الجمعة 25 / جمادى الآخرة / 1446 - 27 / ديسمبر 2024
حديث «كان ملك فيمن قبلكم..» (7-9)
تاريخ النشر: ٢٠ / ذو القعدة / ١٤٢٥
التحميل: 2894
مرات الإستماع: 2690

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فكنا نتحدث عن حديث الغلام والساحر، وكان آخر ما تحدثنا عنه هو أن الملك أمر جنوده أن يأخذوا الغلام ويذهبوا به إلى جبل معين، ثم إذا صعدوا وبلغوا ذروته يلقونه من رأس ذلك الجبل إن لم يرجع عن دينه.

فدعا الغلام ربه، فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل فسقطوا، وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم الله تعالى.

قال: فدفعه إلى نفر من أصحابه، فقال: اذهبوا به فاحملوه في قُرقُور...، والمقصود به السفينة، بعضهم يقول: السفينة الكبيرة، وبعضهم يقول: السفينة الصغيرة، والعجيب أن هذا الملك لم يعتبر حينما رأى الجبل قد رجف، وأن أصحابه قد هلكوا، وأن هذا الغلام قد سلم، فإن ذلك يكون داعياً لكل مريد للحق، أو من في قلبه حياة أن يعتبر بما جرى، كيف يرجف الجبل، ثم يهلك هؤلاء، وينجو هذا الغلام، ثم يأتي إليه كأنه يتحداه؟، فهذه آية، وأمر خارق للعادة، ومع ذلك لم يحرك فيه ساكناً، ولا زال مصراً على غيه وباطله، ومحاربة ربه -تبارك وتعالى، فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور، وتوسطوا به البحر، فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه، فذهبوا به، فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فانكفأت بهم السفينة، فغرقوا، وجاء يمشي إلى الملك....

جنود الله ، الجبل رجف، والسفينة قد انكفأت، وأولائك سقطوا من شاهق فماتوا، وهؤلاء سقطوا في المائع فغرقوا، وهكذا الله يهلك هؤلاء الظالمين، ويُري الناس آياته، يريهم آياته تارة بالماء، وتارة برجفان الأرض واضطرابها وزلزلتها، وتارة بما يرسله عليهم من الأمراض، والأدواء، وتارة بما يحصل لهم من نقص الثمرات، فتصيبهم السنة، إلى غير ذلك مما يوقعه الله من بأسه وعقوبته للمكذبين.

ونحن لا زلنا نعيش هذا الحدث الكبير الذي يتحدث عنه العالم إلى اليوم، كان بعضهم يسأل عن الجثث التي بالآلاف في سومطرة، يقولون: لم نستطع أن نفعل شيئاً، وكونت لجنة من جميع المؤسسات الخيرية في إندونيسيا من الدعاة، وكونوا مؤسسة للإغاثة، يقولون: لم نصنع شيئاً، فالجثث بالآلاف تحت البيوت الخربة، وفي الشوارع، أصابها العفن مع المياه، واختلاط مياه الصرف الصحي مع مياه البحر، يقولون: نحن معرضون للمرض إذا دخلنا في هذه الأمكنة، فكانوا يسألون عن إحراق الجثث، هل يجوز أن تحرق جثث المسلمين؟ لأنهم لا يستطيعون الاقتراب منها، فهي بالآلاف، أعداد هائلة، ومن سافر إلى تلك البلاد، ورأى كثافة البشر والسكان فإنه لا يصدق أن العدد الذي يموت أربعة آلاف، أو خمسة آلاف، أو عشرة آلاف، الناس هناك كثرة كاثرة، فهذه من آيات الله ، ومثل هذه الآيات لا ينبغي أن توجه غير التوجيه الصحيح، كأن يقول قائل: انزلاقات أرضية، غضب الطبيعة كما يقول بعض المعلقين، كما لا يجوز التخرص فيها بغير علم، كما يقول بعض الجيولوجيين الذين يتكلمون عن الإعجاز، وتستضيفهم القنوات بكثرة هذه الأيام، يقولون: هذه بداية الزلازل، وتغير نظام الكون، بحيث إن الشمس أو الكرة الأرضية تبطئ في حركتها، فهم يقولون: إن ذلك تدريج حتى تخرج من مغربها، يحصل فيها تأخر تدريجي في الحركة –الشمس، ثم بعد ذلك تخرج من مغربها.

