الإثنين 23 / جمادى الأولى / 1446 - 25 / نوفمبر 2024
حديث «ما لكم حين نابكم شيء في الصلاة..»
تاريخ النشر: ١٧ / شعبان / ١٤٢٧
التحميل: 1591
مرات الإستماع: 6261

ما لكم حين نابكم شيء في الصلاة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا هو الحديث الأخير في باب "الإصلاح بين الناس"، وهو:
حديث أبي العباس سهل بن سعد الساعدي : أن رسول الله ﷺ بلغه أن بني عمرو بن عوف كان بينهم شر، فخرج رسول الله ﷺ يصلح بينهم في أناس معه، فحبس رسول الله ﷺ وحانت الصلاة، فجاء بلال إلى أبي بكر رضي الله عنهما، فقال: يا أبا بكر، إن رسول الله ﷺ قد حبس وحانت الصلاة فهل لك أن تؤم الناس؟ قال: نعم، إن شئت، فأقام بلال الصلاة، وتقدم أبو بكر فكبر وكبر الناس، وجاء رسول الله ﷺ يمشي في الصفوف حتى قام في الصف، فأخذ الناس في التصفيق، وكان أبو بكر لا يلتفت في الصلاة، فلما أكثر الناس في التصفيق التفت، فإذا رسول الله ﷺ فأشار إليه رسول الله ﷺ فرفع أبو بكر يده فحمد الله، ورجع القهقرى وراءه حتى قام في الصف، فتقدم رسول الله ﷺ فصلى للناس، فلما فرغ أقبل على الناس، فقال: أيها الناس، ما لكم حين نابكم شيء في الصلاة أخذتم في التصفيق؟! إنما التصفيق للنساء، من نابه شيء في صلاته فليقل: سبحان الله، فإنه لا يسمعه أحد حين يقول: سبحان الله، إلا التفت، يا أبا بكر: ما منعك أن تصلي بالناس حين أشرت إليك؟، فقال أبو بكر: ما كان ينبغي لابن أبي قحافة أن يصلي بالناس بين يدي رسول الله ﷺ. متفق عليه

وقد تحدثنا عن شيء من ترجمته في بعض الأبواب السابقة.

أن رسول الله ﷺ بلغه أن بني عمرو بن عوف..، وهم بطن من الأوس، ومعلوم أن الأنصار كانوا على قبيلين: الأوس، والخزرج، فهؤلاء من بطون الأوس العظام، ويتفرع منهم فروع من قبائل الأوس.

كان بينهم شر، وجاء في بعض الروايات أنه كان بينهم كلام، وخصومة، وفي بعض الروايات أنه وقع بينهم تراشق بالحجارة أي: اختصموا، واحتدم الأمر بينهم حتى حصل التراشق بالحجارة، .

فخرج رسول الله ﷺ يصلح بينهم في أناس معه، وفي بعض الروايات أنه ﷺ أمر بعض أصحابه أن يقوموا معه من أجل الإصلاح بين هؤلاء.

فخرج معه سهيل بن بيضاء، وأبي بن كعب فحُبس رسول الله ﷺ وحانت الصلاة.

وجاء في بعض الروايات أن النبي ﷺ خرج إليهم بعد أن صلى الظهر، وكانت منازلهم في قباء، فلما أتاهم النبي ﷺ وأصلح بينهم حُبس عن صلاة العصر، أي: حضرت صلاة العصر، ومعنى حُبس أي: أنهم أرادوا النبي ﷺ أن يجلس معهم، وأن يستضيفوه، فالنبي ﷺ طيب خواطرهم لهذا.

