الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
حديث «ذكرت شيئًا من تبر عندنا..»
تاريخ النشر: ٠٢ / شعبان / ١٤٢٦
التحميل: 1549
مرات الإستماع: 2537

ذكرت شيئًا من تِبر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا هو الحديث الثاني في "باب المبادرة إلى الخيرات":

عن أبي سِرْوعة عقبة بن الحارث ، وبعضهم يقول: إن أبا سروعة هو أخ لعقبة وليس هو عقبة، يقول: صليت وراء النبي ﷺ بالمدينة العصر فسلم ثم قام مسرعًا، فتخطى رقاب الناس إلى بعض حجر نسائه ففزع الناس من سرعته، فخرج عليهم، فرأى أنهم قد عجبوا من سرعته، قال: ذكرت شيئا من تبر عندنا فكرهت أن يحبسني فأمرت بقسمته[1].

"قام مسرعًا" يعني كأنه ﷺ غير عادته فلم يتمهل، وكان يأمر أصحابه أن يتأخروا في الخروج من المسجد من أجل أن يخرج النساء قبلهم، فبادر النبي ﷺ إلى الخروج قبلهم حتى إنه احتاج إلى أن يتخطى رقابهم، وهذا التخطي في هذه الحالة -مع أن تخطي الرقاب منهي عنه- يدل على أن أمرًا في غاية الأهمية حمل النبيﷺ على هذا الإسراع، يقول: "فتخطى رقاب الناس إلى بعض حجر نسائه، ففزع الناس من سرعته -خافوا لابدّ أن هناك من الأمور المهمة المزعجة ما حمله على هذا الإسراع، فخرج عليهم فرأى أنهم قد عجبوا من سرعته فقال مبينًا لهم سبب هذا الإسراع والمبادرة: ذكرت شيئًا من تِبر عندنا.

يعني أنه تذكر ذهبًا عنده في بعض حجر نسائه، التبر هو الذهب، وبعضهم يقول: هو الذهب الذي لم يُصغ، وإنما هو قطع من الذهب، أو الذهب الخام، فالحاصل أنه ذهب غير مصوغ، فرأى أنهم قد عجبوا قال: ذكرت شيئًا من تبر عندنا، فكرهت أن يحبسني، فأمرت بقسمته رواه البخاري.

كرهت أن يحبسني يحتمل أن يكون المعنى كره أن يشغله التفكير فيه، فيكون ذلك صرفًا له عما هو بصدده من ذكر الله والتقرب إليه، وإقبال القلب عليه ، فيكون القلب مشغولاً بهذا الذهب، وقد يكون المراد فكرهت أن يحبسني أي: أن هذا مال لا يحق حبسه، فإذا حبسه العبد وأخره عن المحتاجين فإن ذلك قد يكون سببًا لمحاسبة العبد، والنبي ﷺ قال: الأكثرون هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا[2].

فالحاصل أن الإنسان يطول حسابه بقدر ما عنده من الأموال والأملاك وما أشبه ذلك لأنه يحاسب عن أشياء كثيرة جدًّا، بخلاف الذي يأتي وليس عنده شيء كثير فحسابه ينتهي سريعًا.

يقول: فكرهت أن يحبسني فأمرت بقسمته رواه البخاري، وفي رواية له: كنت خلَّفت في البيت تبرًا من الصدقة فكرهت أن أبيته[3] كره أن يبيته: يعني أن يبيت عنده، وإذا كان هذا من الصدقة بمعنى الزكاة فإن هذا أيضاً يدل على أن الزكاة لا يجوز تأخيرها بحال من الأحوال، ينبغي أن توصل إلى المحتاجين، وإنما يجوز التأخير في حالة، وهي ما إذا كان الذي ستعطى له الزكاة غائبًا كأن يكون هذا المال ألفًا، أو أقل أو أكثر لفلان سيعطى له زكاة؛ لأنه محتاج وبحثنا عن هذا الإنسان فقيل: مسافر سيأتي بعد أسبوع، سيأتي بعد عشرة أيام فعندئذ يجوز لنا أن نؤخر حتى يأتي، لكن لا يجوز للإنسان أن يؤخرها ويقول: حتى أتفرغ، حتى أثمر هذا المال، وكذلك لا يجوز له أن يؤخر فيقول: أنا سأؤخرها إلى رمضان، وهي قد حلت الآن، وكذلك أيضاً ليس له أن يؤخرها بمعنى أن يقول: أنا سأقسط هذه الزكاة على الفقير بدلاً من أن تضيع، أنا سأعطي كل شهر ألف ريال فبدلاً من أن أعطيه اثني عشر ألفًا دفعة واحدة أنا سأعطيه كل شهر ألفًا، فيستغني طول السنة، نقول: ليس لك ذلك، وإنما هذا يكون لوكيل الفقير، إذا ما تعطي الفقير اطلب منه أن يوكل إنسانًا ينوب عنه فتعطيها له وتتفق مع هذا الوكيل تقول: انظر إلى المصلحة فقسط هذا المال عليه، اشترِ به أغراضًا أو نحو هذا لهذا الفقير، لكن لا تذهب أنت بمال الزكاة وتذهب وتشتري له متاعًا وثيابًا وطعامًا، الزكاة أمرها ليس بالسهل، ففرق بين وكيلك أنت -تعطي واحدًا تقول: وصلها لفلان أو الفقير- هذا بمقامك لا يؤخرها أيضاً، ولكن وكيل الفقير يمكن أن يعطى ويقسط على الفقير، ولذلك الجمعيات الخيرية لا يجوز لها أن تستثمر أموال الزكاة تضعها في مشاريع استثمارية، أو في أسهم أو في عمائر تؤجر أو في غير ذلك من وسائل التثمير، الزكاة يجب أن تصل إلى الفقراء والمحتاجين والمستحقين، لكن يمكن أن يعطى هذا المال لوكيل لهم، بمعنى أنه لو مجموعة من الفقراء مثلاً في البلد وكلوا الجمعية، أو وكلوا إنسانًا وقالوا له: استثمر لنا هذا المال أو قسطه علينا على الشهور والأيام فهذا الأمر يكون لا إشكال فيه، أما أن يقوم وكيل المتصدق بالتصرف بهذا المال وتأخيره فليس له ذلك.

