الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
حديث «لا تحاسدوا ولا تناجشوا..» (2-3)
تاريخ النشر: ٢٢ / جمادى الآخرة / ١٤٢٧
التحميل: 1897
مرات الإستماع: 5140

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فكنا نتحدث عن قول النبي ﷺ: لا تحاسدوا، وقلنا: إن الخطاب يتوجه إلى الحسد وإلى أسبابه، ويتوجه أيضاً إلى آثاره، وذلك أن الحسد أمر يقع في قلب الإنسان من غير إرادته، والله يقول: لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة:286]، فيكون النهي عن كل ما يؤدي إلى الحسد، وكل تصرف من شأنه أن يوقع في الحسد فهو منهي عنه، وكذلك أيضاً الآثار، فكل ما ينتج عن هذا الحسد من قول كالغيبة والنميمة، وكذلك الأفعال فإنه منهي عنه.

فلو أن العاقل تأمل ونظر فإنه يتبين له أن أول من يصطلي بهذا الحسد هو قلب الحاسد، فيعيش في ضيق ونكد، بينما المحسود يسرح ويمرح لا يدري عن حال هذا الحاسد، وربما يعيش في هناء وسعادة.

وقد بين لنا النبي ﷺ الطريقة التي يقطع بها هذا الحسد، فقال: إذا رأى أحدكم من أخيه، ومن نفسه، ومن ماله ما يعجبه فليبرِّكه، فإن العين حق[1]، يعني: يدعو له بالبركة، فيقول: بارك الله لك، ونحو ذلك، وأما ما يقوله كثير من العامة: ما شاء الله، أو قل: ما شاء الله، فإن هذا وحده لا يكفي، وإنما المقصود أن يدعو بالبركة، فإذا سَبق منه شيء فوقع لهذا الإنسان مكروه، وعَرف أنه العائن فليتوضأ، فالنبي ﷺ أمر عامرًا أن يتوضأ لسهل، فغسل وجهه ويديه إلى المرفقين، وركبتيه، وداخلة إزاره، وأمره أن يصب عليه[2] ولا يجوز لذلك الإنسان العائن أن يمتنع من ذلك، بل يجب عليه أن يستجيب وأن يذعن، ولا تحمله العزة بالإثم.

وقوله: ولا تناجشوا، النَّجَش في لغة العرب: هو النَّكْث، فيقال: التناجش بين الناس هو نكْث العداوات وما يثير الكراهية بينهم.

وأما معناه عند الفقهاء فهو أن يزيد في الثمن ولا يريد الشراء؛ ليرغب غيره[3].

فهذه مثلاً سيارة قد أقيمت للبيع، فقال رجل: بعشرة آلاف، ووجد عصابة لا يدري عنهم الإنسان الجاهل بأمرهم فيقولون له: بأحد عشر ألفًا وهم لا يريدون الشراء أصلاً.

ويدخل في هذا المعنى من حيث العموم التغرير بالناس بذكر أوصاف للسلع ليست حقيقية فيها.

 ويدخل فيه أيضاً شيء يشبهه وهو ما إذا جاء إنسان بسلعة ليبيعها فيأتي آخر ويضع من قيمتها الحقيقية، ويجتمع عليه عصابة، ويضعون لها سعراً متدنياً ليس هو السعر الحقيقي لها.

 وهذه الحالة استثناها بعض الفقهاء، قالوا: يجوز لمن لا يريد الشراء إذا رأى مثل هذا الظلم أن يرفع سعر السلعة لتصل إلى الحد العدل، لئلا يظلم صاحب السلعة.

