الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
حديث «اصبروا فإنه لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه..»
تاريخ النشر: ١٩ / شعبان / ١٤٢٦
التحميل: 1626
مرات الإستماع: 3310

لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا هو الحديث السادس في "باب المبادرة إلى الخيرات"، وهو:

حديث الزبير بن عدي -رحمه الله- قال: أتينا أنس بن مالك فشكونا إليه ما نلقى من الحجاج، فقال: "اصبروا فإنه لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم، سمعته من نبيكم ﷺ"[1]رواه البخاري.

 أتوا إلى أنس بن مالك ، وهو ممن تأخرت وفاته وأدرك زمن الحجاج، ورأى ما رأى الناس من المظالم، والقتل الذريع، وقد وصف النبي ﷺ ذلك الرجل الذي يخرج من ثقيف بأنه مُبير، حيث أخبر ﷺ أنه يخرج من ثقيف مُبير وكذاب[2]، أما المبير فهو الذي يكثر القتل، يُبيد الناس، وهو الحجاج، وأما الثاني الكذاب فهو المختار الثقفي، فقد كان غاية في الكذب، كان قائدًا لابن الزبير أيام خلافته، وابن عمر كان متزوجًا بأخته ثم بعد ذلك تغيرت حاله، والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن، بهذه المنزلة، وبهذه القرابة، وهو قائد لابن الزبير وقتل كثيرًا من قتلة الحسين ثم ادعى أنه يوحى إليه، حتى إن ذلك بلغ عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- فقال: صدق، فإن الله يقول: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ [سورة الأنعام:121] هذا من وحي الشياطين، وكان إذا أخبر الناس عن شيء من الأمور الغيبية ثم لم يقع قال -قبحه الله: "قد بدا لله في هذا الأمر ما بدا"[3]، يعني كأن الله قد غير حكمه ورجع عما أراد قضاءه، وهذا -أعوذ بالله- في غاية الجرأة على الله -تبارك وتعالى.

فالحاصل أنهم شكوا إليه ما يلقون من الحجاج فقال: "اصبروا فإنه لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم"، هنا نسب الشر إلى الزمان "إلا والذي بعده شر منه"، مع أن ذلك لا يضاف إلى الزمان من حيث الأصل، ولذلك لا يجوز سب الدهر؛ لأن الله هو الذي يصرف الليالي والأيام، ولكن المقصود بذلك الوصف، فالفساد والشر يقع في أهل الزمان، وإلا فإن الزمان هو هو، ولكن الناس هم الذي يتغيرون، ولهذا لا بأس على سبيل الوصف أن يقال: هذا زمان سوء، أو أن يقال: هذا يوم عصيب، وما أشبه ذلك كما جاء في كتاب الله : وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ  [سورة هود:77]، فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ سورة القمر:19وما أشبه ذلك على سبيل الوصف لا على سبيل الذم والسب للدهر، فهذا لا يجوز، وهذا هو الفرق بين هذين الأمرين.

الحاصل أنه قال لهم بأسلوب الحصر: "لا يأتي زمان إلا والذي بعده"، وهذه أقوى صيغة من صيغ الحصر، معناها لا يكون زمان إلا والذي بعده قطعًا أسوأ منه، ولكنه أُشكل على هذا أن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- جاء بعد الحجاج، وزمن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- كان زمن العدل حتى عُد في الخلفاء الراشدين، وكان آية في العدل، ووصل إلى الناس حقوقهم، وصار الرجل يخرج بماله، بزكاته لا يجد من يقبل ذلك عنه، فقد اغتنى الناس في زمن عمر حتى إنه كما قال الإمام أحمد في المسند: وُجد في خزائن بني أمية لما سطا عليها بنو العباس، وُجد صرة فيها حب قمح الواحدة كالنواة، وقد كتب عليها رِقعة: هذا يخرج أيام العدل، يقال: إن ذلك كان من زمن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله.

فالأرض تخرج البركات في أيام العدل واستقامة الناس على دين الله ، المقصود هنا أن هذا إشكال كيف جاء زمن عمر بن عبد العزيز بعد الحجاج مع أن الحديث: "لا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم"، فكيف الجمع بين هذا وهذا؟

يمكن أن يقال -والله تعالى أعلم: إن المقصود بذلك الغالب، كما قال الحسن -رحمه الله- لما ذكروا له هذه القضية، وهو ممن طورد في زمن الحجاج، قال: لابدّ للناس من تنفيس، يعني أن الوضع قد يخف في بعض الوقت لكنه يرجع، ومثل هذا لا يؤثر في الحكم، بمعنى لو أردنا أن نرسم رسمًا بيانيًّا لأحوال الأمة، أو أحوال الناس فماذا نجد؟

نجد أن الخط البياني ينزل، لكنه إن ارتفع ارتفاعًا في بعض الأحيان فإن ذلك لا يعني أن القضية تحول مسارها وصارت إلى ارتفاع ونهوض وتغيرت الموازين، لا، يرتفع ارتفاعًا محدودًا في وقت بسيط مثل  عمر بن عبد العزيز في سنتين أو نحو هذا، ثم بعد ذلك يعود إلى مساره في الانحدار، فهذا الارتفاع في المؤشر الارتفاع اليسير لا يغير من خط الانحراف، أو خط الانحدار إذا نظرنا إليه بمجموعه، لكن الناس يعيشون الأيام التي يعاصرونها، أو السنوات فيبتهجون وتمتد آمالهم ويتفاءلون ويستبشرون، كما أنهم إذا حصل لهم نكبة أظلمت الدنيا في أعينهم وأغلقت الأبواب، وكأن هذا هو نهاية المطاف.

