الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
حديث «لا يفرك مؤمن مؤمنة..»
تاريخ النشر: ٢٦ / ذو الحجة / ١٤٢٧
التحميل: 1830
مرات الإستماع: 3356

لا يَفرَكْ مؤمن مؤمنة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فمما أورد المصنف -رحمه الله- في باب الوصية بالنساء:
حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: لا يَفرَكْ مؤمن مؤمنة، إن كره منها خُلقًا رضي منها آخر أو قال: غيره[1] رواه مسلم.

قوله ﷺ: "لا يفرك" يعني: لا يبغض، يقال: فركت المرأةُ زوجها يعني: أبغضته، فهذا فهم منه بعض أهل العلم وحملوه على أنه من قبيل الخبر، كالقاضي عياض -رحمه الله، قال: هذا خبر، بمعنى أنه لا يقع من المؤمن البغض الكامل للمرأة -يعني لزوجته- من كل وجه، وإنما إذا أبغضها فإنه يبغضها من وجه دون وجه، قالوا: هذا بالنسبة للرجال، بخلاف النساء، فإنها قد تبغض زوجها بغضاً مطبقاً.

والذي عليه عامة أهل العلم وهو الأقرب أن هذا من باب النهي، وليس من باب الخبر، والواقع أنه يوجد من الرجال من يبغض امرأته من كل وجه، لا يرى فيها إلا المذام والمعايب، فهذا هو الواقع، ولا يمكن أن النبي ﷺ يخبر عن الواقع وإنما هو نهيٌ، ينهى النبي ﷺ المسلم أن يبغض امرأته، ويقصيها.

فهذا الحديث أصل في نظر الرجل لامرأته، وتستفيد منه المرأة أيضاً في نظرها للرجل، في العلاقة بين الزوجين، فالكثير من الناس مما نسمع من مشاكلهم، وقضاياهم وما يقع بينهم من طلاق، أحياناً الرجل يتصور أوصافاً معينة مثالية عن المرأة، لاسيما أولئك الذين يطلبون الجمال، وقد اعتادوا على النظر إلى النساء عن طريق القنوات، فهو ينظر إلى هذه المذيعة في غاية التهيؤ والجمال والتزين، فيعجب بمنطقها وبشكلها، وبلباسها، وهكذا ينظر إلى الممثلات وغيرهن ممن يستعرضن أمام أنظار الملايين، فإذا تزوج بامرأة غير التي في مخيلته لأنه ليس في مخيلته إلا تلك الصور التي شاهدها، فهو يظن أنه سيظفر بامرأة على الدوام في كل أحوالها كتلك التي علقت في ذهنه.

هذه الممثلة وهذه المذيعة كم كانت تتزين قبل أن تخرج هذه الساعة؟، أما امرأته فهي مسكينة يراها وهي مستيقظة من النوم، ويراها وهي مريضة، ويراها وهي تغالب النوم، ويراها وهي مرهقة متعبة من أعباء العمل، أو ضجرة من الأولاد، فلربما نفرت منها نفسه، ووقع في وهمه أنه لم يحصل مطلوبه من هذا النكاح، ولربما كان قد بذل الكثير من المهر، والتكاليف للزواج، ثم بعد ذلك يريد أن تكون كاملة مكملة من كل وجه، وهذا لا يمكن.

لا يمكن للرجل أن يكون كاملاً وهو أقدر على الكمال من المرأة، ولا يمكن للمرأة أن تكون كاملة ولو حاولت، الرجل عنده من القُدر والإمكانات ما ليس عند المرأة، وأعطاه الله من الصبر والتحمل والعقل ما لم يعطه للمرأة، ومع ذلك فيه من النواقص ما قد تكون المرأة أكمل منه، كم من رجل زوجته أكمل وأعقل وأفضل منه بمراحل، وهذا موجود، والموفق من وفقه الله ، فأقول: مهما حاول الرجل أن يكمل نفسه لابد من ثغرات ونواقص، قد يعرفها وقد لا يعرفها، فالإنسان في كثير من الأحيان قد لا يعرف عيوبه، بل من الناس من لو عُرف بعيوبه لأنكرها وجحدها وقال: أنا؟ أبداً، لست كذلك، أنتم ما فهمتموني أصلاً، أما أن يقر بنعم ويقول: أنا المقصر، أنا المذنب، أنا أحتاج إلى تكميل فهذا قليل.

