الثلاثاء 07 / شوّال / 1445 - 16 / أبريل 2024
حديث «كان ملك فيمن قبلكم..» (9-9)
تاريخ النشر: ٢٢ / ذو القعدة / ١٤٢٥
التحميل: 2885
مرات الإستماع: 2647

من فوائد قصة أصحاب الأخدود

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقبل أن ننتقل إلى الحديث الآخر في باب الصبر أختم بالتذكير بفائدتين فيما يتعلق بحديث الغلام والساحر والراهب:

أولا: أهل الباطل لا يفتئون، ولا يزالون يمعنون في تثبيت باطلهم ونشره، وهم في ذلك لا يتورعون من الإقدام على أبشع طرائق الإذلال، والتدمير والإهلاك والإفساد في الأرض في سبيل إقرار زيفهم وباطلهم، هؤلاء الناس الذين أحرقوا بلدة بأهلها، الصغار، والكبار، والنساء، يدل ذلك على أن أهل الباطل على أتم الاستعداد لارتكاب كل صعب وعظيم من أجل تثبيت دعائم باطلهم، لا يتورعون من القتل، ومن تخريب البيوت على أهلها من أجل الوصول إلى مطلوباتهم السيئة، وهم في ذلك كله لا ينظرون إلى قبيح فعلهم وإفسادهم، وإنما بالعكس تماماً ينظرون إلى أهل الحق، وإلى أهل الإيمان حينما يدافعون عن حقهم أنهم قساة، وأنهم مفسدون، وأنهم إرهابيون، وأنهم يستعملون الطرق التي لا تتلاءم مع معطيات العصر، حينما يدفعون غيرهم أو يتحدثون عن غيرهم ممن يخالفونهم في دينهم، أقول أين هذا الذي يدافع عن نفسه وعن بيته من ذلك الذي يفسد هذا الإفساد في الأرض؟، فما شأن ذلك الملك بهؤلاء الذين آمنوا بربهم؟، هذه قضية تحتاج إلى وقفة وإلى تأمل، أهل الشر يملكون إعلاماً هائلاً ضخماً، فيصورون حال هؤلاء الضعفاء الذين يدفعون عن حرماتهم وبيوتهم بأبشع الصور.

ويأتون إلى بعض الطيبين، ويقولون له: سجل ما شئت، فيسجل، ثم بعد ذلك يأخذون من هذه الساعات جملة أو جملتين ينتقونها بعناية، وهو في وقت قد احتدمت فيه نفسه، وبدأ يتحدث بحماسة، وغيرة عن مبادئه ودينه، فيأتون بهذه المقاطع القصيرة ويدبلجونها، ويزيفون منها فيلماً متكاملاً، يعرضونه على مئات الملايين من البشر.

يصورونه وهو ينطق بكلمة في وقت حماسة، فيقربون الكاميرا من فمه، فيبدو بصورة غير مستحسنة، لكن لو عرض البرنامج، وعرض التسجيل من أوله إلى آخره لكانت ملائمة في هذا الموضع، ويأخذون لقطة لهذا وهو يضرب بيده على الطاولة، ويقول مثلاً: ما أخذ بالقوة لا يرجع إلا بالقوة، وآخر يقول: ما أخذ بالدم لا يرجع إلا بالدم، ويبرزون صورة المسلمين بصورة دموية، وتذاع هذه البرامج، يسوقها ويروجها يهود ونصارى في غاية الحقد والكراهية للمسلمين.

فأقول: هم ينسون أنفسهم، ولا يتذكرون ما يفعلونه من أعاجيب الإذلال، والإفساد في الأرض، وينظرون إلى هذا الضعيف المستضعف المستذل حينما يدفع عن أهله أنه يقوم بعمل إجرامي وفساد كبير في الأرض.

ثم الناس أسرى لأفكارهم ومعتقداتهم، الفكرة تأسر الإنسان، والعقيدة تأسر صاحبها، انظروا إلى أصحاب الأخدود المرأة والطفل والكبير والجميع ثبتوا، فآثروا الاقتحام في النار على الرجوع عن دينهم، والبقاء في بهجة هذه الحياة -إن كان لها بهجة، الإنسان لا يمكن أن تصادر أفكاره بالقمع، ولذلك إذا أردنا أن نصلح فينبغي علينا أن نفكر بالطرق الصحيحة التي يمكن أن يستأصل بها الشر، فهذه المسألة تحتاج إلى تفصيل، صاحب الحق لا يمكن أن يُغلب بالقوة، القوة لا يمكن أن ترده عن دينه ومبدئه وعقيدته، صاحب الباطل ينبغي أن يُرد عليه، وأن تكشف شبهته، وأن يبين له ما هو فيه من الباطل فيعذر فيه أمام الله -عز وجل، ولا يُترك له مجالٌ للاشتباه والالتباس، فإن أبى إلا أن ينشر باطله، وأن يصر، وأن يعاند وركب هواه فإنه بهذا يكون من أهل الأهواء، فيجب ردعه وإيقافه عند حده، وهذا أمر لا خفاء فيه.

