الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
الحديث على آيات الباب وحديث «أعذر الله إلى امرئ..»
تاريخ النشر: ١٧ / رمضان / ١٤٢٦
التحميل: 1075
مرات الإستماع: 1759

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا باب جديد وهو باب الحث على الازدياد من الخير في أواخر العمر، قال الله تعالى: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ [فاطر:37] الآية إذا كان الإنسان في أواخر عمره فمعنى ذلك أنه يتحرى الموت ويتوقعه أكثر من غيره والله قال لنبيه ﷺ: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ۝ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا ۝ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:1-3]، وقد فهم منها ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه أجل رسول الله ﷺ حيث نعيت إليه نفسه في هذه السورة[1]، وذلك أن الله جعل له علامة يعرف بها قرب انقضاء الأجل وهو ما ذكر فكان النبي ﷺ كما في حديث عائشة: "يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي، يتأول القرآن"[2]، يعني أنه يمتثل أمر الله  له في هذه الآية.

وأخذ منه أهل العلم بأن ذلك يتأكد للإنسان إذا تقدم به العمر، أو إذا كان قد بُلي بمرض موت أو بمرض يموت منه غالبًا -الأمراض الخطيرة التي يموت منها الإنسان غالبًا- فإنه يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي.

فالحاصل أن الإنسان كما أخبر النبي -عليه الصلاة والسلام- أن أعمار هه الأمة ما بين الستين والسبعين[3]، هذا هو متوسط الأعمار، والنبي ﷺ قبض وله ثلاث وستون سنة[4]، وإذا بقي الإنسان أكثر من هذا فهذا قد مد الله له في العمر، فينبغي أن يكون على حذر شديد بأنه قد جاوز متوسط الأعمار، والموت قد يفجأه في أي لحظة، وذلك للجميع ولكن هذا أولى وأحق من غيره بهذا التوقع والحذر.

قال الله تعالى: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ [فاطر:37] فالاستفهام في الآية للتقرير أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ أي نبقيكم مدة ومهلة وقدرًا من الأعمار مَا يَتَذَكَّرُ يعني الذي يتذكر المدة التي يتذكر فيها من أراد التذكر.

الإنسان الذي يريد أن يعتبر ويتذكر ويحاسب نفسه فالله يقول: قد أمهلناكم وأبقيناكم، أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ يعني التعمير الذي يتذكر، أو تعميرًا يتذكر فيه من أراد أن يتذكر، فهذان معنيان، والآية تحتملهما.

وهذه المدة المشار إليها، أو التعمير من أهل العلم من قال: إنه ستون سنة.

ومنهم من قال: أربعون.

ومنهم من قال: ثماني عشرة سنة واختار كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله- الأربعين[5]، ولعله استأنس لذلك بقوله -تبارك وتعالى-: حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً [الأحقاف:15] على أحد المعاني في تفسير الآية، قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ [الأحقاف:15] باعتبار أن بلوغ الأشد هو بلوغ الأربعين، وهذا ليس محل اتفاق.

فالآية تحتمل هذا والإنسان تكتمل قوته في الأربعين ثم بعد ذلك لربما يحافظ على هذا مدة ثم يبدأ بالعد التنازلي تبدأ تضعف قواه وتتلاشى، فإن لم تخطفه المنايا بقدر الله فإن هذه القوى تبدأ بالتلاشي حتى تبدأ خلايا المخ تموت، وتبدأ القوى تضعف، وطاقة الإنسان وشبابه يزول، ثم بعد ذلك يبدؤون: فلان نسأل الله أن يختم له بالجنة، فلان ما عاد يعرف أولاده، فلان ما يعرف زوجته، إذا دخل ولده قال من هذا؟! يقول لزوجته: من هذا الرجل الذي جالس عندك، ويغلقون عليه الباب؛ لأنه إذا خرج لا يرجع؛ لكونه لا يهتدي إلى بيته، فلا يعلم بعد علم شيئًا، بعدما كان يعرف وحاذق أصبح لا يدرك ولا يعرف، ولا يفهم الخطاب، ولا يرد الجواب، يقولون له: نحن في رمضان وهو من أحرص الناس على الخير يقول: نعم، ويبقى دقائق ثم يقول: أعطوني ماء، وإذا وجد الطعام أكل منه، فالطفل يكون أكمل حالاً من مثل هذا.

وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ [فاطر:37] والنذير الذي عليه عامة المفسرين أنه الرسول.

