الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
تتمة شرح حديث أَبي هريرة رضي اللَّه عنه لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي المَهْدِ إِلاَّ ثَلاثَةٌ
تاريخ النشر: ١١ / رمضان / ١٤٢٧
التحميل: 569
مرات الإستماع: 1731

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فلا زال الكلام عن حديث:

"أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى ابن مريم، وصاحب جريج، وكان جريج رجلاً عابدًا، فاتخذ صومعة فكان فيها، فأتته أمه وهو يصلي فقالت: يا جريج، فقال: يا رب أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته، فانصرفت، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي، فقالت: يا جريج، فقال: أي رب أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي، فقالت: يا جريج فقال: أي رب أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته، فقالت: اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات، فتذاكر بنو إسرائيل جريجًا وعبادته، وكانت امرأة بغي يتمثل بحسنها، فقالت: إن شئتم لأفتننه، فتعرضت له، فلم يلتفت إليها، فأتت راعيًا كان يأوي إلى صومعته، فأمكنته من نفسها، فوقع عليها، فحملت، فلما ولدت قالت: هو من جريج، فأتوه فاستنزلوه وهدموا صومعته، وجعلوا يضربونه، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: زنيت بهذه البغي فولدت منك، قال: أين الصبي؟ فجاءوا به، فقال: دعوني حتى أصلي فصلى، فلما انصرف أتى الصبي فطعن في بطنه، وقال: يا غلام من أبوك؟ قال: فلان الراعي، فأقبلوا على جريج يقبلونه، ويتمسحون به، وقالوا: نبني لك صومعتك من ذهب قال: لا، أعيدوها من طين كما كانت، ففعلوا، وبينا صبي يرضع من أمه، فمر رجل راكب على دابة فارهة، وشارة حسنة، فقالت أمه: اللهم اجعل ابني مثل هذا، فترك الثدي، وأقبل إليه فنظر إليه، فقال: اللهم لا تجعلني مثله، ثم أقبل على ثديه فجعل يرتضع فكأني أنظر إلى رسول الله ﷺ، وهو يحكي ارتضاعه بأصبعه السبابة في فيه، فجعل يمصها، قال: ومروا بجارية وهم يضربونها، ويقولون: زنيت، سرقت، وهي تقول: حسبي الله ونعم الوكيل، فقالت أمه: اللهم لا تجعل ابني مثلها، فترك الرضاع ونظر إليها، فقال: اللهم اجعلني مثلها، فهنالك تراجعا الحديث، فقالت: مر رجل حسن الهيئة فقلت: اللهم اجعل ابني مثله فقلت: اللهم لا تجعلني مثله، ومروا بهذه الأمة وهم يضربونها ويقولون: زنيت سرقت، فقلت: اللهم لا تجعل ابني مثلها، فقلت: اللهم اجعلني مثلها، قال: إن ذلك الرجل كان جبارًا فقلت: اللهم لا تجعلني مثله، وإن هذه يقولون لها: زنيت، ولم تزن، وسرقت، ولم تسرق، فقلت: اللهم اجعلني مثلها متفق عليه"[1].

لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة فظاهر هذا الحديث الحصر في هؤلاء الثلاثة الذين ذكرهم في هذا الحديث: وهم عيسى ، وصاحب جريج، الراهب، والصبي الذي كان يرضع، كما جاء في الحديث: مر رجل حسن الهيئة فقلت: اللهم اجعل ابني مثله فقلت: اللهم لا تجعلني مثله، ومروا بهذه الأمة وهم يضربونها ويقولون: زنيت سرقت، فقلت: اللهم لا تجعل ابني مثلها، فقلت: اللهم اجعلني مثلها، قال: إن ذلك الرجل كان جبارًا فقلت: اللهم لا تجعلني مثله، وإن هذه يقولون لها: زنيت، ولم تزن، وسرقت، ولم تسرق، فقلت: اللهم اجعلني مثلها إلى آخر ما جاء في الحديث، فهؤلاء ثلاثة في هذا الحديث المخرج في الصحيحين، من حديث أبي هريرة .

وفي رواية لهذا الحديث عند الحاكم النيسابوري في المستدرك أنه قال: لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة[2]، وذكر عيسى ، وصاحب جريج، ولم يذكر هذا الذي قالت أمه ما قالت، فتكلم، وهو الثالث، لكنه ذكر اثنين غير هذا، ذكر عيسى ، وصاحب جريج، وذكر شاهد يوسف: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ۝ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ [يوسف:26-27].

