الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
(07) حديث أبي هريرة وعبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم من كانت عنده مظلمة والمسلم من سلم المسلمون
تاريخ النشر: ٠٧ / جمادى الأولى / ١٤٢٧
التحميل: 419
مرات الإستماع: 1100

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

ففي باب تحريم الظلم أورد المصنف -رحمه الله- حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم؛ قبل ألا يكون دينار ولا درهم... من كانت عنده مظلمة لأخيه مظلمة هنا تشمل جميع أنواع المظالم؛ لأنها نكرة في سياق الشرط، وهي للعموم.

من كانت عنده مظلمة أي مظلمة سواء كان ذلك من المال أخذ منه شيئا على سبيل الاقتراض، أو أنه استأجره، ولم يوفه حقه، أو أنه أخذ منه مالاً خلسة، أو سرق ذلك منه، أو أخذه غصبا، مكاشرة، أو كان قد تعدى عليه بضرب، أو شتم، أو وقيعة في عرض من غيبة، ونميمة، أو انتقاص، أو نحو ذلك، فهذا كله من المظالم.

قال: من عرضه، أو من شيء فليتحلله منه اليوم... يتحلله منه اليوم إذا كان أخذ منه مالاً يؤدي إليه هذا المال.

كثير من الناس يقول: بأن الله تاب عليه، وأن حاله قد استقامت، وله مظالم قديمة، سرق في أيام غفلته، سرق أموالاً لا يعرف أصحابها، وأحيانا يكون سرق من قرابات يحرج أن يرجع ذلك لهم، ويخبرهم أنه قد سرقه، فماذا يصنع؟

نقول: إن كان يعرف أصحاب هذه الحقوق، والأموال فيجب أن يرجعها إليهم، ولا يلزم من ذلك أن يؤدي ذلك إليهم، ويقول: قد سرقته، ولكن يوصله إليهم، يعطيه أحدا، أو يدفعه هو، ويقول: هذا من إنسان يقول: إنك تطالبه به منذ زمن في معاملة، في علاقة في قضية واقعة سابقة لك هذا المال، وهو مستحق لك، ولا يشترط أن يقول: أنا، المهم أن يوصله إليه، فإذا أوصله إليه بنفسه، أو عن طريق من يطمئن إلى أنه أوصله إليه، فإن ذمته تبرأ بذلك، ولا يجوز أن يتصدق عنه، وهو يعرف صاحب الحق.

وأما إذا كان لا يعرف صاحب الحق، هذا المحل قد أقفل، قد انتقل هذا الإنسان قد انتقل، لا يعرف عنوانه، هذه لها خادمة، وقد سافرت هذ الخادمة، ولا تعرف لها عنوانا، نقول: إن بذل جهده، ولم يجد طريقا إليه فإنه يتصدق به عنه إن كان مالاً، وإن كان شيئا من متاع، ونحوه فيصرفه أيضًا في وجوه البر، ويبقى ذلك أيضًا في ذمته بحيث لو وجده فإنه يخير، يقول: هذا الحق لك، فإن شئت دفعته لك، وإن شئت أمضيت ما تصدقت به عنك، فإن قال لا أريد الصدقة أريد مالي لزمه أن يدفعه إليه، ولا تبرأ ذمته بهذا؛ لأنه أحق بماله، وليس لأحد أن يأخذ ماله، ثم يتصدق به عنه.

وأما إذا كان لم يقف لهذا الإنسان على أثر فإنه يتصدق بذلك عنه، وتبرأ ذمته بذلك -إن شاء الله-.

وأما إن كان مما يتعلق بالعرض قد اغتابه مثلاً، أو تنقصه فإنه يذهب إليه، ويعتذر منه، ويقول: حللني، ولا يشترط أن يقول له ما قال؛ لئلا يوقع الوحشة في قلبه، لكن يقول: أنا أخطأت في حقك، وقصرت، وذكرت بما لا يليق بك، فحللني، فإن كان ذلك يؤدي إلى مفسدة أعظم، فإنه يذهب إلى أولئك الذين قد وقع في عرضه عندهم، فيذكره بالخير، ويدعو له بالسر عل الله أن يغفر له ذلك، فالأمر عظيم.

ولذلك لا حاجة بالإنسان أن يقع في أعراض الناس، ثم يبدأ يفكر كيف يستطيع أن يتخلص من تبعة ذلك.

الإجراء الذي يمكن أن يعمله الإنسان ابتداء سهل، وهو ألا يقع في أعراضهم، يحفظ هذا اللسان، وبدلاً من أن يفري الأعراض، وفلان فيه، وفلان ما فيه يقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وإذا رأيت إنسانا بدأ يشتغل بالوقيعة بأعراض الناس قل له: سبح سبح سبح بدلاً من أن يشغلك بالغيبة، والوقيعة في أعراض المسلمين، فالمسألة ليست سهلة.