فالشاهد أنه إذا كان الرجل بهذه المثابة فالمرأة من باب أولى، مسكينة، ضعيفة، تحمل وإذا حصل لها الحمل حصل لها ضمور في المخ، لا تستطيع التركيز، تتشتت وتنسى وتضيع، وتبقى في حالة الحيض متوترة، والرجل لابد أن يقدر هذا، ولذلك أولئك الذين يطلقون أبصارهم في النظر إلى القنوات والصور الفاتنات على أغفلة المجلات يتعبون كثيراً، فهم يجنون على أنفسهم، ولذلك فإن الكثيرين من هؤلاء يتعثر في حياته الزوجية، يشعر أنه ما حصل له مقصوده من الزواج، بينما الذي لا يعرف إلا هذه المرأة هو عفيف البصر، عنده أن هذه المرأة ما شاء الله تبارك الله، وإذا حصلت مع هذا التقوى فهذا هو الكمال، لأن هذا الإنسان ينبغي له أن ينظر بنظر متكامل، من الناس من ينظر إلى العيوب لاسيما إذا نفر وانقبضت نفسه، ينظر إلى العيوب والزلات والعثرات، والتقصير فلا يرى في هذه المرأة إلا العيوب، كم من رجل أراد أن يطلق امرأته ويصفها بأبشع الأوصاف، فنسأله أحياناً أليس فيها أي وصف طيب؟، فيقول: إلا فيها، ما يتمحض للشر إلا الشيطان، فنقول له: عدد لنا هذه الأوصاف الطيبة التي فيها، فيبدأ يعدد أشياء كثيرة، وما هي الأوصاف السيئة التي فيها؟، أحيانا تكتشف أنها قضية واحدة في نظره، هو أنها في لونها مثلاً كذا، أي: الأمر يتعلق بحسنها وجمالها، أو يتعلق بأمور كهذه قليلة واحدة أو اثنتين، وهذه المحاسن التي عندها كثير، تسأله كيف خُلق المرأة؟ يقول لك: خلقها طيب، أنا ما أظلمها، كيف طاعتها لك؟، قال: تطيعني، طيب أنت حينما أتيت تصف وتتكلم كأنك قد ابتليت بامرأة هي شر محض من كل وجه، لا علاج لها إلا الخلاص منها.

فأقول: هذه من الأمور المهمة، ومن القواعد في العلاقة بين الزوجين التي تؤخذ من الأحاديث النبوية، نحن ذكرنا من قبل قاعدة تتعلق بقوله ﷺ في الحديث السابق: استوصوا بالنساء، فإن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبتَ تقيمه كسرته[2] هي هكذا، فإذا عرف الرجل هذا عاملها بهذا المتقضى، كذلك ما يتعلق هنا، هذه قاعدة ثانية: إذا كرهتَ منها خلقاً فلا تبغضها، لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً رضي منها آخر، فهو يجد فيها عيباً، لكن انظر أيضاً إلى المحاسن والأخلاق الجميلة الفاضلة، قد تكون قليلة الجمال، قد لا يعجبك شكلها، لكن أين هذا من أخلاقها، ودينها وعبادتها وصلاتها، وصلاحها وعفافها وحفظها لفرجها؟، قد تكون المرأة جميلة لكن سيئة الخلق مغرورة، وقد تقع فيما لا يليق من خيانة الزوج ونحو ذلك، فما فائدة الجمال؟، والجمال إنما هو مسحة وقشرة تقشعها الأيام وتزول معها حيناً بعد حين، حتى لا يبقى منها شيء إطلاقاً، يعني: هذه المرأة التي في غاية النضارة والجمال حينما كانت في العشرين من عمرها مثلاً إذا وصلت السبعين والثمانين ستكون في هذا الجمال؟، أبداً، هل تمتد إليها النفوس والأنظار، ويعشقها الناظر إليها؟، فالجمال يذهب، لكن ما الذي يبقى؟، الذي يبقى الأخلاق، ويبقى الخوف من الله ، وكذلك تبقى التربية الصحيحة التي رُبيت عليها هذه المرأة، ولهذا قال النبي ﷺ: فاظفر بذات الدين، تربت يداك[3]، لأن هذا هو الذي يبقى في يدك، أما الباقي فهو سراب زائل، إن كان عندها مال فهذا المال قد يكون سبباً للمشكلات، وتترفع به عليك، وترى أنه لا قوامة لك عليها، ولا هي خاسرة بشيء، وقد تقول لك: إذا ما يعجبك الوضع مع السلامة، أنا لست محتاجة لك بشيء، إذا تريد مالا أعطيتك.