فهذا الحديث ذكر ثلاثة، وهذه الرواية عند الحاكم ذكرت أربعة، المكرر اثنان، وزاد اثنان: ابن ماشطة ابنة فرعون، وأيضًا شاهد يوسف، فصار المجموع الآن خمسة، لكن هذه الرواية التي عند الحاكم فيها ضعف في الإسناد، وفيها أيضًا إشكال في المتن؛ لأن الرواية: لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة وذكر أربعة؛ ولهذا تكلم أهل العلم في هذه الرواية -الرواية التي عند الحاكم- من جهة المتن، ومن جهة الإسناد، وقالوا: هذه مخالفة أصلاً لرواية الصحيحين، فكيف تقبل؟

فالمقصود: إذا أخذنا مجموع هؤلاء من هذه الرواية الضعيفة، ومن الرواية التي في الصحيحين صار المجموع خمسة.

وفي صحيح مسلم في قصة أصحاب الأخدود المعروفة في الحديث الطويل، في الغلام والساحر والراهب، وفيه خبر المرأة التي لما أرادت أن تلقي نفسها بالنار، ومعها صبي، فتلكأت وتكلم هذا الصبي، وهو صغير، فقال: يا أمه اصبري، فإنك على الحق[3]، فهذا صغير وتكلم، حديث الباب حديث أبي هريرة لم يذكر هذا، وحديث الأربعة لم يذكر هذا، فصار هذا السادس.

وجاء عند أحمد وغيره عن ابن عباس موقوفًا، من كلام ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: "تكلم أربعة صغار: عيسى ابن مريم ، وصاحب جريج، وشاهد يوسف، وابن ماشطة ابنة فرعون"[4] ولم يقل: في المهد، فذكر شاهد يوسف، وابن ماشطة ابنة فرعون، وعيسى، وصاحب جريج، وهم نفس الذين جاءوا في الرواية التي عند الحاكم، فهذا موقوف من كلام ابن عباس، فالله تعالى أعلم.

وجاء في روايات لا يصح شيء منها، مراسيل، وما أشبه ذلك، وفي رواية لا يصحح أهل العلم ما كان كحالها، إبراهيم أنه تكلم في المهد، ومحمد ﷺ، ويحيى، فهؤلاء ثلاثة من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، وزادوا آخر وليس بنبي، قالوا: مبارك اليمامة، في قصة مسيلمة، والردة التي حصلت في اليمامة، وأنه تكلم هذا، وهو صغير.

فإذا أضفنا إلى الستة إبراهيم، ويحيى، صار عندنا ثمانية، والنبي ﷺ تسعة، ومبارك اليمامة عشرة، فهؤلاء هم الذين جمعهم بعض أهل العلم، كالسيوطي في أبيات، حيث قال:

تكلم في المهد النبي محمد ويحيى وعيسى والخليل ومريمُ
ومبري جريج ثم شاهد يوسف وطفل لدى الأخدود يرويه مسلمُ

ومبري جريج يعني: مبرئه الذي برأه الغلام الصغير.

وطفل عليه مر بالأمة التي يقال لها: تزني ولا تتكلمُ
وماشطة في عهد فرعون طفلها وفي زمن الهادي المبارك يختم[5]

لكن لو نظرنا الآن في هذا الحديث الذي في الصحيحين، هكذا بالحصر: لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة وهنا أوصلهم هؤلاء إلى عشرة، فلو جئنا ننظر في هؤلاء العشرة:

ففي رواية الحاكم، وهي ضعيفة، فيها: شاهد يوسف، وابن ماشطة بنت فرعون.

وشاهد يوسف جاء برواية صحيحة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- موقوفًا عليه: أنه كان رجلاً له لحية[6]، وقد قال بعض أهل العلم: لو كان صغيرًا وقد نطق الطفل لكانت معجزة، فما يحتاج أن يعطيهم علامة، ويقول: إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ۝ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ [يوسف:26-27] فكلامه في المهد يكفي، فدل على أن هذا فيه شيء، وليس هناك ما يدل على أن شاهد يوسف كان صغيرًا في المهد، لكن هذا أحد الأقوال للمفسرين فيه، وإن قال به بعض السلف -رضي الله تعالى عنهم-.