فنقول: لا، خروجها من مغربها بين الكاف والنون، كن فيكون، فإذا حبسها الله انحبست، ولا تحتاج إلى تراجع تدريجي، ولا تحتاج إلى آلاف أو ملايين السنين، لا يحتاج إلى هذا، في ليلة واحدة يقول لها: قفي، فتقف، ارجعي، فترجع.

قال: فانكفأت بهم السفينة، فغرقوا، وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم الله تعالى...، انظر إلى ثقة هذا الغلام بمبدئه على حداثة سنه، ومع ذلك لم يتردد، ولم يرهبه قتل أولائك أمام ناظره، ولم يرهبه صعود الشاهق، ولا ركوب البحر وتوسطه، لم يرهبه شيء من ذلك، بل كان يرجع إلى الملك، ويخبره بما جرى.

فقال: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به... يقول: مهما كررت المحاولات، فإنك لن تستطيع، وكأن الله ألهمه ذلك، أو أنه رأى فيه رؤيا، المقصود أنه لا يمكن أن يقول هذا إلا بعلم قد بلغه، فلن تستطيع أن تقتلني حتى تفعل ما آمرك به.

يقول: قال وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد... أي: مكان منبسط، مستوٍ، بحيث لا يتعذر على أحد منهم الرؤية والمشاهدة، فجميعهم يشاهد الحدث، فلا يكون فيه التباس أو خفاء أو تُطمر الحقيقة.

قال: وتصلبني على جذع، الجذع معروف، وهو جذع النخل، ويحتمل غير ذلك من جذوع الشجر، ثم خذ سهماً من كنانتي، الكنانة هي مثل الكيس الذي يوضع فيه السهام، وتوضع عادة خلف الظهر، وتوضع فيها السهام، فيسهل على صاحب النبل أن يأخذها، ثم ضع السهم في كبد القوس، أي: في وسطها، فهو يعلمه أموراً معلومة، والسهم إنما يوضع في كبد القوس، لكن أراد أن يلقنه طريقة يمشي عليها من أولها إلى آخرها، والعبرة في آخرها.

قال: ثم قل بسم الله رب الغلام والله هو رب كل شيء، وهذا الأمر تتعلق به معانٍ كثيرة، منها: أن هذا الغلام الذي تحدث الناس عن خبره قد استعصى على هذا الملك؛ لأن له رباً يحوطه ويحميه، فلا يستطيع أحد أن يصل إليه.

وأن ذلك الملك قد ادعى الربوبية، فهنا أراد أن يبين ويوضح: بسم الله رب الغلام، وليس ذلك الملك، كما قال السحرة حينما وقفوا أمام فرعون بعدما رأوا آية موسى قَالُواْ آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ ۝ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [الأعراف: 121-122]، قد يقول: أنا رب العالمين، أنا ربكم الأعلى، فموسى وهارون -عليهما الصلاة والسلام، هما اللذان كانا فَرقاً بين الناس.

وفرعون لم يعتبر بما حصل للسحرة مباشرة، فقد خروا سجداًً لله مباشرة، وجاء ذلك معقباً بالفاء التي تدل على التعقيب المباشر فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ [الشعراء: 46]، فلم ينتظروا، ولم يقولوا: نتشاور، ننظر، نعقد اجتماعاً، ثم نصدر بعد ذلك بياناً مشتركاً، بل سقطوا مباشرة لما رأوا العصا تنقلب إلى حية، وتبتلع ذلك الحشد الهائل الكبير من الحبال التي تتحرك فأفزعت الناس وأرهبتهم، فقد جاءوا بسحر عظيم، فلم يعتبر فرعون بهذا المشهد الرهيب، بل كابر وجعل ذلك من قبيل المكر والكيد المبرم بين موسى ﷺ وبين السحرة، لتُخرجوا منها أهلها، يقول: أنتم عملتم مكيدة لإخراج أهل البلد الحقيقيين من أجل الاستحواذ على ثرواتهم ومملكتهم.

