الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
حديث «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله..»
تاريخ النشر: ٠٧ / رمضان / ١٤٢٦
التحميل: 3305
مرات الإستماع: 27378

المؤمن القوي خير وأحب إلى الله

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله، وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان[1]، رواه مسلم

قوله ﷺ: المؤمن القوي حمله بعض أهل العلم كالإمام النووي -رحمه الله- على القوة في الدين، والتقوى، والعبادة، وما إلى ذلك من المعاني الراجعة التي تعود إلى دين الإنسان، وسلامة اعتقاده، وما أشبه ذلك.

والمؤمن الضعيف هو الذي عنده فتور، هو الذي عنده تقصير، فالمؤمن القوي بهذا الاعتبار خير، وهذه قضية محسومة لا إشكال فيها، أن الإنسان القوي في دينه التقيّ لله -تبارك وتعالى- أفضل من الإنسان المقصر.

وفي كل خير لأن المسلم لا يخلو من معروف وطاعة، وصلاح، وإن حصل منه ما يحصل من التقصير والتواني.

وأما المعنى الثاني الذي ذكره طائفة من أهل العلم فهو أن المؤمن القوي يعني: في بدنه، وفي عمله، حتى عمله الدنيوي إذا عمل عملاً أتقنه، وفي صبره وجلده، وكذلك أيضاً في دينه، فهو خير من المؤمن الضعيف الذي يقل صبره، ويقل تحمله، وهو ضعيف لا بلاء فيه، ولا غناء، ولا كبير جدوى في دفع، أو بذل، وما إلى ذلك.

وفي كل خير لأن المؤمن وإن كان ضعيفاً في بدنه، أو عاجزاً فإنه لا يخلو من خير، والذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن المعنى الثاني أقرب، وهو المتبادر من هذا الحديث في ظاهره، والعلم عند الله .

والخيرية هنا مطلقة، يعني: في كل شيء.

وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، بمعنى: أن الله يحب أهل الإيمان، الله وليهم، أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ۝ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ [يونس: 62-63] ، فلهم من ولاية الله على قدر ما لهم من الإيمان والتقوى.

فهذا يحبه الله -تبارك وتعالى، ولكن الله يحب المؤمن القوي أكثر مما يحب المؤمن الضعيف، ولذلك يقول النبي ﷺ: إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه[2].

فهذا من القوة، والقوة في أخذ الحق يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ [مريم:12]، والله وصف أصحاب النبي ﷺ بأنهم: أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا [الفتح:29]، فالجلَد على الطاعة، والصبر على ذلك كله من القوة التي يحبها ربنا .

وأما القعود، والكسل، والخور فهو سفول وانحطاط في مرتبة العبد، ولهذا قال النبي ﷺ:

الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا[3].

الحث على العمل المنتج والتفكير الصحيح

يقول موجهاً ﷺ إلى العمل المنتج والتفكير الصحيح، والوجهة التي ينبغي أن يتوجهها المؤمن في الحالات كلها: احرص على ما ينفعك، وهذه لفظة عامة، أن يوجد عند الإنسان دافع قوي، وهذا هو الحرص على ما ينفعه، وهذه الصيغة للعموم، ما ينفعه في أمر آخرته، وما ينفعه في أمر دنياه، أما الدنيا فإنه يأخذ منها في حدود ما أباح الله من غير أن يشغله ذلك عن طاعته ومرضاته.

ولهذا قال النبي ﷺ: أيها الناس، اتقوا الله، وأجمِلوا في الطلب، فإن نفساً لن تموت حتى تستوفي رزقها، وإن أبطأ عنها، فاتقوا الله -يعني: لا تأخذوه إلا من حله- وأجمِلوا في الطلب، أي: لا تتهالكوا على الدنيا لأنها ستأتيكم[1].

وكان الصحابة والسلف الصالح يكرهون أن يُرى الرجل لا في عمل دنيا، ولا في عمل آخرة، جالس هكذا، بطّال، ما يعمل شيئاً، ما يُنتفع به في شيء، ما تراه إلا مُغيِّراً في هذا الجوال بألعاب، أو نحو ذلك من أمور لا تجدي عليه نفعاً، أو جالس فقط واضعاً يده على خده، ولا يعمل شيئاً ينفعه في أمور دنياه، ولا في أمور آخرته، كانوا يكرهون مثل هذا.

