الإثنين 23 / جمادى الأولى / 1446 - 25 / نوفمبر 2024
الحديث على آيات الباب (2-2)
تاريخ النشر: ٢٢ / جمادى الأولى / ١٤٢٦
التحميل: 2249
مرات الإستماع: 2436

قوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ}

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فمن جملة الآيات التي ذكرها الإمام النووي -رحمه الله- في صدر هذا الباب قوله -تبارك وتعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ [الفرقان: 58]، فالله -تبارك وتعالى- أمر بالتوكل عليه، وهذا الخطاب في ظاهره موجه إلى النبي ﷺ ومعلوم أن الخطاب الموجه إلى النبي ﷺ يتوجه إلى الأمة؛ لأنه قدوتها ﷺ إلا ما خصه الدليل.

وإذا كان النبي ﷺ وهو إمام المتوكلين يأمره الله أن يتوكل عليه، فغيره من باب أولى، أي: فوضْ أمرك إلى الله، واركن إلى جنابه، ولا تعلق قلبك بالمخلوقين، فإنهم أعجز من أن يملكوا لأنفسهم ضراً أو نفعاً فيمنحوك شيئاً من ذلك.

وهذا الوصف والأسماء التي ذكرها الله في هذا الأمر الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ في غاية المناسبة؛ وذلك أن المتوكَّل عليه إذا كان يموت فإن الرجاء به ينقطع، قد يركن الإنسان إلى مخلوق ينفعه ويدفع عنه بما يقدره الله له، ويعطيه ويوليه، ولكن الإنسان هذا يموت فيكون أمره كما قيل:

لكَ العزُّ إنْ مولاك عزّ وإنْ يهُنْ فأنتَ لدى بُحبوحةِ الهَوْنِ كائنُ

فهذا الإنسان الذي يعتمد على مخلوق قد يعتز به، ويركن إليه، ويتقوى به مدة من الزمن، يتمتع بهذا ثم بعد ذلك إذا صار إلى هوان أو فناء يكون مصيره مصير ذلك الإنسان الذي ركن إليه، أما الله -تبارك وتعالى- فهو الحي الذي لا يموت، فله الحياة الكاملة التي لا يعتورها نقص، فهو لا ينام، ولا يغفل، ولا يسهو، وذلك كما قال كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله: إذا كان لا يموت، ولا تأخذه سنة ولا نوم -لا تأخذه غفلة، فهو الذي يدبر أمر هذا العالم علويه وسفليه، وبيده أزمة الأمور- فهو الذي ينبغي أن تتوجه القلوب إليه.

قوله تعالى: {وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}

وقال: وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:122]، نأخذ من هذه الآية قضيتين:

الأولى: أن التوكل يجب أن ينصرف إلى الله وينحصر به، فلا يجوز أن يتوكل على المخلوق، حتى في الأمور التي يقدر عليها، فإن التوكل من العبادات المختصة بالله وصرفها لغير الله شرك، إن كان فيما لا يقدر عليه المخلوق فهو شرك أكبر، وإن كان فيما يقدر عليه المخلوق فهو شرك في الألفاظ، فلا يقول الإنسان لمخلوق: أنا متوكل عليك تُنهي لي القضية الفلانية، أو تنجز لي العمل الفلاني، لكن يقول: أنا متوكل على الله، لا يقول أيضاً: أنا متوكل على الله ثم عليك؛ لأن ذلك مختص بالله فقط، لكن ممكن أن يقول: أنا موكلك في هذا الأمر، وكلتك للقيام بهذا العمل، لكن لا يقول: أنا متوكل عليك، فالتوكل على الله، ولهذا حصره هنا بتقديم على وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ، مثل قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، يعني: نعبدك وحدك، ونستعين بك وحدك، لا نستعين بأحد سواك، بخلاف ما لو قال: وتوكلوا على الله، فالأولى تدل على أن التوكل مختص بالله، لا يجوز أن يصرف لغيره.

الثاني: قال:  وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ، ذكر الإيمان، فدل على أن هذا من شرطه، أو أنه من أخص أوصاف أهل الإيمان، أو من أعظم مقتضياته، فالتوكل على الله جزء لا يتجزأ من الإيمان، فإن الإيمان يعني أن يتوكل الإنسان على الله، ولا يتوكل على أحد سوى الله .

قوله تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ}

وقال: فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ [آل عمران:159]، الإنسان يستخير، ويستشير، ثم بعد ذلك يعزم على الأمر، ويفوض أمره إلى الله  فإن الله لن يضيعه، وإنما يكتب له ما فيه الخير.

قوله تعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}

وقال تعالى: وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3]، فهذه نتيجة، ولهذا يقول أهل العلم: لم يذكر جزاء معيناً، يقول مثلاً: ومن يتوكل على الله فله أجره، ومن يتوكل على الله نجزه بكذا، وإنما ذكر النتيجة المطلوبة للعبد المتوكل الذي يريد الكفاية، فذكر مباشرة هذا المطلوب، قال: وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ، أي: أن الله كافيه، هذا مثل قوله -تبارك وتعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء [الإسراء:82]، فلم يقل: دواء؛ لأن الدواء قد يصيب وقد يخطئ، وقد يناسب هذا ولا يناسب الآخر، لكنه قال: شفاء.

قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ...}

وقال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال: 2]، فذكر هذه الأوصاف الثلاثة، وجل القلب عند ذكر الله وزيادة الإيمان عند تلاوة الآيات، والتوكل على الله -تبارك وتعالى- وذكرها بصيغة الحصر إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَأي هم الذين بهذه الصفات الثلاث، وهذا يدل على أن هذه الأمور الثلاثة من الإيمان الواجب، بمعنى: إذا كان الإنسان لا يتحرق قلبه عند ذكر الله وإذا تليت آياته لا يزداد إيمانه، ولا يتوكل على الله، فإنه يكون قد نقص من إيمانه الواجب مما يستوجب معه الوعيد أو العقاب، إلا إذا غفر الله له، والسبب في ذلك هو أسلوب الحصر في الآية.

قال: والآيات في فضل التوكل كثيرة معروفة، ثم ذكر طائفة من الأحاديث.

أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

مواد ذات صلة