الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
حديث «قاربوا وسددوا..»
تاريخ النشر: ٢٢ / رجب / ١٤٢٦
التحميل: 2721
مرات الإستماع: 16571

قاربوا وسددوا

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فالحديث الثاني في باب الاستقامة -وهو الحديث الأخير في هذا الباب- :

حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: قاربوا وسددوا، واعلموا أنه لن ينجو أحد منكم بعمله،  قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل[1].

أي: أنه عليكم أن تعملوا، وأن تتقوا الله ما استطعتم، وأن تجتهدوا غاية الاجتهاد في تحصيل أسباب النجاة، وأنتم مع ذلك لن تستطيعوا أن تحققوا هذه النجاة بمجرد الأعمال، وذلك أن حق الله أعظم، ونعمه على عباده وعلى خلقه لا تحصى، ولو أن الأعمال التي يعملها الإنسان -هذه الصلاة التي نصليها وما أشبه ذلك من أعمالنا القليلة- وزنت بنعمة واحدة لما كافأتها، لربما يتذمر الإنسان أحياناً من الفقر والحاجة، أو المرض، أو نحو ذلك، ولو قيل له: هذه نعمة البصر بكم تبيعها؟ لا تقدر بالملايين.

لو قيل للواحد منا: نعطيك عشرة ملايين على أن تفقد بصرك، على أن تؤخذ العين، تتبرع بالقرنية لأناس آخرين يشترونها بهذه القيمة، يقول: لا.

فأنت في جانب البصر تملك ملايين، أو ما يعادل أو يزيد على الملايين، ولو جئنا إلى نعمة السمع كذلك، الإنسان إذا كان لا يسمع يفقد كثيراً، تجد الإنسان أحياناً يولد وهو لا يسمع فما يتعلم شيئاً ولا الكلام، فلا ينطق، ويجلس بين الناس يتحدثون ويضحكون، وهو ينظر ويشعر بالحرج الشديد بينهم، وإذا كلموه لم يدرِ كيف يجيب، ولربما يردد بعض الكلمات، الحمد لله، الحمد لله، ليفهمهم أنه قد سمع كلامهم، ولربما قال ذلك في غير موضعه، وهذا شيء مشاهد، ولذلك تجد الإنسان الذي لا يسمع يميل إلى العزلة عن الناس، لِمَا يشعر به من الحرج بسبب مخالطتهم، فلا يشاركهم في حديث وما إلى ذلك.

ولو نظرت إلى الإنسان في سائر أموره، في الأمور الدقيقة الكُلى مثلاً، أو الكبد، أو الطحال، أو القلب، أو غير ذلك، حتى الأشياء البسيطة الشعيرات الدموية، أو العصب الدقيق، أو نحو هذا، لو أن هذه الأشياء تعطلت، ما الذي يحصل للإنسان؟

فأقول: نعم الله كثيرة، فكيف للإنسان بشكرها؟ كيف يستطيع الإنسان أن يؤدي شكر هذه النعم؟، لا يستطيع إطلاقاً، فكيف بجميع النعم الظاهرة والباطنة؟

ولذلك مهما عمل الإنسان فإنه لن يكافئ نعمة الله عليه، لو بقي ساجداً إلى أن يموت فإن ذلك لن يكافئ هذه النعم التي حبانا الله بها، كيف بالأموال؟ كيف بالماء البارد؟، كيف بألوان المطعومات؟، كيف بإرسال الرسل والهدايات والعلم وما إلى ذلك؟، وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا [النحل:18].

ولذلك الإنسان لا يمتن على الله بالأعمال، ولا يقول: أنا أعمل، وأنا أصلي، وأنا أفعل الخير، وأنا أتصدق، وأنا أصوم، وإنما يتذكر جيداً أن هذا قليل، وهو من إنعام الله عليه، ويحتاج إلى شكر؛ لأن الذي وفقك إلى هذه الصلاة وهذا الصوم وحرم منه آخرين، وهداك للإسلام وضل عنه خلق كثير، فهذا يحتاج منك إلى شكر، إذا وُفقت إلى صلاة ركعتين تحتاج إلى شكر على هذه النعمة التي وفقت إليها، فكيف تكون في شكر محقق على كل شيء، على كل النعم، وأنت في كل شيء تبذله أو عبادة تقوم بها؟، فهذه نعمة من الله تحتاج إلى شكر آخر.