وفي هذا من الفوائد ما لا يخفى من حرص النبي ﷺ على الإصلاح بين الناس، وهو القدوة والأسوة، فكان يأمر بذلك، ويحث عليه ويبين فضله، ويقوم به في نفسه، وأيضاً فيه أن كبير القوم -الكبير المطاع- أنه يسعى في إصلاح أحوال المجتمع، ولم الشمل والشعث، ورأب الصدع، وإزالة أسباب الفرقة والبغضاء بين الناس، ولا يترفع ولا يتعالى، وإنما يذهب إليهم بنفسه إلى محالهم، ولا ينتظر منهم أن يأتوا إليه.

ثم فيه تواضع النبي ﷺ مع هذا كله أيضاً يبقى عندهم، وتحضر صلاة العصر وهو ﷺ جالس بينهم تطييباً لخواطرهم.

قال: وحانت صلاة العصر، فجاء بلال إلى أبي بكر فقال: يا أبا بكر إن رسول الله ﷺ قد حبس وحانت الصلاة، فهل لك أن تؤم الناس؟، قال: نعم إن شئت".

وفي رواية عند الإمام أحمد أن النبي ﷺ هو الذي أمر بلالاً بذلك، أمره إن حبس أن يأتي أبا بكر، وأن يأمره أن يصلي بالناس، ففعل بلال ذلك وأدى هذا بطريق العرض، فهل لك أن تصلي بالناس؟ قال: نعم، إن شئت، فأقام بلال الصلاة وتقدم أبو بكر[1].

وفي هذا بيان فضيلة أبي بكر الصديق ، فهو المقدم في هذه الأمة بعد رسول الله ﷺ حيث استخلفه الرسول ﷺ ليصلي بالناس، وكذلك في مرض موته -عليه الصلاة والسلام-، قال: مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس[2] وقال: يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر[3].

فإذا كان النبي ﷺ قد رضيه لدينهم أن يكون مقدماً ليصلي بهم، فمن باب أولى أن يكون قد رضيه لدنياهم؛ ولهذا فإن النبي ﷺ على الأرجح عند أهل السنة لم يستخلف أحداً بعده، وإنما يؤخذ من بعض الإشارات في تصرفات النبي ﷺ أنه قدم أبا بكر؛ لأنه قدمه عليهم في الصلاة، فلا شك أن أبا بكر هو المقدم، وهو الأول بعد رسول الله ﷺ، وفضائله كثيرة جدًّا لا يسع المقام لحصرها .

قال: فأقام بلال الصلاة، وتقدم أبو بكر، فكبر وكبر الناس، وجاء رسول الله ﷺ يمشي في الصفوف.

كما جاء في بعض الروايات: يشق الصفوف حتى قام  في الصف، أي: الأول، فأخذ الناس في التصفيق، وفي بعض الروايات التصفيح، وبعض أهل العلم يقولون: التصفيح والتصفيق بمعنى واحد، وهذا هو المشهور، ومنهم من يقول: إن التصفيح هو: الضرب بظاهر الكف، وأما التصفيق فهو بباطنها، ومنهم من يقول: الضرب بأصبعين للتنبيه، هذا التصفيح، والمشهور أنهما بمعنى واحد.

فالحاصل أن هؤلاء كأنهم لم يبلغهم هدي النبي ﷺ فيما يفعله المصلي إذا نابه أمر، أو أن يكون ذلك قبل أن يعلمهم رسول الله ﷺ، وإلا فسيأتي في هذا الحديث أن التصفيق للنساء، فهو لا يليق بالرجال ولا يصلح لهم، لا في الصلاة، ولا في خارج الصلاة، فإذا كان لا يصلح في الصلاة مع الحاجة، ونهاهم النبي ﷺ عنه فمن باب أولى في خارج الصلاة.

والله قال عن المشركين: وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ [الأنفال: 35]، والمكاء هو: التصفير، والتصدية هي: التصفيق.

وقال الله عن قوم لوط: وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ [العنكبوت: 29]، قال جماعة من المفسرين: كان مما كانوا يأتون به في مجالسهم التصفيق والتصفير، قالوا: هو من عمل قوم لوط، والنبي ﷺ لم يكن يصفق، وكان إذا أعجبه شيء كبّر، وإذا تعجب من شيء سبح، فلا يحسن بالإنسان بأي مناسبة من المناسبات أن يصفق، وهو في حق النساء أسهل منه في حق الرجال.