وابن ماشطة فرعون، هذه رواية لا تصح أصلاً.

وأما ما جاء عن أن النبي ﷺ: تكلم في المهد، أو إبراهيم، أو يحيى -عليهم الصلاة والسلام-، فهذا كله لا يصح منه شيء، وهكذا قصة مبارك اليمامة، فإنها لا تثبت.

فصار عندنا الثلاثة فقط، وهم الذين في رواية الصحيحين، بالإضافة إلى قصة الأخدود، وفي قصة الأخدود قال: ومعها صبي[7]، ولم يقل: في المهد، فيمكن أن يكون هذا الصبي ليس في المهد، وأنه تكلم بهذا الكلام، وقال: يا أمه اصبري، فأنت على الحق[8]، يعني: بعد مرحلة المهد قال لها هذا الكلام وثبتها، فيبقى أن الذي يشكل على هذا الحديث -حديث الباب- في الصحيحين: الذين تكلموا في المهد ثلاثة هو قصة الأخدود فقط، وقصة الأخدود قال: معها صبي ولم يقل: "في المهد" فيحتمل أن يكون بعد ذلك.

وهذا الحديث فيه فوائد كثيرة:

منها: إثبات معجزات الأنبياء، وكرامات الأولياء، فإن الله قد يخرق العادة المطردة لحكمة أرادها، وهذا حصل للأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، كالعصا لموسى ، وإذا أدخل يده في جيبه خرجت بيضاء من غير سوء، وهكذا أيضًا في سائر الآيات التسع التي أعطاها الله لموسى ، وقل مثل ذلك فيما جرى لعيسى من إبراء الأكمة، والأبرص، وإحياء الموتى، بإذن الله ، وناقة صالح، وأخبارهم في ذلك معروفة.

وكذلك للنبي ﷺ من انشقاق القمر، وتسبيح الطعام، وتكثير الطعام، وتكثير الماء، ونبع الماء بين أصابعه -عليه الصلاة والسلام-، وحنين الجذع، وأخباره في ذلك معروفة، وألف العلماء في دلائل النبوة كتبًا، والحافظ البيهقي -رحمه الله- له كتاب دلائل النبوة في مجلدات، إلى غير ذلك.

فهذا جريج ليس من الأنبياء، فأظهر الله على يده هذه الآية، وهو حينما حصل له هذا التردد أتته أمه، وجاء في بعض الروايات أن أمه كانت تأتيه بين حين وآخر، فتناديه، فيشرف عليها من صومعته، وأنها جاءت مرة وكان يصلي فدعته فلم يجب كالعادة، ثم جاءت مرة أخرى فدعته، فلم يجب، ثم الثالثة، وأنه حصل له هذا التردد، طبعًا الحكم الشرعي في مثل هذا: أن الرجل إذا دعته أمه وهو يصلي النافلة فإنه يجيبها.

وكذلك من دعاه النبي ﷺ، والنبي ﷺ احتج في هذا، أنه قال: ألم يقل الله: اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24][9]، فاحتج بهذه الآية، مع أن السياق في دعائهم إلى الإيمان، لكن إذا ناداه وقال: يا فلان، فإن ذلك يدخل في هذا العموم، فمن دعاه النبي ﷺ أجابه.

ولكن اختلف العلماء هل تبطل صلاته بهذا أو لا تبطل؟ باعتبار أنه فعل ما أمر به، واختلفوا فيمن دعته أمه في الفريضة، هل يجيب أو لا يجيب؟ لكن في النافلة يجيب بلا إشكال، وهذا يبين منزلة الوالد أنه يجيبه ولو كان في صلاته.

ثم إن دعاء والدة جريج عليه، واستجابة هذا الدعاء قد يفهم منه -والله أعلم- أن الحكم بالنسبة إليهم لم يكن المنع؛ ولهذا وقع عنده التردد: أمي وصلاتي كما سبق في ذكر سياق الحديث، وهذا رجل عابد، وذكر بعض أهل العلم رواية -إن صحت-: لو كان جريج فقيهًا لعلم أن إجابة أمه أولى من عبادة ربه[10]، على كل حال هنا قال: لما دعت عليه، قالت: اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات دعاء الوالد على ولده يستجاب، فينبغي للإنسان ألا يدعو على أولاده.