مقياس الربح والخسارة

القضية الأخرى: أن هؤلاء الناس فيما وقع لهم، وهذا الثبات العظيم الذي ثبتهم الله به أمام هذا التعذيب ذلك يدل على معنى يجب أن نقف عنده أيضاً، وهو ما هي الخسارة الحقيقية؟ قد يقول قائل: نحن خسرنا الغلام –مات، وخسرنا الراهب، وخسرنا بلدة من المؤمنين كاملة أتلفت، ففعلهم ذلك كان ينبغي أن لا يكون، كان ينبغي أن يظهروا شيئاً آخر لهذا الملك من أجل أن يُبقوا مهجتهم، فلا نخسر هؤلاء جميعاً، نحن نقول: أولاً هؤلاء لم يتقصدوا فعلاً من الأفعال يبلغون به هذه المبالغ، والحال التي وصلوا إليها، هم آمنوا بالله وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج: 8]، فلم يفعلوا شيئاً، ولم يقدموا على عمل من شأنه أن يستفز ذلك الملك.

فمقياس الربح والخسارة ليس بمقدار ما نحسبه نحن في حساباتنا الدنيوية، وإنما: وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء [آل عمران:140]، فالله اختار هؤلاء إليه، واصطفاهم، فذهبت نفوسهم في سبيل الله ، وهذا الدين يستحق بذل المُهَج.

وقد أشرت لكم في مجلس سابق إلى ما وقع لموسى ﷺ قبل النبوة، ولا شك أنه أفضل أهل الأرض في زمانه، فالله يصطفي الأنبياء من خيار الناس، عشر سنوات يرعى الغنم على بضع امرأة، المقابل –المهر: رعي أجرة، عشر سنوات يرعى فيها الغنم والناس أحوج ما يكونون إلى هذا الرجل الفاضل الخير الطيب، ففي مقاييسنا خسارة كبيرة جداً.

يوسف ﷺ ألقي في البئر، ثم بيع عبداً، وبقي في الرق، ثم بقي في الحبس بسبب تهمة قذرة فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ [يوسف:42]، فرجل مثل هذا يبقى هذه المدة الطويلة، ويحجب هذا الخير عن الناس في مقاييس البشر خسارة هائلة لا يمكن أن تقدر بثمن.

ومن وقعت له خسارة بسبب تصرف من التصرفات حينما تحجب بضاعة، أو تحجز بضاعة، أو غير ذلك، يبدءون يحسبون بالثواني، العداد لا يتوقف، مع أنهم ما دفعوا شيئاً يذكر، لكن هم يحسبون كم كان يمكن أن يربحوا في هذه المدة؟ فتأتيك أرقام لا تستطيع قراءتها.

فالمقصود أن مقياس الربح والخسارة ليس بمقاييسنا المادية، ولكن هنا ينبغي أن يعلم أن العبرة في ذلك كله أن يكون الإنسان متمسكاً بالحق، وهذا الكلام قد يقوله المبطل صاحب الباطل، ويقول: ليست العبرة بما نخسره، أو لا يحسب الحسابات الصحيحة من الناحية الشرعة، ميزان المصالح والمفاسد، ثم يقول: ليس من شأني أن أنظر في مثل هذه الأشياء، والخسائر والمفاسد التي تحصل للمسلمين جراء ذلك التصرف أو الآخر، نقول: لا يجوز لك ذلك، أنت مطالب بأن تنظر في مثل هذه الأمور بالنظر الشرعي، وأن تفحص نفسك هل أنت على حق أو على باطل؟

فمن الخسارة العظمى أن يهلك الإنسان وتذهب دنياه، وتذهب معها آخرته وهو يظن أنه على الحق، هذه مصيبة كبيرة، ولذلك قد تجد الإنسان يتمسك بفكرة، ويموت دونها أسوأ ميتة وهو في ظنه أنه ينصر الحق، وأنه صاحب الحق، هذه الأمور التي نشاهدها مِن قتلٍ، وما يحصل هنا وهناك في هذه البلاد، هذا إنسان يموت في سبيل نصر مبدئه، وهو ليس على الحق، ولكن ليت شعري من يُفهم هذا الإنسان أنه على الباطل؟

وأنه ما كان ينبغي له أن يصنع هذا الصنيع، وأن يموت هذه الميتة، ولكن أفكار الناس تأسرهم، وعقائدهم تأسرهم.

إذا كان الإنسان على الحق وابتلي فأمره إلى الله ، ليس ذلك بخسارة أن يصطفيه الله شهيداً، لكن المشكلة حينما يكون على غير الجادة وهو يظن أنه على الحق، فيبذل نفسه ومهجته، وما وراءه، وما دونه في سبيل هذا الباطل، هذه خسارة كبيرة جداً، ولذلك أقول: مثل هذه المسائل ينبغي الوقوف عندها، والنظر فيها، والتأمل فيها.

وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

مواد ذات صلة