الأربعاء 25 / جمادى الأولى / 1446 - 27 / نوفمبر 2024
حديث «قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل..» (2-2)
تاريخ النشر: ١٦ / محرّم / ١٤٢٦
التحميل: 3357
مرات الإستماع: 20716

شكونا إلى رسول الله ﷺ

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فكنا نتحدث عن حديث خباب بن الأرت حينما قال: شكونا إلى رسول الله ﷺ وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصرُ لنا، ألا تدعو لنا؟، فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار، فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه[1].

ثم قال النبي ﷺ: والله ليُتِمنّ اللهُ هذا الأمر يقصد به الإسلام، يعني: هذا الدين، أن الله يظهره على سائر الأديان، فيكون لأهله من القوة والمنعة والظهور ما ترتفع به هذه الغربة والأذى والعنت الذي يلقونه من المشركين، وفي قوله ﷺ: والله ليُتمنّ اللهُ هذا الأمر يؤخذ منه جواز الحلف من غير استحلاف، ولكن ينبغي أن يكون الحلف على الأمور المهمة العظيمة، وأن لا يكون بإكثار، فيكون الإنسان يَجري الحلفُ على لسانه في كل ما صغر وعظم، فهذا أمر يدل على استخفافه بمقام الرب .

ولذلك فإن القاعدة عند أهل العلم أن القسم لا يكون إلا بمعظم، والعبد لا يجوز أن يحلف إلا بالله ، وأسمائه وصفاته، فإذا كان الأمر كذلك فينبغي أن يكون الحلف على أمر له أهمية، أما أن يكون الإنسان مسترسلاً مع الحلف، يجري على لسانه في كل ما يقوله ويتكلم به من غير استحلاف فإن هذا أمر لا يليق، ويدل على لون استخفاف بالله ، فلو عظّم الله حق التعظيم لما اجترأ على هذه الأيمان، ولذلك تجدون في كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- باب ما جاء في كثرة الحلف، فالتوحيد يتحدث عن تعظيم الله ، وإجلاله، ودفع ما يضاد ذلك من الاستخفاف به .

فهذا الذي يحلف كثيراً على كل شيء لم يعظم الرب التعظيم الواجب، وقد أخبرنا الله عن المنافقين أنهم يكثرون الحلف، فقال سبحانه: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [المنافقون:2]، فهم يكثرون ويسرفون بهذه الأيمان، حتى صار ذلك ديدنهم فعبر الله بهذه العبارة: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ، وكذلك قال الله عنهم: إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ [المنافقون:1]، جاءوا بلفظ الشهادة، وجاءوا بـ "إنّ" التي تدل على التوكيد، وجاءوا باللام لرسول الله، وما طلب منهم أن يكرروا ذلك كلما دخلوا عليه -عليه الصلاة والسلام، وقد ذكر الله عنهم في سورة التوبة: يَحْلِفُونَ بِاللّهِ، يَحْلِفُونَ لَكُمْ، وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ كل ذلك يدل على استخفافهم بالمعبود ، فلم يعظموه حق التعظيم.

فيجوز للإنسان أن يحلف من غير استحلاف، لكن ينبغي أن لا يحلف إلا على الأمور التي تستحق الحلف، ولا يكون ذلك كثيراً يصدر منه دائماً ويسترسل معه، وإنما يكون ذلك قليلاً معدوداً، ولهذا تجد العلماء يؤلفون رسالة يعدون فيها المسائل التي حلف عليها النبي ﷺ مثلاً، وبعضهم ألف في المسائل التي حلف عليها الإمام أحمد -رحمه الله، فهي مسائل قليلة جداً، محدودة، محصورة.

وينبغي أن ينكر على من يكثر الحلف، فهذا لا يليق، وقد كان السلف -كما قال إبراهيم النخعي -رحمه الله:  يؤدبون صبيانهم على الحلف، ويضربونهم على ذلك، من أجل أن لا تعتاد ألسنتهم تكرار هذه الألفاظ، فهذا من تربية النفس، وتربية الإنسان لمن تحت يده تربية صحيحة يعظم فيها ربه.

قوله ﷺ: والله ليُتمنّ الله هذا الأمر، جاء باللام التي هي لام القسم، وقوله:ليتمن أي: ليكملنه، وقد حصل هذا، فقد قال الله : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [المائدة:3]، فكان تمامه أن اكتملت شرائعه العظام، ومبانيه الكبار، وأقرهم الله ببيته الحرام، لا يشاركهم غيرهم من سائر الملل والطوائف، وقد كان المشركون يحجون إلى بيت الله الحرام ويطوفون بالبيت عراة، فكان كمال الدين بهذا الاعتبار، كما قاله جمع من أهل العلم ككبير المفسرين ابن جرير الطبري وغيره، مع أنه نزلت بعض الآيات بعد هذه الآية، والصحيح أن هذه الآية ليست آخر ما نزل من القرآن، لكن إكمال الدين كان بما وصفت، والله تعالى أعلم.

قوله: ليُتمنّ الله هذا الأمر هذه قضية قطع فيها النبي ﷺ وحلف عليها، ولذلك قال الله : يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [التوبة:32]، وقال: يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف:8]، فنور الإسلام أعظم من نور الشمس، ولو اجتمع من على الأرض من الأولين والآخرين والجن والإنس الصغار والكبار مع دوابهم، وكل نفس منفوسة من البهائم وغيرها، وجعلوا ينفخون على الشمس فلا تتأثر الشمس.

