الجمعة 20 / جمادى الأولى / 1446 - 22 / نوفمبر 2024
(13) حديث أم سلمة رضي الله عنها إنما أنا بشر
تاريخ النشر: ٠١ / جمادى الآخرة / ١٤٢٧
التحميل: 436
مرات الإستماع: 1172

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

ففي باب تحريم الظلم أورد المصنف -رحمه الله- حديث أم سلمة -رضي الله عنها- أن رسول الله ﷺ قال: إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض... إلى آخر ما ذكر -عليه الصلاة والسلام-.

قوله -عليه الصلاة والسلام-: إنما أنا بشر... يعني: أنه لا يطلع على الغيب إلا ما أطلعه الله عليه، ولا يطلع على ما في القلوب، وقد قال ﷺ بأنه لم يؤمر أن يشق عن صدور الناس، وأن ينقر عما في قلوبهم، فهو ﷺ يحكم بحسب الظاهر، والله يتولى السرائر، فالنبي ﷺ في الحكم بين الناس يحكم بينهم بحسب ما يسمع، فهذا معنى قوله ﷺ: إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي... يعني: يتحاكمون إلى النبي ﷺ ويترافعون إليه في القضايا العالقة بينهم.

يقول: ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض... معنى: ألحن بحجته من بعض، اللحن: أصله الميل بالكلام عن وجهه، فهنا ألحن بحجته من بعض، بمعنى أنه يملك من الفصاحة، والبيان، والقدرة على الإقناع، ما لا يملكه الطرف الآخر، يعني: ما لا يملكه خصمه، والناس يتفاوتون في هذا، من الناس من أعطي جدلاً، ولسانا فصيحا، حتى إنه يستطيع أن يقنع مقابله بأن الباطل الذي يزوقه أنه حق، وأن الحق الذي مع الطرف الآخر أنه عين الباطل، يتلاعب بمثل هذه القضايا من المعاني؛ لأنه يملك لسانا ذربا يستطيع به أن يقنع سامعه، ومقابله.

يقول: ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض وهذا قد يظهر جليا لا يحتاج إلى كثير من الفصاحة إذا كان الطرف الآخر من الأعاجم، تكون قضية بين أعجمي، وبين إنسان آخر من العرب، ويأتي إلى قاض، أو يقع له حادث مع هذا الإنسان الأعجمي، المسكين، الفقير، ثم يأتي إلى المرور، وهذا بفصاحته، وبكلامه، وبطلاقة عباراته يستطيع أن يتكلم، وأن يقنع السامع أن الخطأ على ذاك.

يقول: فأقضي له بنحو ما أسمع... بحسب الظاهر فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار[1] متفق عليه.

إذًا هذا يدل على أن حكم القاضي أو الحاكم لا يغير من حقيقة الشيء، هذا إنسان عنده قضية، وذهب ووكل فيها محاميا شهيرًا، وأعطاه مالاً وفيرًا، وهذه القضية لربما بمئات الملايين، وهذه ليست له، أرض، مصنع، أموال في قضية، شركة، تجارة، وأعطاها هذا المحامي المعروف بسلاطته، وذلاقته، ويزيف الأمور، ويستطيع أن يقنع السامع أن هذه السارية من ذهب، وأعطاه أياه، وبدأ يداعي فيها هذا المحامي، ويطالب، ثم ظفر بها هذا الإنسان، وحكم القاضي بناء على ذلك أن هذه الأرض، أو أن هذا العقار، أو هذا المبنى، أو هذه الشركة لفلان، أو أن هذا المال الذي يطالب به فلان من هذه الشركة أنه لا يستحق منه شيئا، مئات الملايين، أو مئات الريالات، لا فرق، فهي قطعة من نار.

حكم الحاكم -ينبغي أن نعرف هذه القضية- إذا قضى لك القاضي لا يعني أن هذا الذي أخذته بهذا القضاء أنه حق كالماء الزلال الذي لا شائبة فيه، ولا حرج أبدا، أنت أعرف، إذا كان هذا الشيء لا تستحقه، فلا تأخذه، ولو حكم به القاضي، القاضي لا يعلم الغيب فإن كان لا يحل، فإنه لا يحلله لك قضاء القضاة.