فالنبي ﷺ يقول: فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته... وأعمالنا قليلة الأعمال الصالحة قليلة، ولا ندري ما الذي تقبله الله منها حتى يؤخذ من هذه الحسنات المقبولة، ثم تعطى لهؤلاء الناس.

يقول: وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه، فحمل عليه -نسأل الله العافية-.

تصور الإنسان مع قلة العمل، قلة البضاعة تؤخذ هذه الحسنات، وتعطى للناس، وتعطى لمن؟ لمن يكرههم؛ لأنه في الغالب إنما يقع في عرض من يكره، فيهدي حسناته إلى أعدائه، وقد كان بعض السلف كالحسن إذا سمع أن أحدا قد اغتابه يبعث إليه بطبق هدية، وطعام على أنه أهدى إليه من حسناته.

فأقول أيها الأحبة كيف بمن قوته هو الوقيعة في أعراض المسلمين؟ هو القوت الذي يقتاته، ليس له شغل إلا في هذا، تجلس المرأة مع صواحباتها المجالس الطويلة، والوقيعة.

الأساتذة يقعون في الطلاب، ويتندرون بجهلهم، وأخطائهم، وحماقاتهم، وسخف إجاباتهم، وغفلتهم، والطلاب إذا جلسوا اشتغلوا بأعراض أساتذتهم، فريا هذا لا يحسن يدرس، وهذا لا يحسن يضع أسئلة، وهذا لا يحسن يضع درجات، وهذا لا يحسن يتعامل مع الطلاب، وهذا يتعامل معهم كأنهم بهائم وحيوانات، كل هذا من الغيبة لا يجوز، لا يجوز هذا، لا الأستاذ يغتاب الطالب، ولا الطالب يغتاب الأستاذ، وأعظم ذلك ما يقع فيه بعض الفتيات، أو بعض الشباب، وقد يكون هؤلاء من الصالحين من الوقيعة بآبائهم وأمهاتهم.

البنت إذا جلست مع صديقاتها بدأت تتكلم بأمها، وأنها تمنعها، وتحرمها، وتسيطر عليها، وأنها لا تريد منها أن تشغل الهاتف، ولا تريد منها أن تكلم.. هي تمنعك لمصلحتك، لا يحسن بالبنت أن تعكف على الهاتف، ولا تمدح البنت بهذا.

والولد يقع بعرض أبيه عند أصدقائه، لا يريد أن أذهب، لا يريد أن أخرج، لا يريد أن أسهر معكم، لا يريد أن آكل بالمطاعم، لا يريد أن أذهب إلى المكان الفلاني، كأني طفل عنده، لا يثق بي.

هو منعك لمصلحتك، وهو ينظر لأمور لا تنظر إليها أنت، وتعرفها بعدين إذا شابت مفارقك، أما الآن فلا تدركها، وأنت مندفع، فتظن أن هذا من التعسف، وأن هذا من التقييد لحريتك، وما أشبه ذلك.

وقد ذكر النبي ﷺ من أشراط الساعة أن يبر الرجل صديقه، ويعق أباه، الأب يقول يا ولدي لا تخرج اليوم، ويقول أنا مواعد الشباب، نريد نتعشى في مطعم، ويذهب إلى أصحابه، ويتعشى على عرض أبيه يأكل لحم أبيه، يوم جيت أطلع كالعادة قال لي: لا تروح، ويبدأ يتكلم فيه، وهؤلاء يسمعون، ولو كان هؤلاء عندهم ذمة كانوا منعوه، وقالوا له: اتق الله لا تقع في عرض أبيك، اتق الله، أكل لحوم المسلمين حرام، فكيف بالوالد، وهذا من أعظم العقوق.

فأقول المظالم تتنوع، وتختلف أحجامها، فإذا كان ذلك واقعا على الوالد، أو الوالدة، أو ذوي الأرحام، والقرابات فإن ذلك أشد، وهو من أعظم القطيعة، وهكذا الجيران، والنبي ﷺ يقول: إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم حرام عليكم -كما سبق- كحرمة يومكم هذا[1] إلى آخره.

فمن الذي حللها حتى يقع فيها الناس، ويتوسعون في ذلك، وقد يزين لهم الشيطان هذا إن هذا من باب التظلم، أو أن هذا من باب التحذير من صاحب الانحراف، أو نحو ذلك، وقد لا يكون هذا صاحب انحراف، قد يكون المتكلم هو صاحب الانحراف، فيتقي الإنسان ربه، لا يقدم على الله ببضاعة مزجاة، فالآخرة دار لا تصلح للمفاليس.