وهذا إذا بلغ الكفر بالإنسان إلى درجة كبيرة جداً، واستحكم لا تنفع فيه الآيات والنذر، لكن كفر فرعون فيما يظهر كان أخف من كفر المعاصرين الذين لا تؤثر فيهم هذه الآيات والعبر العظيمة، فيقولون في الزلازل: إنها غضب الطبيعة، وهذا انزلاق في ألواح، فلسفة لا حقيقة لها، لكن فرعون لما أرسل الله عليه تلك الآيات: الجراد، والقمل، والضفادع، والدم، وأرسل عليه الطوفان كانوا يقولون: يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ [الزخرف: 49]، بعض العلماء يقول: الساحر يعني: العالم في لغتهم.

قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ [الأعراف: 134] فكانوا يرعبون إذا شاهدوا هذه الآيات، ويخافون، ويأتون إلى موسى ﷺ، لم يقولوا: هذا انزلاق، وهذه قضية طبيعية، والجراد هذا يتكاثر، ويأتي دائماً من إفريقيا، والدم هو عبارة عن تحول لجزئيات الماء فتتحول ويتغير لونها مع أشعة الشمس إلى الأشعة الحمراء والأشعة البنفسجية، فيتحول لون الماء إلى أحمر، ثم بعد ذلك هذا من الأشياء الطبيعية.

ولم يقولوا: هذه الضفادع الكثيرة تنامت بسبب الأحراش التي حول النيل، فنحتاج إلى مزيد من المبيدات، وجز تلك الأحراش، من أجل أن لا توجد فيها تلك الضفادع فنستريح من المشكلة، فلم يقولوا هذا الكلام، بل جاءوا إلى موسى ﷺ، وقالوا: ادع لنا ربك.

وهذا الملك أيضاً لم يعتبر ولم يرعوِ، مازال مصراً على قتل الغلام، ثم انظر فإن شدة حرصه على تحقيق مطلوبه من قتل هذا الغلام، والتخلص منه قد أعمته، فالغلام يلقنه أمراً من شأنه أن يؤمن الناس جميعاً.

فالأمر الطبيعي أنه بمجرد أن يسمع هذا الكلام، يقول: هذه لا تروج عليّ، لكنه عمي، لم يكن له هم إلا القضاء على هذا الغلام، فأعماه الله ففعل ما طلب منه الغلام، ولهذا يقول ابن القيم -رحمه الله:  تجد الرجل أحياناً يكون صاحباً لك، ومصافياً، وبينك وبينه من الود والمؤاخاة ما لا يقادر قدره، فإذا ولي شيئاً من الرئاسات تغير وتنكر، إلا من رحم الله ، فلربما لامه وتبرم به، وتعجب من إعراضه عنه، ومن تنكره له، ومن تغيره، ولا غرابة، فإن سكر الرئاسة أعظم من السكر الذي يحصل بسبب ما يتعاطاه من هذه الأمور التي تذهب عقله.

 ولذلك خذل الله هذا الملك، لم يتصرف التصرف الذي من شأنه أن يئد هذا الغلام وما يحمله من مبدأ، كأن يقول له: اذهب إلى أرض أخرى مثلاً، أو أن يحبسه ويكتم أمره عن الناس، فإن مثل هذه القضايا، ومثل هذه المشكلات قد تعالج بطريقة أو بأخرى، ويستغرب العقلاء، لماذا لم يسلك هذا الطريق أو ذاك؟! لماذا يصر على معالجة المشكلة بمثل هذه الطريقة التي لا تزيدها إلا اشتعالاً، وتفاقماً؟!.

ولكن الله إذا أعمى الإنسان:

يُقضى على المرءِ في أيام محنتِهِ حتى يَرى حَسَناً ما ليس بالحَسَنِ

أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

مواد ذات صلة