فالمقصود أن الإنسان لا يعجب بعمله، ولا يلتفت إلى أعماله القليلة ويرى أنها كثيرة، وإنما يتواضع لربه ، ويجتهد، ويكون له فقه في النظر في الأحوال والأعمال والقلب والنفس، وما لها من إقبال وإدبار، فيغتنم فترة إقبال النفس، ويتلطف بها في حال الإدبار، ولربما يحتاج إلى شيء من الترويح أو نحو ذلك، ويحملها على العمل الصالح بشيء من التدرج والمراعاة وما إلى ذلك، فلا يُقدم على أعمال فوق طاقته، ثم بعد ذلك ينقطع، ويمل العبادة، ولربما كرهها، ومقصود الشارع في تعبدنا بهذه الشريعة كما يقول الشاطبي -رحمه الله: الاستمرار.

وأحب العمل إلى الله أدومه وإن قل[2]، وكان عمل النبي ﷺ دِيمة[3]، إذا عمل شيئاً داوم واستمر على هذا العمل، كان إذا عمل عملاً –أثبته- يداوم عليه ﷺ، ولذلك الذي يداوم ولو على عمل قليل أحسن ممن يقبل أسبوعين، أو ثلاثة أسابيع، أو نحو هذا، يصلي نصف الليل، أو نحو ذلك، ثم بعد ذلك ينقطع ولا يوتر، أو يكره العبادة، يحمل نفسه على نوع من الصيام، يصوم يوماً ويفطر يوماً، أو يختم القرآن كل ثلاثة أيام أو نحو هذا، ثم بعد ذلك يثقل عليه الصيام، وكأنه عبء ثقيل وجبل، فيحصل له نفرة من التعبد، وهذا ليس من الفقه.

قاربوا وسددوا، لا تتركوا العمل، واجتهدوا، ولكن اعلموا أن هذا العمل لن تنجوا به، لن ينجيكم وحده، واعملوا أنه لن ينجو أحد منكم بعمله، يعني: أيّ أحد مهما كان مجتهداً، بمجرد العمل لن تحصل النجاة، قالوا: ولا أنت يا رسول الله، مع ما هو فيه من الاجتهاد، والقيام بحقوق الله ظاهراً وباطناً؟.

قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل، رواه مسلم.

يقول النووي -رحمه الله: والمقاربة: القصد الذي لا غلو فيه ولا تقصير، والسداد: الاستقامة والإصابة.

وقوله: يتغمدني أي: يلبسني ويسترني، قال العلماء: معنى الاستقامة لزوم طاعة الله تعالى.

وهذا لا يعارض قول الله حينما ذكر أهل الإيمان ودخولهم الجنة فقال: جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الواقعة:24]، فإن الباء هنا للسببية، وليست للمقابلة، ليست للعوض، والعمل لا يكافئ النعيم المقيم في الجنة ورضوان الله ، ولكنه سبب له فقط.

والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله تعالى (4/ 2169)، رقم: (2816).
  2. عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله ﷺ سئل: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: أدومه وإن قل. أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضيلة العمل الدائم من قيام الليل وغيره (1/ 540)، رقم: (782).
  3. عن إبراهيم عن علقمة قال: سألتُ أم المؤمنين عائشة قلت: يا أم المؤمنين، كيف كان عمل النبي ﷺ هل كان يخص شيئا من الأيام؟ قالت: لا، كان عمله ديمة، وأيكم يستطيع ما كان النبي ﷺ يستطيع. أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب القصد والمداومة على العمل (5/ 2373)، رقم: (6101)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضيلة العمل الدائم من قيام الليل وغيره (1/541)، رقم: (783).

مواد ذات صلة