ولم تدع عليه بدعاء كبير، ما قالت: اللهم خذه، أو دعت ربها أن يبتليه بالفواحش، أو نحو ذلك، وإنما فقط أن يرى وجوه المومسات، وقد ذكرت في ليلة ماضية أن هذه عقوبة، فكيف بمن يأتي ذلك مختارًا، فينظر إلى القنوات وغيرها، فيرى وجوه المومسات، فكيف يجلب لنفسه مثل هذا؟!

ثم أيضًا انظر إلى هؤلاء الشياطين: تذاكر بنو إسرائيل عبادة جريج، فقالت هذه المرأة البغي: إن شئتم لأفتننه، لاحظ يعني ما حصلتها في فتنته؟ وفي بعض الروايات أنهم قالوا: قد شئنا[11]، وهذا يدل على أخلاق بني إسرائيل، وسوء ما كانوا عليه، وما هم فيه من الفساد والإفساد ما تركوا هذا العابد في صومعته، فهناك من يتبرعون بالشر ويكونون رسلاً للشيطان، ويفسدون في الأرض، ولا يصلحون.

ثم إنها لم تكتف بهذا، بل جاءت إلى الراعي، ومكنته من نفسها، ثم اتهمته بذلك؛ وهذا لأن أصحاب الشر لا يدعون من كان على خير واستقامة وطاعة، فإنهم يحاولونه أن يشاركهم؛ لأنهم لا يرضون بحال أن يتطهر أحد، أو يتنزه؛ ولهذا روي عن عثمان : "ودت الزانية أن النساء كلهن يزنين"[12]؛ ولذلك تجد الفجرة يحبون أن يعم الفجور في البلد، فالمرأة المتبرجة تريد أن يكون جميع النساء متبرجات؛ لماذا تكون هي منفردة بالفساد؟ ولماذا ذهب عفافها وطهرها وشرفها وحدها؟ فهي تحب أن يكون ذلك في الجميع، وألا يتميز أحد بطهارة، فهنا ما تركوه، فهم يحاولونه، إن وافقهم وإلا ذكروه بأمور كانت منه سابقًا، فإن وافقهم عيروه بذلك، يعني: يجدون ممسكًا عليه أنه وافقهم بهذا الانحراف.

وانظر إلى ثقة جريج، حيث توضأ وصلى ركعتين، ثم بعد ذلك طعن بأصبعه في بطن هذا الغلام، وقال: من أبوك؟ فاليقين الكامل يمكن أن يحصل معه مثل هذا.

ثم ذكر الخبر الآخر:

مر رجل حسن الهيئة فقلت: اللهم اجعل ابني مثله، فقلت: اللهم لا تجعلني مثله وهذا يحصل كثيرًا، فالأم تحب أن ابنها يكون له شأن في الدنيا، أن يكون له مال كثير ورئاسة، فتجد أنها تمشطه، وهو صغير، وربما ترقصه وتقول: يكون إن شاء الله مثل فلان، ويكون مثل فلان، وربما لا تذكر العلماء والأخيار والصلحاء، وإنما تذكر أهل الدنيا، والمعيار ليس بمثل هذه الشارات والمظاهر والأموال، وإنما بتقوى الله -تبارك وتعالى-.

فأنطق الله هذا الصغير، وترك الثدي وبين المعيار الحقيقي فقال: اللهم لا تجعلني مثله فالمظاهر ليست وحدها تبين عن المقادير الحقيقية للناس، وما هم عليه من الصلاح أو الفساد، وإنما كما قيل:

خذ بنصل السيف واترك غمده واعتبر فضل الفتى دون الحلل[13]

ليست العبرة بالغمد الذي يدخل فيه السيف، وإنما العبرة بالسيف، هل هو ضارب أو لا؟ فقد يكون الإنسان له بزة وهيئة ولباس وشارة حسنة، ولكنه لا يساوي شيئًا، وكما يقول ابن القيم -رحمه الله-:

وَالنَّاس أَكْثَرهم فَأهل ظواهر تبدو لَهُم لَيْسُوا بِأَهْل معَان[14]