المقصود من هذا أن الإنسان يبادر، والله ذكر قومًا يتندمون عند موتهم وهم الذين يؤخرون حقوق الله ، كما قال الله : وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ [سورة المنافقون:10]، فيقول ابن عباس : "ما من أحد يكون عنده حق لله تعالى من مال زكاة أو نحو هذا ويأتيه الموت إلا وندم، ويتمنى الرجعة"، فقالوا له: اتقِ الله يا ابن عباس لا يتمنى الرجعة أحد له نصيب عند الله، فقال: اقرءوا إن شئتم هذه الآية.

أفضل الصدقة

والإنسان إذا كانت الدنيا خلف ظهره وهو عند الموت، الدنيا ليس لها قيمة، ما تساوي عنده قشة في تلك الحال، فليست هذه هي الصدقة ذات القيمة أن يقول: ثلث مالي صدقة في تلك الحال، إنما أفضل الصدقة أن تتصدق وأنت شحيح صحيح تؤمل البقاء والغنى وتخشى الفقر، فهذه هي الصدقة التي لها منزلة عند الله -تبارك وتعالى، والإنسان ينبغي أن يتأمل حال أولئك الذين يقفون نهارهم وليلهم عند الحرم عند المسعى عند المطاف من أجل عشرين ريالًا لعل أحدًا يأتيه فيدفع به في هذه السيارة، ما يدري يأتيه أحد أو ما يأتيه أحد أصلاً سائر اليوم، واقف، ومستعد يطوف في الدور الثاني ومستعد يطوف الليل والنهار من أجل القيمة الزهيدة، ولو لربما قيل لبعضهم: طف لوجه الله من الدور الثاني لربما رأى أن هذا في غاية المشقة، ولربما لو أنه طلب من الإنسان أن يطوف مرتين أو ثلاث مرات عند الكعبة لربما يستثقل هذا، لكن من أجل مال زهيد يجلس من الفجر إلى الليل وينام عندها ويستيقظ وهو لا يدري لعله لا يأتيه أحد أصلاً، فالمبادرة إلى الدنيا شيء عجيب، تجد الرجل يقف عند المسجد والبضاعة التي معه لربما لا تساوي بمجموعها خمسمائة ريال ويقف أوقاتًا طويلة سائر اليوم، ولربما وقف في الشمس، ولعله لا يكاد يقف عنده أحد، ولا يذهب إلى المسجد، وإنما يصلي بجانبها -إذا كان يصلي- من شدة حرصه على الدنيا.

أمّا ما عند الله من الأجور ودار النعيم المقيم فهذه للأسف الشديد نؤخر ونسوف، ونحسب حسابات كثيرة جدًّا، ولا يقول الإنسان: أنا فقير أو أنا ما عند شيء، لا، الكل، هذه القضية -التعلق بالمال- هي قضية مغروسة في نفوس الجميع لا فرق، الذي عنده ألف يريد أن تكون ألفين، والذي عنده مليون يريدها أن تكون مليونين، والذي عنده مليار يريدها تصير مليارين، والذي عنده متجر يريد متجرين، وإذا صار عنده اثنين يريدها أن تكون ثلاثة، وإذا هي ثلاثة يريدها أربعة، وإذا فتح مغسلة يريد أن يفتح ثانية، وإذا فتح ثالثة يريد فتح رابعة، ولو حصّل أن يسيطر على المغسلات التي في البلد وفي العالم كله لفعل، والذي عنده سيارة يؤجرها يريد واحدة معها وثانية وثالثة ورابعة، والذي يفتح مخبزًا يبغى أن يفتح ثانيًا وبعده ثالثًا وبعده رابعًا وبعده شبكة عالمية، ما في أحد يكتفي بما عنده ويقول: أنا عندي متجر ودكان ويكفيني والحمد لله، أو دخلي خمسة آلاف، أو دخلي عشرة آلاف، لا، الذي دخله عشرة آلاف يرى أنه قليل ويحتاج أنه يزيد، والذي دخله عشرون يرى أنه قليل يحتاج أنه يزيد، والذي دخله ألف يرى أنه قليل ويحتاج أنه يزيد، وهكذا الحياة الدنيا ليس هناك راحة إلا في الجنة، كل إنسان يرى أن عليه من زمانه، والعاقل هو الذي يتبصر في الأمور ولا يغتر.

فنسأل الله أن يرزقنا وإياكم الهدى والسداد، والغنى والعفاف، وأن يرحم موتانا ويشفي مرضانا، وأن يعافي مبتلانا، وأن يجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

 

مواد ذات صلة