يقول: فلما أكثر الناس التصفيق التفت فإذا رسول الله ﷺ، فأشار إليه رسول الله ﷺ أن يبقى، وكان أبو بكر لا يلتفت في الصلاة، وقد يفهم من مفهوم المخالفة أن غيره قد يلتفت، والالتفات في الصلاة من غير حاجة مكروه، كما هو معلوم، ولحاجة يجوز، فلو أن الإمام ارتبك مثلاً وقام الناس يقولون: سبحان الله، سبحان الله، وهو لا يدري لماذا يقولون هذا، ولم يعلم أنه سها، وأكثر الناس من هذا، فلو أنه التفت إليهم، ونظر فإن ذلك لا يضره، وصلاته صحيحة، ولا إشكال فيها، وكذلك لو أنه سمع صوتاً مفزعاً خاف فيه على بعض من وراءه من الناس فالتفت، فإن ذلك لا يضره.

والنبي ﷺ حينما بعث رجلاً عيناً، فكان ينظر ويلتفت إلى تلك الناحية من الوادي؛ لينظر هل جاء الرجل الذي أرسله أو لم يأت؟ وهو يصلي ﷺ، فالحاصل أن الالتفات للحاجة لا إشكال فيه.

قال: فلما أكثر الناس التصفيق التفت، فإذا رسول الله ﷺ، أي: قد جاء، فأشار إليه رسول الله ﷺ، وقد يفهم من بعض الروايات أن إشارة النبي ﷺ كانت قبل أن يكبر، يعني رسول الله ﷺ أشار إليه، أي: أن يبقى، ولا يرجع، فرفع أبو بكر يده فحمد الله، ورجع القهقرى وراءه.

وفي بعض الروايات: رفع يديه فحمد الله وأثنى عليه على هذه النعمة والمنة والإفضال، وهي أن النبي ﷺ جعله بهذه المنزلة، وهي رضاه أن يكون خلفه، فهذه منقبة لأبي بكر، لو كان أبو بكر منافقاً -وحاشاه من ذلك، أو نحو هذا- لما قبل النبي ﷺ أن يصلي، وأن يتقدم بالناس، ولا أن يصلي خلفه، لكن كون النبي ﷺ يشير إليه أن يبقى، فهذه نعمة عظيمة جدًّا، ومنقبة وتزكية لأبي بكر الصديق ، فرفع يديه، فدل ذلك على أن رفع اليدين في الصلاة لا إشكال فيه.

وقوله: فحمد الله، يحتمل أنه حمد الله بصوت يسمع، وهذا لا يبطل الصلاة، باعتبار أن الحمد من الذكر، فالمأموم أو الإمام إذا قال شيئاً من الذكر أثناء الصلاة، ولو على سبيل التنبيه لغيره فإن ذلك لا يبطل صلاته، وهذا جاء عن جماعة، فهذا عمر كان يصلي بالناس أمام الكعبة، وهو إمام فقرأ فلما بلغ: وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ [التين:3]، رفع بها صوته، وهكذا ذكر أهل العلم قالوا: لو أن الإمام أو المصلي عموماً قال عند طرق جماعة الباب: ادْخُلُواْ الْبَابَ [النساء: 154]، وهذا جزء من آية، قالوا: إن قصد به الكلام بطلت صلاته، وإن ذكره على سبيل القراءة لينبه لم تبطل صلاته؛ لأنه من الذكر.

فأبو بكر حمد الله، وفي بعض الروايات أن النبي ﷺ سأله عن رفع يديه بعد الصلاة، فذكر أنه حمد الله على ذلك، فقد لا يكون حمد الله بصوت يسمع، ولو فعل ذلك لما ضره في صلاته.