وكما قال ﷺ: إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة، لا يزن عند الله جناح بعوضة[15]، وأخبر ﷺ بقوله: يقال للرجل: ما أعقله! وما أظرفه! وما أجلده! وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان[16]، فتجد الرجل أحيانًا يتكلم ويتفلسف في أمور دنيوية، ومعارف مادية، وهو لا يعرف ربه، ولا يعرف يقرأ الفاتحة، ولا يحسن يصلي؛ ولذلك ترى أحيانًا بعض الناس الذين يصلون في المناسبات إذا أحرج ربما صلى من غير طهارة، الله أعلم، تجده يصلي أحيانًا ويتلفت، ومعه أعلى الشهادات، لا يحسن يصلي، ما قيمة هذا، وما قيمة معرفته وعلمه وحذقه، إنسان لا يحسن من ذلك قليلاً ولا كثيرًا، فعبد لله تقي أفضل من ملء الأرض من هذا؛ ولهذا قال الله : يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم:7] فهذا تقليل لعلمه، وتهميش له، وأنه لا يساوي شيئًا؛ لكونه أهل إعراض عن الآخرة، فهم لا يعرفون الله؛ ولذلك تسمع اليوم، وبعض الناس يتكلم، ويرسل رسائل: اليابان عندهم كذا وكذا، وعندهم كذا، ويفعلون كذا، يا أخي هؤلاء ما يعرفون الله، الله ما يعرفونه أصلاً، فضلاً عن أن يعرفوا الطريق الموصل إليه، وتفاصيل الصراط، والدار التي يصلها، هم لا يعرفون الآخرة، ولا يؤمنون بها أصلاً، فهؤلاء أجهل الجاهلين، وأضل الضالين، ما قيمة هذه المعارف الدنيوية التي عرفوها، وضيعوا أصل الحقائق، وأعظم المعارف.

فالحاصل: هذا الغلام الصغير، وهذا الطفل الرضيع يقول: اللهم لا تجعلني مثله وجيء بهذه الأمة التي تضرب وفي بعض الروايات: أنها حبشية تضرب، وهي تقول: حسبي الله ونعم الوكيل، وتتهم، ولا تستطيع أن تدافع عن نفسها، اللهم لا تجعل ابني مثلها هذه في نظر الناس في هيئة لا تحسد عليها، من يريد أن يكون مثل هذه الجارية الأمة المملوكة؟! وقال: اللهم اجعلني مثلها هذاك راكب على فرس، وله هيئة ولباس ومرتبة، وما إلى ذلك لا تجعلني مثله فسألته أمه قالت: مر رجل حسن الهيئة، فقلتُ: اللهم اجعل ابني مثله، فقلتَ: اللهم لا تجعلني مثله، ومروا بهذه الأمة وهم يضربونها، ويقولون: زنيت وسرقت، فقلتُ: اللهم لا تجعل ابني مثلها، فقلت: اللهم اجعلني مثلها، قال: إن ذلك الرجل كان جبارًا وفي بعض الروايات: كافرًا فقلتَ: اللهم لا تجعلني مثله، وإن هذه يقولون لها زنيت، ولم تزن وسرقت ولم تسرق، فقلتُ: اللهم اجعلني مثلها إذًا المعايير -أيها الأحبة-، والمقاييس الحقيقية ليست بعادات الإنسان، ولا بوظيفته، ولا بلباسه، ولا بمقدار الرصيد والملايين أو المليارات التي يملكها، والسيارة الفارهة، والقصر المشيد، فليست العبرة بهذا، هذا عما قليل يلف في خرقة ويدفن في مدفن مع أفقر الخلق، بجوار بعض، لا فرق في المغسلة، ولا في الأدوات، ولا في واسطة، ولا شيء، فكل من جيء به لهذه المقبرة غسل بنفس الطريقة، وبنفس الحنوط، وبنفس الكفن، أفقر واحد في البلد، وأغنى واحد في البلد، فما في واحد يكفن بحرير، ويجمر بالألوة، وآخر يكفن بخيشة، ما في واحد له قبر من عاج، أو من رخام، وآخر يدفن في التراب، لا، فالكل تمامًا سواء، لا فرق، اذهب إلى المقبرة، وانظر إلى القبور، وميز الغني من الفقير، لا تستطيع، هذه هي النهاية، قبر (أبو ألف مليار، وإلا مائة مليار، وإلا ألف ريال وإلا عشرة ريالات) واحد، لكن الكنز الذي معه ما هو؟ هذا ذنوب، وهذا حسنات وأعمال صالحة، هذا التفاضل الحقيقي.

