الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
حديث «إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها..»
تاريخ النشر: ٢٣ / شعبان / ١٤٢٧
التحميل: 1586
مرات الإستماع: 6812

إن هذه القبور مملوءة ظلمة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب فضل ضعفة المسلمين أورد المصنف -رحمه الله-حديث أبي هريرة : أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد، أو شابا، ففقدها، أو فقده رسول الله ﷺ فسأل عنها، أو عنه، فقالوا: مات. قال: أفلا كنتم آذنتموني» فكأنهم صغروا أمرها، أو أمره، فقال: دلوني على قبره فدلوه فصلى عليها، ثم قال: إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله تعالى ينورها لهم بصلاتي عليهم[1].

يعني: أنه شك من الراوي، وقد جاء هذا في بعض الروايات أن الذي كان يقم المسجد كان من الرجال، وفي بعضها أنه امرأة، وهذا هو المشهور.

"أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد"، أي: تقوم بقمه، أي: تنظيفه، وفي بعض الروايات أنها مولعة بلقط الأذى والقذى من المسجد.

"ففقدها -أو فقده- رسول الله ﷺ، فسأل عنها -أو عنه، فقالوا: مات"، وهذا يدل على أن النبي ﷺ كان يتفقد الجميع، حتى الضعفاء الذين لا شأن لهم في نظر الكثيرين، إنسان يقم المسجد، ليس قائد جيش، وليس أميراً، أو رئيس قبيلة، أو نحو ذلك، كان يقم المسجد، أو امرأة كانت تقم المسجد.

فكان يتفقد أصحابه ، ففقد هذا أو هذه المرأة فسأل عنها، أو عنه، فقالوا: مات، قال: أفلا كنتم آذنتموني به؟، يعني: أعلمتموني بموته، فكأنهم صغروا أمرها أو أمره، يعني: كأنهم رأوا أن الأمر ما يستدعي إعلام النبي ﷺ لأنه جاء في بعض الروايات أنها ماتت بليل، فرأوا أن الأمر لا يتطلب المشقة على رسول الله ﷺ من أجل أن يأتي بليل إلى المقبرة، ويشهد دفن هذه المرأة، فهي لا شأن لها، يقوم بهذا الأمر طائفة من أصحابه، ويحصل المقصود.

فالحاصل كأنهم صغروا أمرها أو أمره، فقال: دلوني على قبره، يعني: قبر الميت سواء كان امرأة أو رجلا بحسب الروايات، فدلوه عليه.

حكم الدفن ليلاً

ويستفاد من هذا الحديث: جواز الدفن بالليل، وقد جاء النهي عنه عن النبي ﷺ في بعض الأحاديث، ومن أهل العلم من حمل النهي الوارد على اعتبار أنه إذا لم يمكن القيام بحق الميت من تغسيله على الوجه المطلوب، وتكفينه على الوجه المطلوب، ودفنه على الوجه المطلوب، ويوجد في بعض ما ورد عن النبي ﷺ ما يدل على هذا المعنى، أن النهي لهذه العلة، وهذا هو الأقرب -والله تعالى أعلم- بدليل أن هذه دفنت ليلاً، ولم ينكر عليهم النبي ﷺ، وهكذا أيضاً أبو بكر  ورد أنه دُفن في الليل، وورد هذا عن جماعة من الصحابة أنهم دُفنوا بالليل، فهذا يدل -والله أعلم- على أنه يجوز دفن الميت ليلاً إذا تحقق ما ذكرت من إحسان التغسيل، وإحسان الكفن، وإحسان الدفن، وهذه الأمور متيسرة في عصرنا الحاضر بهذه الإمكانات التي منحها الله للناس من الإضاءة، ومن أمور كثيرة جدًّا، بخلاف ما كان عليه الناس في السابق، يقال: فلان دفن في الليل، فقد لا يكون جُهز كما ينبغي، ولا دفن كما ينبغي.

فالحاصل: أن النبي ﷺ قال: دلوني عليه، ثم قال: إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها...

قوله ﷺ: دلوني على قبره لماذا؟ من أجل الصلاة عليه، وهذا يدل على أن الإنسان الذي فاتته الصلاة على الميت يمكن أن يصلي على قبره بعد الدفن، ولا إشكال في هذا، مع أن الصلاة في المقبرة ممنوعة، لكن لهذا المعنى، فيكون ذلك لعذر.

إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله تعالى ينورها لهم بصلاتي عليهم، متفق عليه.

فالنبي ﷺ لم يتركها بل سأل عنها وعاتبهم، وقال: دلوني على قبرها، كل ذلك اهتماماً بهذه المرأة التي كانت تقم المسجد.

وهذا يدل على كمال رحمته ﷺ وشفقته وتواضعه، فإن المتكبر لا يفعل مثل هذا، ولا يسأل عمن لا شأن لهم، ولا مكانة، ولا منزلة، بل يحتقرهم، ولا ينظر إليهم، ولا يسلم عليهم.

الآن آحاد الناس لربما يستصعب أنه يرفع يده يسلم على عامل النظافة الذي يراه في الطريق، أو نحو ذلك، والنبي ﷺ وهو أكمل الأمة وأشرفهم يسأل، ويذهب، ويصلي على هذه المرأة، فلنا به أسوة ﷺ، وهذا كله يرجع إلى هذا المعنى الكبير، وهو أن قدر الإنسان ليس بشكله، وليس بوظيفته، وليس بنسبه وشرفه، وإنما بتقواه لله -تبارك وتعالى، حتى لو كان يقمُّ -يكنس- الشوارع، أو المسجد، أو أنه يشتغل بأشغال ضعيفة لا شأن لها عند الناس، ولا اعتبار بها، فالعبرة بالتقوى، ليست العبرة أين تشتغل، وليست العبرة بمؤهلات الإنسان، والشهادات التي يحملها، وإنما العبرة بما يحمله بين جنبيه من التقوى لله ، والعلم الصحيح النافع، وما إلى ذلك.

فأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب الخدم للمسجد (1/ 99)، رقم: (460)، ومسلم، باب الصلاة على القبر (2/ 659)، رقم: (956).

مواد ذات صلة