فوالله إن دين الله أعظم وأجل وأكبر، ونوره أعظم من نور الشمس، فهؤلاء إنما يضرون أنفسهم، ولهذا قال ابن القيم -رحمه الله:

واللهِ لولا اللهُ حافظُ دينِهِ لتهدمتْ منه قُوى الأركانِ

لكثرة ما جرى على الإسلام من كيد الكُبّار من أعدائه قديماً وحديثاً، ولكن الله حافظ هذا الدين وناصره، وناصر من ينصر هذا الدين إذا صبروا وثبتوا واستقاموا على الطريقة، فهذا أمر ينبغي أن يستيقنه المؤمن، فلا خوف على الإسلام، الخوف علينا نحن، وإلا كم جرى من المكائد، وكم جرى من الحملات الضارية لإفساد هذا الدين وتحريفه وتبديله، ومع ذلك بقي الإسلام هو الإسلام، وانتهى التتر وغير التتر، وانقشعت تلك المحن التي جاءت بها المعتزلة، وامتحنوا فيها العلماء، وماتوا في السجون في فتنة خلق القرآن أيام المأمون ومن بعد المأمون من المعتصم وغيره، انجلت كل تلك الأشياء، وبقي الإسلام هو الإسلام شامخاً ظاهراً عزيزاً، وهكذا فسيبقى هذا الإسلام مهما كاد له الأعداء، لكن يتساقط أناس، ويتنازل آخرون، ويُفتن أقوام بسبب هذه الدعاية المضلة، فالخوف علينا، وليس على الإسلام، فهو دين الله، وهو يحفظه ويحوطه.

قوله: ليُتمنّ اللهُ هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت.. كانوا في وقت شدة، والإسلام لا زال في مكة، وخباب هو سادس ستة أسلموا، وكان يوضع على الجمر المحمى فلا ينطفئ -كما سبق- إلا من ودك ظهره، وبلال يوضع في درع الحديد في رمضاء مكة كما سبق، وأم أنمار تأخذ خباب وهي مولاته فتكويه في رأسه بالنار بالحديد المحمي، ومع ذلك يقول لهم النبي ﷺ: ليُتمن اللهُ هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت..، وهذا كوعد النبي ﷺ لسراقة لما لحق بالنبي ﷺ في وقت الهجرة، فقد وعده بسواري كسرى بن هرمز.

وقد كان الناس يسمون العرب ذباب الصحراء ويحتقرونهم، فرفعهم الله في فترة بسيطة جداً، فقد لبس سراقة بن مالك سواري كسرى في عهد عمر .

وفي قصة الخندق لما استعصت تلك الصخرة فضربها النبي ﷺ فاندق ثلثها، وخرج منها شرارة، فكبر النبي ﷺ وكبر أهل الخندق، ثم دقها ثانية فاندق ثلثها، ثم ثالثة وأخبرهم النبي ﷺ أنه في كل دقة رأى مرة قصور الشام، ومرة قصور فارس، ومرة قصور اليمن[2].

وهذا في وقت الشدة يبشر الناس، يكبر ويبشر الناس في وقت جوع وحصار، والمنافقون ترجف أفئدتهم من الخوف والهلع من حصار العدو للمدينة، فالنبي ﷺ في كامل الثقة بوعد الله -تبارك وتعالى.

ولذلك إذا ثبتم فأبشروا بالظفر والظهور والنصر، أما إذا تراجعتم وتنازلتم فأبشروا بخيبة، بعدها خيبة، بعدها خيبة، وليس لكم إلا الخيبة والتقهقر والهزيمة، فهذه سنة الله في الخلق، ومن خالفها فلا يضر إلا نفسه.

يقول: يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه معنى ذلك أن الإسلام ينتشر، ولا أحد يعتدي على أحد، وقد قال النبي ﷺ هذا الكلام في وقت خوف وشدة، وقطاع الطرق، وما إلى ذلك.

قال: ولكنكم تستعجلون فهذه الأمور لا يقيسها الإنسان في السنة التي يعيشها والسنتين والثلاث، هذه تحولات أمم، وانصهار حضارات، وإنما يحتاج إلى مدة أطول.

وفي الدولة الشيوعية في الاتحاد السوفييتي لعلكم رأيتم بعض الصور قبل أكثر من ثمانين سنة، كانت الجرافة تجرف الملايين، أكوام من البشر كالجبال قتلوهم، رجال ونساء وأطفال، ومن يستطيع أن يوقفهم، أو يقول لهم: لا، أو يقول لهم: حقوق إنسان أو حقوق حيوان؟، فثورة عارمة قتلت الملايين من البشر، تصور الناس الذين كانوا يعيشون في ذلك الوقت لو جاءهم واحد وقال لهم: أبشروا وهؤلاء سيتلاشون وينتهون، وهو ما يرى إلا هذه الأكوام أمام عينه، يحلم بها وهو مستيقظ وهو نائم، لكن خلال سبعين سنة هل يُعقل دولة بهذه الضخامة تسقط وتتلاشى وتنتهي؟!

فهذه الأمور لا تقاس بالسنة والسنتين، والله أرانا في هذا العصر لمن يعقل ويتبصر ويتفكر، وانتهت أسطورة الجيوش التي لا تقهر، وجيوش الظلام التي لا تباد، فرآهم الناس يتساقطون تساقط الفراش في النار، يدحرهم الصغير والكبير، ويقتنصونهم -أقول- كما تقتنص الدواب، وهم في غاية الذعر والذل والخوف، رجال يبكون كما تبكي النساء، هذا، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام (3/ 1322)، رقم: (3416).
  2. أخرجه النسائي في السنن الكبرى، كتاب الجهاد، غزوة الترك والحبشة (3/ 28)، رقم: (4385)، والطبقات الكبرى لابن سعد (4/ 83).

مواد ذات صلة