الإنسان قد يقدم بأعمال كالجبال، جبال تهامة بيضاء، ويأتي وقد وقع في عرض هذا، وشتم هذا، وأكل مال هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، وهذا من حسناته، ثم -نسأل الله العافية- ثم يطرح في النار.

فإذا كان الإنسان لا ينشط للأعمال الصالحة على الأقل كما ذكرنا في بعض الأبواب السابقة أن يكف شره عن المسلمين، يكف أذاه، فإن كف الأذى صدقة، يقول: وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه، فحمل عليه[2] رواه البخاري.

وذكر الحديث الذي بعده، وهو من المتفق عليه أخرجه الشيخان، وهو حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أن النبي ﷺ قال: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه[3].

الإسلام معروف هو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة إلى آخره، فالمسلم حقيقة هو من سلم المسلمون من لسانه ويده، قد يصلي هذا الإنسان، ويصوم، ويحج، ويزكي، ولكن لا يسلم الناس من لسانه ويده، يضرب هذا، ويظلم هذا، ويشتم هذا، فليس بمسلم حقيقة، الإسلام الحقيقي هو الخضوع الكامل لأحكام الله ألا يتعدى حدوده، ولا يرتكب محارمه، فلسانه يخضع، ويده تخضع، هذا هو الإسلام، هذه حقيقة الإسلام أن يخضع بجميع جوارحه، أما إذا كان الإنسان عينه تنظر إلى الحرام، وأذنه تسمع الحرام، ولسانه يفري أعراض الناس، ويتكلم بالسب والشتم، ويده تبطش، وتظلم، فهذا لم تستسلم جوارحه.

قال: والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه لأن الهجرة نوعان: هجرة بالأبدان، وهي الهجرة المعروفة الهجرة من البلد التي لا يستطيع الإنسان إقامة دينه فيها إلى بلد يستطيع أن يقيم دين الله فيها، مثلما هاجر المسلمون من بلد كفر أخرى، وهي الحبشة، فقد تكون المهاجر إليها بلد إسلام، وقد لا تكون بلد إسلام، ولهذا تعريف الهجرة: بأنها الانتقال من البلد الشرك إلى بلد الإسلام تعريف قاصر، الهجرة إلى الحبشة لم تكن إلى بلد إسلام، إنما ينتقل الإنسان من بلد لا يستطيع إقامة الدين فيها إلى بلد يستطيع أن يقيم دينه، هذه الهجرة الشرعية، فهذه هجرة الأبدان.

ويبقى النوع الثاني، وقد تكلم عليه الحافظ ابن القيم -رحمه الله- كلاما جميلاً في زاد المهاجر إلى ربه "الرسالة التبوكية" من أجمل الرسائل اقرأوها صغيرة، وهي في غاية الإفادة، ذكر فيها النوع الثاني من الهجرة، وهي هجرة القلوب، والأرواح إلى ربها، وباريها، وخالقها .

فليست العبرة بانتقال البدن إذا كان القلب يحلق على الجيف، لكن القلوب تهاجر إلى الله تهاجر عن الذنوب، والتعلق بالشهوات والمعاصي، وأن يهجر الإنسان ما نهاه الله عنه حتى لو كان يعيش في بيئة سيئة، نعم هو مطالب أن ينتقل، لكن من لم ينتقل، وقد هاجر بقلبه إلى الله خير من الذي انتقل، ولم يهاجر قلبه إلى ربه، هاجر بدنه فقط.

ولهذا قال النبي ﷺ: فمن كانت هجرته إلى الله، ورسوله -في الحديث الآخر- فهجرته إلى الله، ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها[4] فهذا هاجر بدنه، ولم يهاجر قلبه.

فنسأل الله أن يصلح قلوبنا، وأعمالنا، وأحوالنا، وأن يكف أيدينا، وألسنتا من أعراض المسلمين، وأن يقينا، وإياكم شر المظالم الصغير منها، والكبير، وأن يعيذنا من كل مكروه وسوء، وشر وبلية، اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، وعاف مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرا من دنيانا، وصلى الله على نبينا محمد.

  1. أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب حجة الوداع، برقم (4402).
  2. أخرجه البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب من كانت له مظلمة عند الرجل فحللها له، هل يبين مظلمته، برقم (2449).
  3. أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، برقم (10)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان تفاضل الإسلام، وأي أموره أفضل، برقم (40).
  4. أخرجه البخاري، كتاب الأيمان والنذور، باب النية في الأيمان، برقم (6689)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب قوله -صلى الله عليه وسلم-: «إنما الأعمال بالنية»، وأنه يدخل فيه الغزو وغيره من الأعمال، برقم (1907).

مواد ذات صلة