وقوله: ولا تباغضوا وكما ذكرنا في الحسد فالبغض شيء يقع في قلب الإنسان من غير إرادة، فيقال: يتوجه الخطاب إلى أسبابه وآثاره، فما هي الأسباب إذاً التي توقع البغضاء بين الناس؟، منها: الغيبة والنميمة، وقد جعلها النبي ﷺ بمنزلة السحر، لأنها تفعل فعل السحر، تأتي لإنسان بينه وبين أخيه مودة ومحبة، وتقول له: أعلمتَ ما قال فيك فلان؟، قال فيك كذا وكذا، فهذا الإنسان الذي نُقل له الكلام تتغير كل ذرات جسمه، ومشاعره، ويحمل كل تصرفات أخيه الحسنة السابقة على محامل سيئة، ويرى أن ذلك كان من باب التغرير به، والمخادعة له، ثم بناء على هذا يحمل في نفسه العداوة والبغضاء، ويلقى أخاه بوجه غير الوجه الذي كان يلقاه به.

والواجب على الإنسان أن يتحرى ويتحقق عن الشيء الذي يبلغه عن الناس، كما قال الشافعي -رحمه الله- ليونس الصدفي: "إذا بلغك عن أحد من إخوانك ما تكره، فالْقَه واسأله عما نُقل لك عنه، فإن أنكره فقل: أنت أصدق وأبر، وإن أثبته فاسأل عن عذره، فإن ذكر عذراً يمكن أن يقبل فاقبل ذلك عنه، وإن لم يذكر عذراً فانظر إلى سوابغ إحسانه إليك، وكافئه بها، فإن لم تجد من سوابغ الإحسان فكافئه على إساءته بقدرها"، ثم يقول له: "يا يونس، إن الظفر بالصديق صعب، وتضييعه سهل".

ولهذا كثر كلام الحكماء في هذه القضية، أنه ليست المهارة أن الإنسان يخسر الأصدقاء، وإنما المهارة في استجلاب الأصدقاء الأوفياء، والمحافظة على ذلك وإبقاء المودات وما أشبه هذا، وإلا فالصداقات يمكن أن تحول إلى عدوات بكلمة واحدة، وهذا لا يعجز عنه أهوج، فليس ذلك من الحكمة ولا من العقل.

فكل سبب يوقع البغضاء بين الناس يجب دفعه، قال النبي ﷺ:لا يُجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها[4]، فضلاً عن أختها أو أمها، لأن العادة أن المرأة لا تحب ضرتها، فإذا جمع بينها وبين عمتها أو خالتها فإن ذلك سيؤدي إلى العداوة بين هؤلاء القرابات، والشارع يأبى ذلك.

ولهذا قال النبي ﷺ: ولا يبيعُ الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه[5]. فلو جاء رجل يخطب امرأة فأبدى أهل المرأة الموافقة، ثم جاء رجل آخر -وهو يعلم أن فلاناً من الناس تقدم- فقال: أنا أتقدم لابنتكم، فلما رأوا أن فيه مزايا أفضل، أو يدفع مهراً أكثر صرفوا النظر عن الأول فهذا سيسبب العداوة بين الناس بخلاف ما لو ردوه، والآخر من إمكانه أن يتقدم إذا كان في طور البحث والسؤال والتحري.

وهكذا في السَّوْم، يأتي الإنسان ويسوم السلعة، يقول له: تبيعني هذه السيارة بعشرة آلاف؟، فيقول آخر: أنا اشتريها منك بأحد عشر ألفًا، فهذا لا يجوز، لأنه يسبب العداوة والبغضاء بين المسلمين.

  1. أخرجه أحمد في مسنده (24/ 466)، برقم: (15700)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (6/ 148).
  2. أخرجه ابن ماجه في سننه (2/ 1160)، برقم: (3509)، وصححه الألباني، برقم: (2572).
  3. البداية شرح الهداية (8/ 211).
  4. أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب لا تنكح المرأة على عمتها، (7/ 12)، برقم: (5109)، ومسلم، كتاب النكاح، باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح، (2/ 1028)، برقم: (1408).
  5. أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب لا يبيعُ على بيع أخيه، ولا يسوم على سوم أخيه حتى يأذن له أو يترك، (3/ 69)، برقم: (2140).

مواد ذات صلة