وإذا كانت ذات جمال فتكون مغترة معجبة بهذا الجمال، إلا من رحم الله ، وإذا كانت ذات نسب، تزوجها من أجل النسب، فقد تترفع عليه، ويبقى أسيراً عندها ما يستطيع أن يطلقها ولو أساءت إليه وتعذرت العشرة، لأنها كأنها سيدة له فوقه وأقوى منه، ونسبها يمنعها ويحوطها ويحميها من أن يرفع الزوج رأسه، فيبقى ذليلاً صاغراً، ولذلك الإنسان يبحث عن المرأة المتدينة الصالحة، والأفضل أن تكون في نفس مستواه المعيشي والنسب أيضاً، يراعي هذه الجوانب، بحيث لا يتزوج امرأة تترفع عليه، ثم بعد ذلك يشقى معها، وهذا هو الأوفق والأقرب للعشرة، وتكون طبائعهم متقاربة، لا يكتشف منها كل يوم طبائع وأخلاقًا وعادات أخرى ويقول لها: ما هذا؟، تقول: والله أنتم تربيتكم تختلف عن تربيتنا، أنتم عندكم هذا عيب ونحن عندنا هذا  ليس عيبًا أو بالعكس، ويبقى في إحراج مع أهله، كيف يتقبلون مثل هذه التصرفات وهم يرون أنها إزراء ولا تليق؟، وتبقى المشكلات عالقة، ولذلك أقول: قضية الدين هي التي تبقى، فالجمال مثل الضوء، يذهب ينطفئ هذا النور وتبقى الحرارة والإحراق إذا كانت المرأة سيئة الخلق ضعيفة الدين، ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ [البقرة:17]، ما قال في المنافقين: ذهب الله بنارهم، بل قال: "ذهب الله بنورهم"، فالنور الذي يستضيئون به ذهب وبقيت الحرارة، حرارة النار، كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ، فيذهب الإشراق والإضاءة وتبقى الحرارة والإحراق، فإذا تزوج الإنسان امرأة لمجرد الجمال فإن ذلك لا يغني عنه شيئاً، عما قريب يذهب الجمال، ويبقى يعاني من سوء تربيتها، ومن سوء تصرفها وتعاملها وعدم قيامها بحقه وقلة خوفها من الله وتضييع فرائضه، فما الفائدة من هذا؟.