فالإنسان دائماً في عمل منتج، عمل نافع، إما أن ينفعه في الدنيا من تجارة، أو غير ذلك من المنافع ولو كان يصلح شيئاً في بيته، أو في عمل يقربه إلى الله في الدار الآخرة، والأنفاس إذا ذهبت لا تعود، إذا جلس الإنسان هكذا من غير طائل، من غير فائدة فإن هذا جزء من العمر يعتبر بياضاً، فراغاً، لم يُملأ بشيء، فيكون ضياعاً في أعمارنا، كان ينبغي أن يستغل، ويعمر بأمور تنفعنا.

احرص على ما ينفعك، يعني: لا تفرط، ولا تتوانَ، ولا تسوف، واستعن بالله، لأنه لا يمكن أن يقوم الإنسان وينهض بما هو بصدده من الأعباء والأعمال إلا بعون الله ، فيطلب المدد والعون منه ، إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5].

أسَّسَ القاعدة: المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، احرص على ما ينفعك وهذا من القوة، واستعن بالله، لا تلتفت إلى حولك وطولك وقوتك، تقول: أنا عندي قُدَر، وعندي ذكاء، وعندي مهارات، أستطيع بها أن أحصّل، لا، استعن بالله.

والوصية الثالثة: لا تعجز، يعني: الإنسان في كثير من الأحيان يخطط ويضع له برامج، ويضع تصورات وإذا جاء عند التنفيذ والعمل خارت قواه وعزيمته، فلا يحصل المقصود، سواء في طلب العلم، أو في العبادة، أو في التجارة، أو في غير ذلك من دراسة وتحصيل، وما إلى ذلك من حاجاتنا.

الإنسان يضع في باله أموراً ويجلس يستلقي يفكر فيها ويخطط لها، وإذا جاء عند التطبيق هوَّنَ، ما استفدنا شيئاً إطلاقاً، فيكون الإنسان خوّار العزائم، فمثل هذا لا يمكن أن يعمل أعمالاً يمكن أن ينتفع هو بها، أو ينتفع بها غيره، وعادة يقع ذلك للإنسان بأحد سببين:

إما أن هذا الإنسان أصلاً يميل إلى الكسل، وهذا الذي أشرت إليه في بعض المرات سابقاً، صاحب الأماني الفارغة، يعني: يضع أحلاماً وردية وخططاً، وليس لها مجال للتنفيذ، إما لأنها عسيرة صعبة فوق طاقته أصلاً، أو لأنه هو أصلاً يتدانى دونها، ويكسل، وإذا جاء التطبيق استصعب ذلك؛ لأن طبعه الكسل، فلا يعمل.

الأمر الثاني: ترك التنفيذ، والعمل، والتطبيق، وأحياناً يكون السبب الأوهام، ولذلك تجد الإنسان أحياناً يتوهم أموراً غير حقيقية، ويقول: أخاف إذا سويت يصير كذا.

الإنسان يدرس الموضوع من جميع جوانبه، لكن أحياناً الوهم يسيطر عليه، أخشى إذا كذا، أخشى أنْ أفشل والناس ينتقدونني، أخشى أنّ عملي هذا الناس ما يتقبلونه، أخشى أني لا أربح في هذه التجارة.

ولذلك تجد الذي لربما يفكر كثيراً ويدرس ويتخصص ويفكر ألف مرة ويدخل في التجارة غالباً لا ينجح؛ لأن التجارة تحتاج إلى قدر من المغامرة، ولذلك ترى بعضهم لا يُقْدم على المشروع، ويفكر ألف مرة إلى أن تفوته الفرصة، وتأتيه فرصة ثانية وتفوت، وهو جالس إلى الآن يفكر، ألف فكرة وخاطرة وواردات ترد عليه.

بينما الثاني يغتنم الفرص، ويأتيه ما شاء الله من رزق الله الواسع، ولذلك فإن الذي يفكر كثيراً، ويدرس كثيراً في أمور التجارة لربما يكون ذلك أحياناً عائقاً له من الربح، ونحن نشاهد الناس لربما تجد الرجل العامي لم يدرس، لكنه يُقْدم، صاحب عزيمة، بينما الثاني الذي درس، وعنده نظر في أمور، واحتمالات كثيرة جداً يفوِّت هذه الفرص التي يمكن أن يربح فيها، فما يربح.

قوله: وإن أصابك شيء، هذا الاحتمال الأخير، خسرتَ، لم تنجح، إن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإنّ لو تفتح عمل الشيطان، رواه مسلم.