وهكذا أيضا فتوى العالم، كثير من الناس يستفتي، ولربما يخفي طرفا من الحقيقة، بينه وبين زوجته مشكلة، وما أكثر ما يقع هذا، وإذا سمعت كلام الزوج تقول: ما أحلم الله، كيف صابر عليها، أعوذ بالله، وهي مضيعة حقوقه، وتعامله هذه المعاملة السيئة، لكنك لو سمعت منها؛ قلت: ما أحلم الله! كيف يكون هذا الرجل الجبار الظالم المجرم يوجد مثله يمشي على الأرض، ولا يعاجله الله بالعقوبة؟ وهكذا.

فأقول: هذه الأمور حينما يستفتي الإنسان في أي قضية من القضايا في طلاق مثلاً، ويخفي بعض الأشياء، أو يقول: إنه قد غضب غضبا فيه إغلاق، لا يعي ما يقول، وهو غير صحيح، وقال له القاضي: هذا الطلاق ما يقع.

أو المرأة ادعت أنه طلقها، وهي حائض؛ من أجل أن تبقى معه، مثلا عند من لا يرى أن ذلك يقع، ثم حكم القاضي أن هذا لا يقع، بناء على ما سمع، فإن هذا لا يحللها له.

أو ادعى أنه لم يطلق ثلاث مرات، وإنما هي طلقة واحدة في السابق، والواقع أنه طلقها طلقتين، وهذه الثالثة، بل وجد، وسمعنا بعض المشكلات من بعض الناس تقول المرأة إنه قد طلقها تسعا، ولا زالت معه، وإحدى النساء تقول: طلقها ستا في مرات، في عدد، في سنين، ولازالت معه، وإذا ذهب إلى القاضي قال: أبدا أنا مطلقها مرة واحدة، فيقول: هي امرأتك، بناء على ما يسمع، فأقول: ينبغي أن نعرف هذه القضية.

بعض الناس يدلس أحيانا في معاملة مالية، ويقول للقاضي، أو للمفتي يقول له: أنا أخذت هذا المال بالطريقة الفلانية إلى آخره، ويخفي بعض الجوانب في المعاملة المحرمة التي دخل فيها الربا مثلا، فالمفتي يقول هذا يجوز، هذه المساهمة تجوز، هذا لا يحللها له، هي حرام، وسحت، وكثير من الناس لا يذكرون ما عليهم، وإنما يظنون أنهم إن استطاعوا استخراج الحكم من القاضي، أو من المفتي بحيلة، وبتزويق، وإخفاء لبعض الحقيقة أنهم يسلمون بذلك من التبعة هكذا يظنون، ولهذا شاع عند الناس علقها في رقبة مطوع، اجعل بينك وبين النار مطوع، وهذا الكلام غير صحيح، والإنسان أدرى، ولا أحد يتحمل تبعة أحد، ولا أحد يتحمل وزر أحد.

فينبغي للإنسان إذا ذكر استفتى أن يذكر القضية على وجهها كما هي، من أولها إلى آخرها، يذكر ما له وما عليه، وإذا ذهب يتقاضى يقول: أنا لا أريد شيئا، ولا يدخل ذمتي شيء، أنا أزعم أن هذا الحق لي، إذا كان يظن أنه له، ومستندي فيه كذا، وكذا، وإذا كنت لا أستحقه فلا أريد أن يدخل علي من هذا المال شيء، وهكذا.

هي قطعة من نار، كثير من الناس يأخذون أشياء من الأموال العامة، أو غير العامة، يأخذونها بمختلف التأويلات التي يتأولونها، وهي في الواقع قطعة من النار أخذها، أو تركها.

بعض الناس يجد أرضا لا يعرف من هو صاحبها، فيحوطها، ثم يبني بها، وهي قطعة من النار، وإن خفيت هذه على الناس، وإن استطاع أن يستصدر لها صكا بطريقة، أو بأخرى في يوم من دهره هي قطة من نار، يوسد هذه الأرض أربعمائة متر، أو ثمانمائة متر، أو ألف متر، أو عشرة آلاف متر، هي جمر يتلظى عليه في قبره، ماذا يفيده أنه يوسع مساحة المهاد من نار، الذي يوسد به، وإذا مات الإنسان أفضى إلى عمله، ثم هذه الأرض تذهب إلى ميراث، لربما لا يترحم عليه فيه، ولا يذكر بخير.

