الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
حديث «المسلم أخو المسلم لا يخونه..» (1-2)
تاريخ النشر: ١٦ / جمادى الآخرة / ١٤٢٧
التحميل: 1846
مرات الإستماع: 11626

المسلم أخو المسلم لا يخونه ولا يكذبه

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فمن الأحاديث التي أوردها المصنف -رحمه الله- في باب تعظيم حرمات المسلمين:
حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: المسلم أخو المسلم، لا يخونه، ولا يكذبه، ولا يخذله، كل المسلم على المسلم حرام عرضه وماله ودمه، التقوى ها هنا، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم[1].

وقد شرحنا الأخوّة الإيمانية وذلك في حديث ابن عمر الذي قبل هذا الحديث، وهو قوله ﷺ: المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه[2]، وحديث أبي هريرة الذي نحن بصدد الحديث عنه يؤكد هذا المعنى.

فقوله: لا يخونه بمعنى: أنه يكون أميناً معه في كل ما يتطلب الأمانة، فإن أعطاه وديعة فإنه يكون أميناً معه بردها إليه، وإذا استودعه سراً فإنه لا يفشيه، وإذا دخل معه في عمل كأن اشترك معه في شركة، قد تكون هذه الشركة باسم واحد منهما، والآخر ليس لديه أوراق تثبت أنه معه، وعندئذ يدير له ظهره، ويقول له: ليس لك عندي شيء، وهذ كثيراً ما يحصل في المجتمعات، وكم من قلوب حَرّى، يدعو ويرفع يديه على هذا الظالم الذي دخل معه في عمل أو شراكة ثم استغل ضعفه أو ثقته أو سذاجته -أحياناً- ثم تركه بعد ذلك، وخرج صفر اليدين، ولا يقف عند هذا بل قد يخونه في عرضه، والنبي ﷺ بين أن ذلك من أعظم الذنوب وأقبحها، فقال مجيباً عن سؤال وُجه إليه، أي الذنب أكبر عند الله؟ فقال: أن تدعو لله ندا وهو خلقك، قال: ثم أي؟، قال: ثم أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك، قال: ثم أي؟، قال: أن تزاني حليلة جارك[3]، وذلك -والله تعالى أعلم- لسببين:

السبب الأول: أن هذا الجار له حق من الحفظ والرعاية، قال النبي ﷺ: ما زال يوصيني جبريل بالجار حتى ظننت أنه سيورثه[4]، فيُقابَل بمثل هذا، ويزنى بامرأته!.

السبب الثاني: أن هذا قد يصعب التحرز منه، أو يخفى، لاسيما مع تقارب البيوت أو سكنى الناس في العمائر والشقق، فقد يدخل ولا يشعر به أحد، وقد يتعرف مع الأيام عليها، أو يراها من غير أن تشعر، ثم بعد ذلك تطمح نفسه إلى ما حرم الله، وقد يطلع منها على ضعف أو ميل محرم للرجال أو غير ذلك مما لا يطلع عليه البعيد، وإنما يعرفه القريب، فيستغل ذلك في هذا الفجور، فالمقصود أنه لا يخونه سواء كان قريباً أو بعيداً، فمن وقع على عرض محرم فقد خان الله، وخان ذمته.

 وقد تكون الخيانة بما دون ذلك كالكلام الذي لا يليق مثلاً، أو العلاقات المحرمة، كالخروج مع النساء الأجنبيات والتعرف عليهن، ومن العجب أنك تجد من يبرر لهذا بقوله: إنه طريق إلى الزواج، ولو قيل له: هل ترضى هذا لأختك أو لأمك؟، لقال: لا فوراً بلا تردد، أو يبرر أحياناً باسم العمل وما أشبه ذلك، وتتحول الأمور إلى علاقات واتصالات وما لا يحمد عقباه.

وقوله: لا يَكذبه -وبعضهم يضبطه بالضم، أي: إذا حدثه يصدقه، هذا من حق المسلم على المسلم أن يكون صادقاً معه، فلا يحدثه بحديث كذب لأن هذا فيه استخفاف به، وتدليس وتلبيس عليه، ولا يصدر ذلك إلا من نفس قد اتصفت بالجبن، بحيث إنه لا يجرؤ أن يواجه الناس بالحقيقة فيضعف أمامهم وتتلاشى قواه، فيضطر إلى ذكر غير الحقيقة، هذه حقيقة الكذب، وعلى ضبطه بالضم "لا يُكذِّبه" أي إذا حدثك تصدقه؛ لأن الأصل في المؤمن الصدق وعدم الكذب، ولكن بعض الناس يكذِّب أخاه المؤمن ولا يصدقه بلا موجب أو قرينة تدل على كذبه، وأدهى من ذلك وأمرّ أنه لا يستشعر جرمه واتهامه الناس بالكذب، لأن نفسه هانت واعتادت الكذب وصارت من أهله، وقارن بين هؤلاء وبين السلف تجد الفرق كبيراً والبون شاسعاً، يقول أحد السلف :  لو نادى منادٍ من السماء بحِلِّ الكذب ما كذبت.

  وقوله: ولا يخذله، يعني: لا يترك نصرته حيث يحتاج إلى نصرته، والجزاء من جنس العمل.