فهذا أفقر الناس، لكنه تقي ويصلي، ويخاف من الله، وليس عليه حقوق للخلق، ولا عليه تبعات، ولا عنده أموال كثيرة يحاسب عليه، ما عنده إلا بضع مئات يأكلها هو وأولاده، ولا يبقى عنده منها شيء، وما في أرصدة، ما عنده حساب، تريد تكون مثله؟ قال: أتمنى، إذا كان حصيلة مثل هذه الذي يتنافس فيها الناس، ويتهافتون عليها، هذه هي النتيجة، فما قيمتها؟

إذًا المعيار -أيها الأحبة- ليس في عرض الدنيا الفاني، وليس في المراتب، وإنما في الحقائق، الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- إمام عالم كبير جبل في العلم، كان يأتي أحيانًا، وربما ما انتبه والثوب مشقوق، فينبه أن يغطيه من ضيوف، ويغطيه بالبشت، وما عنده إلا بشت واحد.

والشيخ عبد الرحمن بن سعدي ما عنده إلا بشت واحد، أقاربه يقولون: ما عرفناه إلا بشت واحد، قديم، وما ضره ذلك، والذي عنده خزائن بشوت، ويا أبو فلان، يا أبو فلان، وصاحب الأموال الطائلة، لكن الشيخ عبد الرحمن بن سعدي يعطر المجالس حينما يذكر، هؤلاء الأئمة.

الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- كان أحيانًا يخطئ يقول ولده: أحيانًا يأتيه مدعو، يخطئ فيلبس نعلين غير شكلين، ما ينتبه -رحمه الله-، وإذا نبه على شيء من هذا يقول:

خذ بنصل السيف واترك غمده واعتبر فضل الفتى دون الحلل[17].

فالعبرة بما تحت الثياب، وليست العبرة بالثوب، وصدق -رحمه الله- فـرب أشعث، مدفوع بالأبواب، لو أقسم على الله لأبره[18] كما قال النبي ﷺ.

والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.تأت

  1. أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا} [مريم:16] برقم (3436) ومسلم في البر والصلة والآداب، باب تقديم بر الوالدين على التطوع بالصلاة برقم (2550).
  2. أخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين برقم (4161).
  3. أخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق، باب قصة أصحاب الأخدود والساحر والراهب والغلام برقم (3005).
  4. أخرجه أحمد برقم (2821) وضعفه الألباني في الإسراء والمعراج وذكر أحاديثهما وتخريجها وبيان صحيحها (ص:80).
  5. نواهد الأبكار وشوارد الأفكار = حاشية السيوطي على تفسير البيضاوي (2/525).
  6. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (16/56).
  7. أخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق، باب قصة أصحاب الأخدود والساحر والراهب والغلام برقم (3005).
  8. أخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق، باب قصة أصحاب الأخدود والساحر والراهب والغلام برقم (3005).
  9. أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن، باب ما جاء في فاتحة الكتاب برقم (4474).
  10. ذكره مرفوعاً ابن حجر في فتح الباري (6/482).
  11. أخرجه ابن حبان برقم (6489) وقال محققه (شعيب الأنؤوط): "إسناده صحيح".
  12. المبدع في شرح المقنع (8/320).
  13. البيت لابن الوردي من لاميته المشهورة في نفح الأزهار في منتخبات الأشعار (ص:54) ومجاني الأدب في حدائق العرب (4/94) ونزهة الأبصار بطرائف الأخبار والأشعار (ص:98).
  14. توضيح المقاصد شرح الكافية الشافية نونية ابن القيم (1/119).
  15. أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن، باب {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} [الكهف:105] الآية برقم: (4729)
    ومسلم في كتاب صفة القيامة والجنة والنار برقم (2785).
  16. أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب رفع الأمانة برقم (6497) ومسلم في الإيمان، باب رفع الأمانة والإيمان من بعض القلوب برقم (143).
  17. البيت لابن الوردي من لاميته المشهورة، ينظر: نفح الأزهار في منتخبات الأشعار (ص:54) ومجاني الأدب في حدائق العرب (4/94) ونزهة الأبصار بطرائف الأخبار والأشعار (ص:98).
  18. أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل الضعفاء والخاملين برقم (2622).

مواد ذات صلة