فهنا هذا الحديث أصل ينبغي أن يُعنى به، إذا رأيت من امرأتك شيئاً تذكر أن عندها محاسن، وأشياء جميلة أخرى لو فكرت فيها لذهب هذا البغض، ولكن الإنسان أحياناً يقرب الشيء البغيض إلى نفسه، حتى يغطي عليه الدنيا، يعني: الآن مثل هذه العلبة من المناديل ما حجمها في هذا المسجد؟، قطعة صغيرة أليس كذلك؟، فهي صغيرة جدًّا كما ترون، تأخذ حجمها الطبيعي، لكن لو جلس إنسان يقربها إلى عنده ويتأمل فيها وينظر إليها ولا ينظر إلى غيرها، ما الذي سيحصل؟، ستحجب أمامه الأفق -الشمس كلها، وهكذا إذا جلس الإنسان ينظر إلى مشكلة معينة أو إلى عيوب معينة في إنسان أو نحو ذلك، تقترب منه، تقترب حتى يصير ما يرى إلا هذه العيوب، وينسى المحاسن، وهذا غلط، فالأصل أن الإنسان ينظر بنظرة طبيعية هذا العيب هذا حجمه، هذا المسجد الكبير الضخم له أبواب وله سقف وله أعمدة، وله نوافذ، وله رفوف للمصاحف وله أشياء كثيرة، فهذه تأخذ حجمها الطبيعي في هذه المساحة الواسعة، لكن حينما نقربها تتضخم، وهذا في المشكلات التي ننظر إليها، أحياناً الإنسان قد ينتحر بسبب مشكلة تافهة في نظرنا، لكن هو قربها جدًّا حتى أظلمت الدنيا في عينه، هذا في المعاملات الزوجية، حتى الأولاد وتربية الأولاد، قد يكون عندهم بعض التقصير وبعض الأخطاء، فيركز الإنسان عليها تماماً وينسى، ولو نظر إليهم إنسان آخر لقال: أولادك هؤلاء من أفضل الموجودين خلقاً وتربية وكذا، عندهم بعض النقص كل إنسان عنده نقص، لكن مقارنة بالساحة، أو الموجودين في هذا الجيل نجد أن أولادك من أفضل هؤلاء الناس، فهكذا ينبغي أن ينظر الإنسان للأمور باعتدال، دون أن يضخم الأخطاء، ودون أن ينظر إذا أحب إلى المحاسن فقط، فأيضاً تطغى وتعميه، إذا أحب ضخم ما يحب، وعظمه وأعطاه أكبر من قدره، فتجده يقول لزوجته: أنت كل شيء في حياتي، وأنا عبد لك، وأنا كذا وأنت أفضل من أمي، فيقول كلامًا لا يصلح أن يقال، لا يناسب المقام، لا تقل: أنت أفضل من أمي، وأحب إلي من أمي وأبي، مهما كانت عزيزة، قل: أنت عزيزة وغالية وكذا، لكن لا تزد في الكلام، ثم بعد ذلك تشعر أنها قد استحوذت على قلبك، وتبدأ تقسّط عليها الكلام الآخر الذي ما هو مناسب من الذم والعيب والتذمر، فمن الناس من إذا أحب بالغ، وإذا أبغض -أعوذ بالله- بالغ، تجده يتكلم عن هذا الشخص في حال الرضا وفي حال الغضب، حينما كان يحبه فهو يذكره على أنه ملَك، بل يقول له: أنت ملَك، كم سمعنا من أناس يقولون مثل هذه العبارات، أنت ملك، ويوم أبغضه جعله شيطاناً مريداً، هذا إنسان مختل المزاج، هذا إنسان لا يساوي شيئًا، إذا رأيت شخصًا إذا أحبك بالغ فاعلم أنه قد ينقلب في يوم من الأيام إلى مبغض مبالغ، وتكون في نظره مثل الشيطان، بل الشيطان من تلامذتك.

نسأل الله العافية، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم، كتاب الرضاع، باب الوصية بالنساء، (2/ 1091)، برقم: (1469).
  2. أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب خلق آدم وذريته، (4/ 133)، برقم: (3331)، ومسلم، كتاب الرضاع، باب الوصية بالنساء، (2/ 1091)، برقم: (1468).
  3. أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب الأكفاء في الدين، (7/ 8)، برقم: (5090)، ومسلم، كتاب الرضاع، باب استحباب نكاح ذات الدين، (2/ 1086)، برقم: (1466).

مواد ذات صلة