وقال بعض السلف : بأنه الشيب، فالشيب نذير بقرب الأجل، وهو أيضًا علامة إذا لاحت في مفرق الإنسان فإن ذلك يدل على أن ذلك النبت بدأت تخرج سنابله، وأن حصاده قريب فيستحي العاقل ممن بلغ إلى هذا الحد أن يقارف ما لا يليق، فإن الشيب لا يصلح معه مثل هذا، والعادة أن نزوات الإنسان وغرائزه تكون كاملة في حال الشباب والقوة،

إِنَّ شَرخَ الشَبابِ وَالشَعَرَ الأَســـــ ـــوَدَ ما لَم يُعاصَ كانَ جُنونا[6]

وأما ظهور الشيب وبياض الشعر فإنه يدل على انطفاء حرارة الغريزة في داخل الإنسان فينعكس ذلك على ظاهره فيلوح ذلك البياض في شعره ويكون شمطًا؛ ولهذا قال النبي ﷺ في الثلاثة الذين لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم قال: أشيمط زان[7]، أشيمط تصغير للأشمط، وهو الذي خبطه الشيب، اختلط شعره بالشيب، فمثل هذا تكون غرائزه ضعيفة، فإذا زنا فإن ذلك يدل على شر وفساد متغلغل ومتجذر في نفسه.

يقول: قال ابن عباس والمحققون: معناه أولم نعمركم ستين سنة ويؤيده الحديث الذي سنذكره يعني أعذر الله إلى رجل سيأتي.

وقيل: معناه ثماني عشرة سنة، وقيل: أربعين سنة، وممن قال بأنه أربعين سنة كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله- كما تقدم.

وقال الحسن والكلبي ومسروق ونقل عن ابن عباس أيضًا: "ونقلوا أن أهل المدينة كانوا إذا بلغ أحدهم أربعين سنة تفرغ للعبادة[8]، يعني إذا قلنا: متوسط الأعمار ستين، فإذا مضى أربعون فمعنى ذلك أن الإنسان في الثلث الأخير من العمر، وأما الذي جاوز الستين فهذا في الوقت الزائد كما يقال، ويسميه أهل اللعب والرياضة: الوقت الضائع، فينبغي أن يحذر ويشتد حذره فعلى تقدير الأعمار بالستين فما بعد الأربعين إلى الستين هذا هو الثلث الأخير خلاص مضى الثلثان، وبقي ثلث، وكانوا يتفرغون للعبادة، وقد قال قتادة -رحمه الله-: بأن التعمير حجة على الإنسان محتجًا بهذه الآية[9]، يفرح الإنسان بأن يعمر، وذلك حجة عليه أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ.

يقول: وقيل: هو البلوغ، والبلوغ يكون بأحد علامات ويحكم به إن لم يظهر شيء من هذه العلامات إذا بلغ الإنسان خمس عشرة سنة على قول عامة أهل العلم خلافًا للحنفية الذين قالوا: إذا بلغ ثماني عشرة سنة فقد بلغ.

يقول: وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ قال ابن عباس والجمهور هو النبي ﷺ وقيل الشيب قاله عكرمة وابن عيينة وغيرهما.

 يقول: وأما الأحاديث:

 فالأول: عن أبي هريرة ، عن النبي ﷺ قال: أعذر الله إلى امرئ...[10]، بمعنى أنه لم يترك له عذرًا، تقول مثلاً: أعذر من أنذر يعني إذا أنذر معناها أنه ما أخذ بغتة وفوجئ، بمعنى لم يبق له عذر، تقول: قد أنذرناك فليس لك عذر في هذا.

أعذر الله -أي لم يترك له عذرًا- إلى امرئ أخر أجله حتى بلغ ستين سنة، رواه البخاري.

قال العلماء: معناه لم يترك له عذرًا إذا أمهله هذه المدة، يقال: أعذر الرجل إذا بلغ الغاية في العذر، ما عاد له مجال، يقول: يا رب لو أمهلتني لو أخرتني كنت في طيش كنت في سفه كنت صغيرًا كنت غرا، لا، قواه مكتملة وعقله مكتمل وجلس المدة الكافية، ومع ذلك غلبه التسويف والأماني حتى ضاع العمر، وذهبت فرصته من بين يديه فلا ينفعه بعد ذلك الندم.

هذا، وأسأل الله أن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأن يتقبل منا ومنكم أجمعين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

  1. أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، برقم (2676).
  2. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة:8]، برقم (4968)، ومسلم، كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، برقم (484).
  3. أخرجه الترمذي، أبواب الدعوات عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ما جاء في فناء أعمار هذه الأمة ما بين الستين إلى السبعين، برقم (3550)، وابن ماجه، أبواب الزهد، باب الأمل والأجل، برقم (4236)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (1073).
  4. أخرجه البخاري، كتاب المناقب، باب وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، برقم (3536)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب سن النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم قبض، برقم (2348).
  5. تفسير الطبري (20/478).
  6. انظر: الحيوان (3/55).
  7. أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط، برقم (5577)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (3072).
  8. رياض الصالحين ت الفحل (ص:57).
  9. انظر: تفسير ابن كثير (6/553).
  10. أخرجه البخاري، كتاب الرقائق، باب من بلغ ستين سنة، فقد أعذر الله إليه في العمر، برقم (64).

مواد ذات صلة