الجمعة 20 / جمادى الأولى / 1446 - 22 / نوفمبر 2024
(12) حديث أبي قتادة الحارث أنه قام فيهم فذكر لهم وحديث أبي هريرة رضي الله عنهم أتدرون من المفلس
تاريخ النشر: ٣٠ / جمادى الأولى / ١٤٢٧
التحميل: 476
مرات الإستماع: 1187

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

ففي باب تحريم الظلم أورد المصنف -رحمه الله- حديث أبي قتادة الحارث بن ربعي الخزرجي، الأنصاري، فارس رسول الله ﷺ وهو الذي وقع له ما وقع من بركة دعاء رسول الله ﷺ حينما أصيب بسهم في وجهه، فمسحه النبي ﷺ وبصق عليه، فبرئ كأن لم يكن به شيء، ودعا له الرسول -عليه الصلاة والسلام- وروايته عن رسول الله ﷺ الحديث بلغت مائة وسبعين حديثا، اتفق الشيخان على أحد عشر حديثا، وانفرد الإمام البخاري بحديثين، وانفرد الإمام مسلم بثمانية.

يقول عن رسول الله ﷺ أنه قام فيهم فذكر لهم أن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال، والنبي ﷺ لما ذكر دعائم الإسلام لم يذكر منها الجهاد في سبيل الله، وحينما كان النبي ﷺ يسأل عن أي العمل أفضل، فتارة يقول الصلاة لوقتها، وتارة يذكر شيئا آخر، وذلك -والله تعالى أعلم- أن هذا يختلف بحسب الزمان والحال، وكذلك أيضا يراعى فيه حال السائل، فقد يكون بالنسبة لهذا المعين أفضل العمل هو الصلاة لوقتها، وهذا المعين الجهاد في سبيل الله، وقد يكون في هذا الوقت أفضل العمل الصدقة، وفي هذا الوقت تعليم العلم، وهكذا، فبحسب الحاجة -والله تعالى أعلم-.

يقول فقام رجل فقال يا رسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله أتكفر عني خطاياي، فقال له رسول الله ﷺ: نعم إن قتلت في سبيل الله، وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر... يعني أنه لم يكن فارًا لأنه من كبائر الذنوب من السبع الموبقات الفرار يوم الزحف، كما قال ابن الزبير متمثلاً:

ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ولكن على أقدامنا تقطر الدم[1]

فالمؤمن يقتل، أو يصاب بصدره بوجهه، لا يصاب بظهره، إنما الذي يصاب بظهره هو الفار، المنهزم، إلا إذا كان متحيزًا إلى فئة؛ لأن الله : وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ فالحاصل قال، وأنت صابر محتسب مقبل، غير مدبر، ثم قال رسول الله ﷺ: كيف قلت؟ يعني أعد السؤال، قال: أرأيت إن قتلت في سبيل الله أتكفر عني خطاياي؟ فقال النبي ﷺ: نعم إن قتلت، وأنت صابر محتسب مقبل، غير مدبر إلا الدين فإن جبريل قال لي ذلك[2] رواه مسلم.

إلا الدين، بمعنى: أن الشهيد كما أخبر النبي ﷺ في الحديث الآخر أنه يغفر له من أول قطرة من دمه، تغفر له جميع الذنوب الكبار والصغار إلا الدين، وهذا يدل على شدة الدين، وأنه أمر عظيم، وذلك أنه من حقوق الناس، وحقوق الناس الأصل فيها المشاحة، وقد ذكر أهل العلم أنه يلحق به سائر الحقوق المتعلقة، بالمخلوقين، وليس الدين فقط؛ فالذي اغتاب الناس، أو ظلمهم، وأخذ حقوقهم، وآذاهم، وما أشبه ذلك فإن هذه الحقوق لا بد أن يقتص منه بها، إلا أن يعفو الله عنه، أو أن يرضيهم بأن يعطيهم من ألوان الحسنات، ورفع الدرجات ما يحصل به التغاضي عن مثل هذه المظلمة.

فالمسألة ليست بالسهلة، إذا كان الشهيد بهذه المنزلة يغفر له كل شيء من أول قطرة من دمه، ويشفع في سبعين من أهل بيته، ويؤمن الفتان، ومع ذلك تبقى حقوق الناس يعلق بها، فكيف بغير الشهيد.

وإذا كان الشهيد جاء بهذه الحسنة العظيمة، الماحية للذنوب، والسيئات، فكيف بالذي ليس له إلا حسنات قليلة، وله ذنوب، وسيئات كثيرة كما في الحديث الآخر حديث أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له، ولا متاع، هذا المفلس في مقاييس الناس في الدنيا، فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة، وصيام، وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا شتم هذا يعني سبه وقذف هذا أي في عرضه كأن يرميه بالفاحشة مثلاً وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا هذه كلها مظالم، وحقوق للمخلوقين فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم، فطرحت عليه، ثم طرح في النار[3] رواه مسلم.

وهذا لا ينافي قول الله -تبارك وتعالى-: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى لأن هذا من أوزاره، وأعماله التي عملها، وحصلها في الدنيا الأعمال السيئة، فيلقى هذا الجزاء.

لاحظوا أن مثل هذا الذي ذكره النبي -عليه الصلاة والسلام- في حديث أبي هريرة جاء بصلاة، وصيام، وزكاة، فكيف بالمقصر في مثل هذه الأمور، ويأتي يوم القيامة يقدم إقدام المفاليس، ثم بعد ذلك هذا يطالبه بمظلمة، وهذا يطالبه بمظلمة، وهذا فماذا يصنع؟

ليس عنده إلا حسنات قليلة، هذا فنيت حسناته، وعنده صيام، وصلاة، وما إلى ذلك، فكيف بمن ليس عنده شيء، والإنسان ينوء بأوزاره وأعماله وذنوبه التي لا يكاد يفارقها صباح مساء؛ من نظر محرم، ومن كلمة محرمة، ومن أي مزاولة محرمة، فكيف إذا جاء والناس يطالبونه يوم القيامة، مع قلة العمل، وكثرة المطالب.

هذا كله يدل على شدة الظلم، وعلى عظم حقوق الخلق، وأن الإنسان لا يتساهل في شيء من ذلك، وأنه يتحلل في الدنيا قبل أن يأتي يوم القيامة، فتؤخذ حسناته، وتطرح عليه من ذنوب وسيئات الناس، هذا وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد.

  1. انظر: الشعر والشعراء (2/634).
  2. أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب من قتل في سبيل الله كفرت خطاياه إلا الدين، برقم (1885).
  3. أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، برقم (2581).

مواد ذات صلة