لو أني لم أسافر لم يحصل هذا الحادث، لو أني لم أدخل في هذه التجارة ما كان حصل الذي حصل، لو أني ما دخلت في هذه الجامعة لكنتُ الآن متخرجاً من زمان وأعمل، لو أني ما واصلت دراستي العليا، لو أني ما تعرفت على فلان، لو أني ما كلمت زيداً.

خلاص هذا أمر في القدر كتبه الله قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، أنه يجيء واحد اسمه فلان بن فلان بن فلان، من القبيلة الفلانية، ويولد بيوم كذا وبتاريخ كذا وبلحظة كذا، ويصير له في اليوم الفلاني كذا، لو طار ونزل لابد أن يقع له هذا الشيء، فما من داعٍ أن تذهب النفس حسرات.

نعم، جيد أن يعرف الإنسان تقصيره وعيوبه من أجل أن يستدركها، لكن اجترار الهم والحزن والأمور المنغصة من أجل تكرار الألم، والتثريب على الإنسان!.

اعرف خطأك من أجل أن لا تقع فيه في المستقبل، ولا تلتفت إلى الماضي، دائماً صوب نظرك إلى الإمام، وبهذه الطريقة نستطيع أن نزيح كثيراً من الهموم التي تعلق في قلوبنا وتتكدس فيها، ولذلك تجد كثيراً من الناس الذين يعانون يعاني بسبب أنه دائماً يجتر الذكريات الماضية الأليمة، ويتذكرها، ويتصورها، ويكتئب ويحزن، لا، تجاوْزها.

ابدأ حياة جديدة، استقبل أمراً جديداً، عملاً نافعاً مجدياً، بعض الناس تموت زوجته، فيقعد دائماً يفكر فيها، ويأتي أولاده ويسلونه، ويسافرون به إلى مكة، وكلما ذكرها سالت الدموع، إلى متى؟!

أنت الآن فكر في المستقبل، فكر في العمل الصالح، فرصتك في هذه الحياة، وستقدم على أمر قد قدمتْ عليه، فهذا نافع جداً للإنسان.

نسأل الله أن يغفر لنا زللنا وتقصيرنا، وأن يتقبل عملنا الصالح، ولا داعيَ لمثل هذا التفكير، لأنه تفكير سلبي، تفكير غير جيد، تفكير مضر، فهذا هو الطريق أيها الأحبة.

أما "لو" ففيها كلام لأهل العلم، لأن النبي ﷺ ثبت عنه أنه قال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي، ولحللتُ مع الناس حين حلوا[2]. فالنبي ﷺ قال: "لو"، هذا يجوز في هذا الموضع؛ لأنه في حالة التعليم.

فلو أن إنسانا يقول لك: يا أخي أنت درست في التخصص الفلاني، تقول له: يا فلان لا تدرس في هذا التخصص، هذا لا يفيدك كثيراً، طيب هذا أنت درست!، تقول: أنا لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما درست فيه، ما درست في الجامعة الفلانية مثلاً، ما درست في المدرسة الفلانية، لماذا؟ للتعليم، ولتبين له أن هذا التصرف ينبغي ألا يقتدى بك فيه.

لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سافرت، فلا تقتدِ بي في مثل هذه السفرة، أو العمل الفلاني، أو نحو ذلك، للتعليم.

وكذلك في الرغبة في الخير، تقول: لو أني قضيت رمضان هذا من أوله في مكة، فهذا في الرغبة في الخير لا بأس، لا على سبيل التحسر على ما فات من مصائب الدنيا وآلامها وأحزانها.

فهناك مواضع يجوز استعمال "لو" فيها، ومواضع لا يجوز، فالموضع المذموم هو الذي نهى عنه النبي ﷺ فإن لو تفتح عمل الشيطان.

ولذلك يقول المنافقون: لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [آل عمران: 156].

حتى لو كانوا عندكم سيموتون ويقتلون بآجالهم، قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران: 154]، فما قدّر الله كائن، فـ "لو" في هذه المواضع غير محمودة.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه ابن ماجه، كتاب التجارات، باب الاقتصاد في طلب المعيشة (2/ 725)، رقم: (2144).
  2. أخرجه البخاري، كتاب التمني، باب قول النبي ﷺ: لو استقبلت من أمري ما استدبرت (9/ 83)، رقم: (7229).

مواد ذات صلة