وهذا الكلام غير صحيح بطبيعة الحال، لكن الإنسان ينظر إلى هذا الخط من أوله فنجد أنه إلى ميل وانحدار، ولهذا جاء عن ابن مسعود أنه ليس أمير أفضل من أمير، ولا خِصب بعد جدب، يعني تأتي أمطار بعد جدب أو نحو هذا، ليس هذا هو المقصود "لا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شر منه"، وإنما المقصود بذلك كما قال ابن مسعود وهو من أحسن ما فسر به: هو ذهاب العلماء، فنحن لو نظرنا الآن مثلاً في وقتنا هذا: المطويات انتشرت، لوحات الإعلانات بضخامتها لا تتحمل هذه الإعلانات، المحاضرات في كل مكان، الكلمات، المطويات، الأشرطة، كل موسم تتحير، ولو فتحت في الإنترنت في المواقع الإسلامية تتحير ماذا تقرأ عن رمضان مثلاً، والاستعداد لرمضان، والوعي دخل في البيوت وانتشر، بينما الناس كانوا قبل خمسين سنة مثلاً ما يعرفون مبادئ لربما في الدين، وإذا أرادوا أن يسألوا أحدًا يسألون مطوع المسجد كما يقال، كيف يصلون إلى العالِم، ولا هناك وسائل اتصال، وليس هناك وسائل مواصلات، وليس هناك قنوات يمكن أن ينقل من خلالها الوعي للناس، وتبث هذه البرامج والدروس وما أشبه ذلك.

الآن تفتح صفحة في النقل الإسلامي، أو البث الإسلامي المباشر، تتحير ماذا تسمع من المحاضرات والدروس والدورات على كثرتها في كل مكان.

فأقول: هذا الوعي الذي انتشر هذا خير لكن لو قارنا قبل خمسين سنة أو أربعين سنة من ناحية الفتن، من ناحية العلماء الذين كانوا موجودين قبل أربعين أو خمسين سنة والآن، العلماء ينقرضون، نعم توزّع العلم، صار عند كثير من طلاب العلم والمدرسين والمثقفين لكن خزائن العلم العلماء، أين هم؟ هؤلاء ينقرضون، فعلى قول ابن مسعود : "ذهاب العلماء"، ففعلاً؛ ولذلك فسره بعض أهل العلم تفسيرًا يشبه هذا ولا يعارضه، قالوا: الآن إذا نظرنا إلى زمن الحجاج، وزمن عمر بن عبد العزيز بهذا الاعتبار، زمن عمر بن عبد العزيز زمن العدل، وزمن الحجاج زمن الظلم، لكن زمن الحجاج كان فيه بعض الصحابة أحياء، وزمن عمر بن عبد العزيز قد انقرض الصحابة جميعًا، فأيهما أفضل زمان يعيش فيه الصحابة أو زمان انقرضوا منه، في العلم، والفقه، وقلة الشرور والفتن، وما أشبه ذلك؟

لا شك أن الزمان الذي يعيش فيه الصحابة أفضل؛ ولهذا يقول النبي ﷺ: خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم[4]، فهذه القضية مستمرة "لا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شر منه"، يعني أردأ منه، وهذا مشاهد الآن كلما جاء جيل وإذا هو أضعف من الجيل السابق، أضعف في الحرص، والجد، والهمة في عمل الخير، والعلم النافع، وما أشبه ذلك، غاية الواحد منهم إذا قرأ مطوية كثر الله خيره، كان أصحاب المكتبات أولا يشتكون يقولون: ما يُشترى إلا الكتيبات، الآن حتى الكتيبات، صارت القراءة في المطويات، أما المجلدات والكتب وحضور مجالس العلم، وثني الركب والتفقه في الدين فهذا أمر صعب على كثير من النفوس.

فأقول: مثل هذا الحديث فيه عبرة، فينبغي للإنسان أن يكون ملتفتًا إلى ما ينفعه، محصلاً ما يرفعه، مشتغلاً بالأمور التي تعود عليه بطائل، ولا يلتفت إلى تقصير المقصرين، ولا ينشغل بانحراف المنحرفين عما هو بصدده من إصلاح نفسه، والدعوة إلى الله ، وتعلم ما ينفع، وما أشبه ذلك.

هذا، وأسأل الله أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. رواه البخاري، كتاب الفتن، باب لا يأتي زمان إلا الذي بعده شر منه، برقم (7068).
  2.  رواه مسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب ذكر كذاب ثقيف ومبيرها، برقم (2545).
  3. انظر: البداية والنهاية (6/ 237).
  4. رواه البخاري، كتاب الشهادات، باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد، برقم (2651)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، برقم (2533).

مواد ذات صلة