 وقد جاء عن النبي ﷺ ما يدل على هذا: ما من امرئ يخذل امرأ مسلما في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته، وما من امرئ ينصر مسلما في موضع ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب نصرته[5]، والخدلان في الحديث يشمل الفرد والجماعة، كما في حديث: انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً[6]، فالمسلم لا يجوز له بحال من الأحوال أن يخدل أمة من الأمم، أو طائفة من المسلمين، أو أن يسلمهم إلي الكفار، فضلاً عن أن يعين أعداء الله عليهم، أو يفرح بظهورهم عليهم، أو يفعل هذا نكاية بهم، ولربما وقع من بعض غلاظ الأكباد الذين لا يعبئون إلا بلقم يأكلونها، يسمع حروباً تطحن المسلمين فيقول بكل سخرية واستهزاء: في أي مكان حصل هذا؟، فإذا قيل له: في المكان الفلاني قال: هذا حصل عندهم وليس عندنا، هذا لا يمكن أن يصدر من أحد تربى على الإسلام، فالمسلم أخو المسلم، فلا يخذله وإنما ينصره ولو بالدعاء.

عرضه ويدخل في العرض الشتم والسب والغيبة والنميمة، وأن ينتقصه أو يرميه بشيء ليس فيه من البهتان، أو يرميه بالفاحشة، وهذا هو القذف وحدُّه ثمانون جلدة، وإن رماه بما دون ذلك مما لم يثبت له حد في الشرع، كأن يقول: يا حيوان، وأشهدَ عليه اثنين من العدول اجتهد القاضي في تعزيره بما يراه يردع مثله، فأعراض المسلمين ليست سهلة، كما في الحديث: فإن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا[7]، فإذا رأى الإنسان أحداً يقع في عرض أحد من المسلمين فينبغي أن يوقفه عند حده، ويقول له: اذكر الله، لا تشتغل في عيوب الناس، اعمل بما ينفعك في الدارين، أترضى أن يأخذوا من حسناتك يوم لا ينفعك غيرها؟، وقد ذكر العلماء -رحمهم الله- أن الناس لا يكاد يوجد عندهم الورع في هذا، فتجد الرجل يصوم النهار، ويقوم الليل، ويتحرز من أدنى الشبهات في المكاسب، يتحرز من المكاسب المحرمة، ولسانه يَفرِي في أعراض الأحياء والأموات، هذا موجود لدوافع كثيرة جداً، وللكلام في الأعراض لذة، ولهذا قيل لها: فاكهة المجالس، لأنه حين  يتكلم يجد لذة وكأنه  بكلامه هذا يرتفع ويعلو مقاماً، وهذا نوع من الحسد، قال شيخ الإسلام: "مَا خلا جَسَدٌ من حسد لَكِن اللَّئِيم يبديه والكريم يخفيه" [8]، فتراه يجد سروراً وانشراحاً إذا عرف أن فلاناً حصل له مكروه، من مرض أو غيره، فيتسلى بمصيبته، ويشعر أنه قد تخلص من عدوه اللدود وقرينه المنافس، وأنه لن يستطيع المقارعة بعد اليوم.

وقوله: وماله أي لا يأخذ من ماله شيئاً، لا بسرقة، ولا برشوة، ولا بلون من ألوان المكاسب المحرمة، ولا يستغفل الناس ويقول لهم: هاتوا أموالكم أشغلها لكم، ماذا تريدون من الأرباح ثمانين في المائة أو سبعين في المائة، أرباح خيالية لم يأتِ بها شياطين التجارة، لا في العقار ولا في غير العقار، فيغتر به فرّاش مدرسة مسكين متقاعد ويبيع كل ما عنده ليحقق لأهله الثراء والرفاهية، وفي الأخير تكون هذه الأموال لقمة سائغة لهذا المدَّعِي، كيف يكون حال الأيتام والمساكين والأرامل الذين أخذت أموالهم بالاحتيال والسرقة المغطاة؟، ولكن أنا أقول لكم قاعدة في هذا الباب: لا تنظر إلى هيئة الإنسان وصورته، فقد يكون صواماً قواماً، ويكون في المعاملات المالية إنساناً آخر، فلا ارتباط بين صلاته وصيامه وبين معاملاته المالية، الأصل أن يكون دين الإنسان يحمله على الصدق والأمانة في كل شئون حياته، ولكن وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ [النساء: 128].

وأعطيكم قاعدة ثانية: لا تعطِ مالك أحداً وتقل له: شغِّل لي هذا المال، لأنه سيلعب به ولا يبالي بضياعه، فإن كان ولابد فليشارك فيه، ليعرف أن خسارة هذا المال خسارة لماله.

وقوله: ودمه، أي لا بالقتل، ولا بالجرح، أو نحو ذلك.

  1. أخرجه الترمذي، أبواب البر والصلة عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في شفقة المسلم على المسلم، (4/ 325) برقم: (1927)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم: (6706 ).
  2. أخرجه البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب: لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه (3/ 128)، برقم: (2442).
  3. أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته، (9/ 155) برقم: (7532)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب كون الشرك أقبح الذنوب، وبيان أعظمها بعده، برقم: (86) بلفظ: أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك، قال: قلت له: إن ذلك لعظيم، قال: قلت: ثم أي؟ قال: ثم أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك، قال: قلت: ثم أي؟ قال: ثم أن تزاني حليلة جارك.
  4. أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب الوَصاة بالجار (8/ 10) برقم: (6014)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب الوصية بالجار والإحسان إليه، برقم: (2625).
  5. أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب من رد عن مسلم غيبة (4/ 271) برقم: (4884)، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة، برقم: (6871).
  6. أخرجه البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب أعن أخاك ظالما أو مظلوما (3/ 128)، رقم (2444)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب نصر الأخ ظالما أو مظلوما، (4/ 1998)، رقم (2584).
  7. أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب قول النبي ﷺ: ربّ مبلَّغ أوعى من سامع، (1/ 24) برقم: (67)، ومسلم، كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال، (3/ 1306) برقم: (1679).
  8. أمراض القلوب وشفاؤها (ص: 21).

مواد ذات صلة