فألزم ما على الإنسان أن تبرأ ذمته، ولن تموت نفس حتى تستوفي رزقها، وأجلها، فعلى الإنسان أن يتقي الله ولا يأخذ ما لا يحل له، وهذا الأصل الكبير ينبغي أن يفشى في الناس، وأن يذاع في المجالس، وأن يعلم الكبير، والصغير، والرجال، والنساء أن الفتوى لا تحل الحرام، وأن حكم القاضي لا يحلل لك ما أخذت، وأنت أبصر بنفسك، ولهذا قال النبي ﷺ: استفت قلبك... وإن أفتاك المفتون[2] متى؟

هذا إذا بقيت القضية تتلجلج في نفس الإنسان، استفتى إنسانا عالما، فأجابه أن هذا يجوز، لكن بقيت القضية تحيك في نفسه، أنت أدرى، اتركها البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطلع عليه الناس[3].

هذه موازين ذكرها النبي ﷺ في حال التردد، وكثير من الناس في غفلة عن هذا المعنى، في غفلة كبيرة، ولذلك يجتهدون، إما أنهم لا يسألون، ولربما رموا من يسأل بالغباء، لا تسأل تفتح على نفسك بابا، وهل تحل له إذا ما سأل، أو أنهم إذا سألوا يطمسون بعض الحقيقة؛ ليبحثوا عن فتوى توافق قولهم، وهذا لا يبرئ أبدا، كالذي يبحث عن العالم الذي يفتي بالأسهل، الذي يفتي بالرخص، الذي يجوز للناس أشياء، وصار كثير من العوام يحكمون على العلماء أن هذا متساهل، وأن هذا متشدد، كيف حكمت أنه متساهل، وأنه متشدد، لا بد أن تكون وصلت إلى مبلغ من العلم، ومعرفة قواعد الفتيا، والأصول في الاستنباط، حتى تعرف أن هذا تعداها، أو أن هذا قصر عنها، أو ما انضبط معها، وإلا كيف تعرف أنه متشدد، واليوم أصغر واحد يمكن يقول لك: العالم الفلاني هذا متشدد؛ لأنه يسمع فتاوى تخالف هواه، فوصفه بالتشدد، هذا ما يجوز، والذمة ما تبرأ، والحق عند الله واحد، احفظ هذه القضية، لو ما خرجنا الليلة إلا بها لكفى، الحق عند الله -تبارك وتعالى- واحد ما يتعدد، وإن أفتى المفتون، وإن اختلف المختلفون، وإن حكم القضاة، الحق واحد عند الله فمن اجتهد في طلبه، واتقى الله وبذل وسعه، وأخطأه؛ فإنه الله يأجره، هذا من العلماء، وأهل الاجتهاد.

وأما غيرهم فمن سأل عالمًا يثق بعلمه، ودينه، وتقواه، فحتى لو أخطأ العالم في الفتيا؛ تبرأ ذمة المستفتي، إذا ما كان قصده بسؤاله البحث عن الأسهل، والرخصة، وما أشبه ذلك فهذا من سعة الشريعة، ورحمة الله بالمكلفين، كل من اجتهد في طلب الحق، وبذل وسعه فيه؛ فإن الله يغفر له خطأه، هذا في المستنبطين في المفتين، ومن استفتى إن فعل كما أمر فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ يسأل من يثق بعلمه، ودينه ما يبحث عن الذي يفتي بالأسهل، هذا، وأسأل الله أن يوفقنا، وإياكم لما يحب ويرضى.

  1. أخرجه البخاري، كتاب الأحكام، باب موعظة الإمام للخصوم، برقم (7168) ومسلم، كتاب الأقضية، باب الحكم بالظاهر، واللحن بالحجة، برقم (1713).
  2. أخرجه الشجري في ترتيب الأمالي الخميسية، برقم (2580)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (944).
  3. أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تفسير البر والإثم، برقم (2553).

مواد ذات صلة