا، وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [الإسراء:32]، إلى غير ذلك من الأوصاف التي يذكرها الله لبعض الذنوب والجرائم، فهذا كله يجعلها في عداد الكبائر، وهكذا ما رتُب عليه حد مثل الردة عن الإسلام، ومثل السرقة، ومثل الزنا، ومثل شرب الخمر، وما أشبه ذلك، وهكذا ما كان في مستواها أو ما هو أعظم منها وإن لم يرد في خصوصه عقوبة معينة، يعني هناك أشياء أعظم منها، يعني مثلاً الذي يشرب الخمر يجلد، والذي يروج المخدرات ولم يشرب الخمر -هو لا يشربها، مروج المخدرات هذا أعظم من شارب الخمر، لاحظتم؟ فيكون هذا من الكبائر، الذي يسب الله ، الذي يسب الرسول ﷺ، هذا من أعظم الجرائم ومن أكبر الكبائر.

وقوله ﷺ هنا: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟، "أكبر" هذه يسمونها أفعل التفضيل، تقول: فلان أعلم من فلان، فهذه تدل على أن اثنين اشتركا في صفة وزاد أحدهما على الآخر فيها، فلان أعلم من فلان، فلان أشجع من فلان، فلان أكرم من فلان، فحينما يرد في موضع من المواضع أن هذا أكبر الكبائر، وفي موضع آخر أن هذا أكبر الكبائر، أو في موضع واحد يَذكر عدداً من القضايا وكلها يقول فيها: إنها أكبر الكبائر، هل هذا يعني أن الذي بلغ المستوى الأعلى يمكن أن يشترك معه غيره في هذا المستوى؟ الصحيح: نعم؛ لأن القاعدة في هذا: أن أفعل التفضيل لا تمنع من التساوي، وإنما تمنع أن يزيد أحدهم على الآخر، وهذا جواب مذكور نذكره في التفسير، في مثل قوله -تبارك وتعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ [هود:18] يعني: لا أحد أظلم، مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا [الكهف:57]، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا [البقرة:114]، لا أحد أظلم من هذا، ولا أحد أظلم من هذا، إذاً كلهم قد بلغوا في الظلم غايته، هذا المعنى، فهنا "أكبر الكبائر" ما ذكر واحدة هي الأكبر، لا، ذكر مجموعة، فهذه الأشياء قد بلغت الأعلى، بلغت الغاية في كبرها وشدتها وشناعتها، وإن كانت هي في نفسها أيضاً تتفاوت، فالشرك بالله من أكبر الكبائر، وهو أعظم مما بعده؛ لأن الله يغفر كل ذنب بمشيئته إلا الشرك فإنه لا يغفر إلا بالتوبة منه، إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، فما دون ذلك يدخل فيه عقوق الوالدين، ويدخل فيه الزنا، ويدخل فيه شرب الخمر، وكل هذه الأشياء، قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، فهذا أعظم ذنب، أن تصرف العبادة في غير من خلق، الله هو المتفضل المنعم، ثم بعد ذلك يصرف الشكر والعبادة إلى غيره، هذا من أعظم الإجرام وأشد المنكرات، وأظلم الظلم، كما قال الله : إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، قال: وعقوق الوالدين، وعرفنا معنى العقوق، وهو فعل ما يتأذى به الوالدان، وذلك على مراتب متعددة ليس على مرتبة واحدة، وعقوق الوالدين فهو من أكبر الكبائر، فالله ذكره بعد الإشراك، وفي البر قال الله : وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23]، فجعل حقهما بعد حقه، وفي العقوق ذكر عقوقهما بعد الإشراك الذي هو أعظم جُرم يمكن أن يقترفه الإنسان، فهذه القضية لا نتساهل فيها، يقع فيها أكثر الخلق، بل لربما تجد الرجل فيه خير ودين وصلاح ومع ذلك هو عاق، وأحياناً لا يشعر أنه عاق.

"وكان متكئاً فجلس"، غيّر جلسته ليتحدث عن قضية في غاية الأهمية فقال: ألا وقول الزور، وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت"، متفق عليه، يعني شفقةً عليه ﷺ.

وذلك ليبيّن خطر هذا الأمر الذي لربما يتساهل فيه كثير من الناس إما برغبة أو رهبة، يعني حرجاً من فلان فيشهد له زوراً، أو يقول زوراً، أو رغبة؛ ولذلك قد تجد بعض من لا خلاق له يقف عند باب المحكمة ليشهد لمن شاء بدريهمات يسيرة، فهذه شهادة زور، والزور هو أشد الكذب، يقال له: زور، فهذا من أعظم الذنوب، وقول الزور أوسع من شهادة الزور، الشهادة معروفة، وأما قول الزور فيشمل قول الباطل في أحد لا يستحقه، كالقذف للمحصنات ونحو ذلك، ويشمل أيضاً المقالة التي يذكر فيها أحدًا بما لا يستحق، فهذا من قول الزور؛ ولهذا قال الله عن الظهار قال: وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا [المجادلة:2]، عن المظاهرين، الذي يقول لامرأته: أنتِ عليّ كظهر أمي، مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ باعتبار أن هذه الجملة الخبرية: أنت علي كظهر أمي تتضمن إنشاء حكم، أنه يحرمها، فهذا حكم منكر؛ لأن الله لم يحرم ذلك عليه، وذلك الخبر قوله: أنت علي كظهر أمي خبر وهو خبر كاذب، بل كذبه ظاهر؛ ولهذا كان من قبيل الزور، وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا، فسمى قولهم في الظهار زورًا.

فنسأل الله أن يرزقنا وإياكم حسن الأخلاق، ويرزقنا وإياكم البر والصلة، وأن يرحمنا برحمته، ويغفر لنا ولوالدينا، ولمن له حق علينا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. رواه البخاري، كتاب الشهادات، باب ما قيل في شهادة الزور، برقم (2654)، وبرقم (5976)، كتاب الأدب، باب عقوق الوالدين من الكبائر، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها، برقم (87).
  2. رواه البخاري، كتاب الوصايا، باب قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْمًا، إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10]، برقم (2766)، وبرقم (6857)، كتاب الحدود، باب رمي المحصنات، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها، برقم (89).

مواد ذات صلة