السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
حديث «من يرد الله به خيرًا يصب منه»
تاريخ النشر: ٢٤ / ذو الحجة / ١٤٢٥
التحميل: 3126
مرات الإستماع: 36240

من يرد الله به خيراً

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فمن أحاديث الصبر ما رواه أبو هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: من يُرد الله به خيراً يُصِبْ منه[1] رواه البخاري.

وبعضهم ضبطها يُصَب منه، ومعنى ذلك: أن من أراد الله به خيراً في الدنيا وفي الآخرة برفع الدرجات، وحطِّ الخطايا والسيئات، وتعظيم الأجور فإنه يرسل إليه ألوان المكاره، فيصب منه في نفسه بالأوجاع والأمراض والهموم والأمور المؤلمة المتنوعة التي يسوقها الله إليه مما يكدر خاطره.

ولربما كان ذلك في ماله، ولربما كان ذلك في ولده، أو في من يحب، كل هذه الأمور يسوقها الله للمؤمن ليكون ذلك خيراً له، وإذا استشعر المؤمن هذا المعنى -أن ذلك لإرادة الخير به- فإنه لا مجال للحزن والحسرات التي تنتاب الكثيرين على ما فاتهم من هذه الحياة الدنيا، وما يقع لهم فيها من الأمور المشوِّشة، ومن الأمور المؤلمة، فإن ذلك يكون خيراً لهم، فالله إنما أراد بهم خيراً، فساق إليهم هذه المزعجات من أجل أن يرفعهم، وأن يكفر عنهم، وأن يتخففوا من الأحمال والأثقال من الذنوب والآثام التي ترهق كواهلهم، إذا تدبر المؤمن هذا المعنى فإنه لا يمكن أن يصاب بأمراض العصر كالاكتئاب والقلق، وما أشبه ذلك مما يقع فيه الملايين من البشر، ولا يمكن أن تصفو الدنيا لأحد، انظروا إلى من ذللولها، وصارت سهلة ميسورة بما فاقوا به غيرهم في العالم الغربي من ألوان التسهيلات التي قربت لهم البعيد، وهونت عليهم العسير، ومع ذلك هم أكثر الناس قلقاً وحزناً واكتئاباً، وكثير منهم يفر من جحيمها إلى جحيم آخر لا يُقادَر قدره، ينتحرون، يموتون من شدة ما يلاقون من اللوعة والألم والأكدار والأحزان، فلا يخلو أحد، وهي حياة قصيرة لا تستحق هذا كله، لا تستحق هذا القلق، والحزن، وإنما يسلّي الإنسان نفسه فيها، فأمس يومٌ قد ذهب، واليوم ينبغي للإنسان أن يعمل فيه ويجتهد، والغد لا يدري هل يُبلَّغ إلى الغد، أو لا يَبلُغه، وكم من أنفس تفتلت وتموت وتذهب قبل أن تبلغ الغد، فلا داعي للإنسان أن يقلق على أمور مستقبله من أمور معاشه، ولا داعي للقلق والحزن على أمور فاتت لا يمكن أن يردها الحزن والبكاء والنياحة والتفكير في ذلك الفائت الذي يجدد له حزنه مرة بعد مرة، هذا أمر لا طائل تحته، وإذا أردت أن تعتبر بحقيقتها وقيمتها الحقيقية انظر لما وقع لأولائك الذين خرج عليهم البحر فغمرهم بمياهه، ودمر كل شيء، إذا تذكرت صورتهم وهم يخرجون يفرون بدراجاتهم وعلى أقدامهم، وهذه تَنسى صغيرَها فتذهب تبحث عنه، وهذا يحمل طفلته، وامرأة تجر صبيها وما إلى ذلك، وهم يصيحون ويصرخون ويضجون، ويلتفتون وراءهم ينظرون إلى الماء وهو يلاحقهم، ثم بعد مدة ترى كل شيء قد تساوى في الأرض، والجثث قد اختلطت بالحطام، هؤلاء حينما فروا لا يلوون على شيء من الدنيا لم يقفوا، ولم ينتظروا يبحثون عن التحف ويأخذونها معهم، إنما أرادوا الفرار بأرواحهم وأنفسهم، الإنسان ينسى أهله، وينسى كل شيء في سبيل أن ينجو، يذكرك ذلك باليوم الآخر حيث ينسى الإنسان نفسه، يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحـج: 2] يخرجون من كل وجه، يسيرون، يسرعون كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ ۝ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ [المعارج:43-44].

فعلى الإنسان أن يعتبر بهذه المعاني، ويتذكر عند كل مكروه يقع له أنه إذا أراد الله بعبد خيراً يصب منه، فيكون ذلك مسلاة للنفس، يبعث فيها الطمأنينة والراحة، فلا ينزعجُ الإنسان، ولا يبقى يقلب جنبيه على فراشه من الهم يحرقه، ويقتله ويموت موتاً بطيئاً بسبب هذه الهموم والآلام.

من الناس من إذا تلمّس نفسه ووسوست له نفسه أن ثمّة علة في جنبه، أو في رأسه، أو في يده، أو نحو ذلك أخذته الأوهام من كل مكان، وجاءه ما قرُب وما بعُد من الأفكار، والخواطر السيئة، فبات مفكراً خائفاً منزعجاً قلقاً، ولربما لم تحمله رجله إلى الطبيب، فإذا أُخبر أنه ليس عليه بأس وليس به شيء قام وعاد إلى نشاطه، وقوته التي كان عليها، إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ۝ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ۝ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ۝ إِلَّا الْمُصَلِّينَ [المعارج : 19 - 22].

فنسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم، وأن يشرح صدورنا بطاعته، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأن يرزقنا وإياكم الصبر والثبات في الأمر وفي أحوالنا كلها، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب المرضى، باب ما جاء في كفارة المرضى (5/ 2138)، رقم: (5321).

مواد ذات صلة