ورجع القهقرى، أي: من أجل أن لا يستدبر القبلة، يرجع إلى الوراء وهو مستقبل القبلة، رجع القهقرى، أي: وراءه، حتى قام في الصف.

فتقدم رسول الله ﷺ فصلى للناس، وهذا أيضاً من أدب أبي بكر ، فالنبي ﷺ أقره، ومع ذلك هو لم يرضَ لنفسه بهذا.

فلما فرغ أقبل على الناس، أي: النبي ﷺ، وهذا يدل على أن الصلاة يمكن أن يصلي فيها إمامان وأكثر، مثل هذه الصلاة افتتحها أبو بكر، وأتمها النبي ﷺ فهذا يقع على صور منها: لو أن الإمام انتقضت طهارته، فإنه يتراجع، ثم يتقدم آخر، وأيضاً لو أن الإمام جاء وأرجع الذي تقدم  -بعد أن توضأ- صح ذلك، ورجع هو إلى الإمامة باعتبار أنه أحق بها، فصار الآن كأنهم ثلاثة أئمة، وهكذا لو جاء الآن مسبوق يصلي خلف الإمام، ثم بعد ذلك يصلي بمن جاء بعده، بعد أن يقضي لنفسه، فيكون مأموماً ويكون إماماً بعد ذلك، يمكن هذا.

يقول: فلما فرغ أقبل على الناس فقال: أيها الناس، مالكم حين نابكم شيء في الصلاة أخذتم في التصفيق؟، إنما التصفيق للنساء، يعني: في الصلاة،من نابه شيء في صلاته فليقل: سبحان الله، فإنه لا يسمعه أحد حين يقول: سبحان الله إلا التفت، يا أبا بكر، ما منعك أن تصلي بالناس حين أشرت إليك؟ فقال أبو بكر: ما كان ينبغي لابن أبي قحافة أن يصلي بالناس بين يدي رسول الله ﷺ[4].

وهذا من تواضعه ، وأبو قحافة اسمه عثمان، ولم يذكر كنيته، ما قال: ما كان ينبغي لأبي بكر؛ لأن ذكر الكنية فيه نوع من الإكرام والتعظيم، وهو أراد أن يضع من نفسه عند رسول الله ﷺ وهو بين يديه، وفي الرواية التي أشرت إليها عند الإمام أحمد: "رفعت يدي؛ لأني حمدت الله على ما رأيت منك، ولكن لم يكن ينبغي لابن أبي قحافة أن يؤم" أي: لما رأيت منك حينما أقررتني على الصلاة بالناس بين يديك، متفق عليه.

فهذا الحديث يتضمن فوائد كثيرة، لكن الموضوع الأساس الذي سيق من أجله هو ما يتعلق بالإصلاح بين الناس.

هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه أحمد (37/ 473)، رقم: (22816).
  2. أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب حد المريض أن يشهد الجماعة، (1/ 134)، رقم: (664)، ومسلم، كتاب الصلاة، باب استخلاف الإمام إذا عرض له عذر من مرض وسفر، وغيرهما من يصلي بالناس، وأن من صلى خلف إمام جالس لعجزه عن القيام لزمه القيام إذا قدر عليه، ونسخ القعود خلف القاعد في حق من قدر على القيام، (1/ 313)، رقم: (418).
  3. أخرجه مسلم، كتاب فضائل الصحابة -رضي الله تعالى عنهم-، باب من فضائل أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-، (4/ 1857)، رقم: (2387).
  4. أخرجه البخاري، كتاب الصلح، باب ما جاء في الإصلاح بين الناس إذا تفاسدوا، (3/ 182)، رقم: (2690)، ومسلم، كتاب الصلاة، باب تقديم الجماعة من يصلي بهم إذا تأخر الإمام ولم يخافوا مفسدة بالتقديم (1/ 316)، رقم: (421).

مواد ذات صلة