السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
معنى الصبر والحديث على آيات الباب
تاريخ النشر: ٢٤ / شوّال / ١٤٢٥
التحميل: 3117
مرات الإستماع: 3483

مقدمة باب الصبر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

أما بعد:

فهذا باب الصبر، والصبر: بمعنى حبس النفس عما ينبغي أن تُحبس عنه، فهذا التعريف يقرب معناه، وتفاسير أهل العلم في ذلك كثيرة: فمنهم من يفسره ببعض معناه، ومنهم من يفسره بشيء من لوازمه، ومنهم من يفسره ببعض آثاره، وقد مضى الكلام على ذلك مفصلًا في الأعمال القلبية، ولكن ما ذكرته يقرب المعنى، حبس النفس عما ينبغي أن تحبس عنه مما يقتضيه الشرع، وحينما نقول: مما يقتضيه الشرع فإنه يدخل في ذلك النقل والعقل الصحيح، وذلك أن العقل الصحيح من جملة أدلة الشرع، وبعضهم يقول: حبسها عما يقتضيه العقل أو الشرع، ولا حاجة لهذه المقابلة، الأفضل أن يقال: حبسها عما ينبغي أن تحبس عنه مما يقتضيه الشرع، وذلك بحبسها على طاعة الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه، وبالصبر على أقداره المؤلمة، وفي كل حال من أحوال هذا الصبر يكون له معنى، فحبس النفس عن الجزع حال المصيبة يقال له: صبر، وحبسها عند الصدمة يقال له: رباطة جأش، وحبسها في ميدان المعركة عند مصاولة الأعداء يقال له: شجاعة، وحبسها عند تحرك دواعي الشهوة يقال له: ثبات، وما إلى ذلك من الألفاظ والأسماء التي يعبر بها عن معنًى يتصل بالصبر في مقام من المقامات.

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ}

قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ [آل عمران: 200]، فهذا أمر بالصبر وبالمصابرة، والأمر للوجوب، فالصبر عما حرم الله واجب، والصبر على طاعته واجب، والصبر على أقداره المؤلمة واجب، وهذه كلها من الواجبات، فالصبر بهذا الاعتبار يكون واجبًا، إلا أنه في بعض صوره ومفرداته وحالاته قد يكونُ مستحبًا، وقد يكون مباحًا، وقد يكون محرمًا، وقد يكون مكروهًا.

فالصبر إذا كان على معصية الله فإنه يكون محرمًا، فقد يصبر الإنسان على أمور لا ترضي الله -تبارك وتعالى، مع ما يلقى من أذى الناس، ومن إنكارهم، ولربما يوصلون إليه أنواعاً من الأذى، ومع ذلك هو ثابت لا يلوي على شيء، فالصبر على المنكر أو على المعصية صبر محرم.

والصبر على الأمور المباحة: كأن يصبر الإنسان حتى يظفر ببغيته من ربح وتجارة، وبيع وشراء، أو تحصيل دين، أو نحو ذلك فهذا من الأمور المباحة، وقد يكون مستحبًا: إذا كان هذا الإنسان يصبر على أمور من محابّ الله مما لا يجب عليه، أو يصبر عن أمور من الأفعال المكروهة التي لا تحرم، فإذا امتنع عن ذلك وحبس نفسه فإن هذا الصبر يكون مستحبًا، وهكذا.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وهذا الأمر للوجوب، ولا شك أن ثمّة قدرًا واجباً من الصبر اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ المصابرة أعظم من الصبر وأبلغ، والأصل أن المفاعلة تكون بين طرفين، ولهذا فُسر اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ صابروا أي: في مجاهدة الأعداء، ومصاولتهم، ومدافعة الباطل وأهله وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ [البقرة: 251]، فالأول أمر بالصبر أن يصبر الإنسان على طاعة ربه، يصبر عن معصيته، يصبر على أقداره المؤلمة، ثم هو مأمور بأن يصابر؛ فإنه قد يلقى الأذى، ولابدّ له من أمر بمعروف ونهي عن منكر، ومدافعة لأهل الشر، فهذا يحتاج معه إلى مصابرة.

اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران: 200]، فهذه أمور أربعة تكون سببًا للفلاح، يعقبها الفلاح، يصبر الإنسان على مبادئه، ويصابر في مدافعته، ويرابط، وذلك بالثبات، فلا يتخلى، ولا يتراجع، ولا ينهزم، ولا ينكسر، مع تقوى الله -تبارك وتعالى، فإن ذلك حريٌّ أن يحقق الفلاح، وهو الظفر بالمطلوب والنجاة من المرهوب.

قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ}

وقال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ۝ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ۝ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة: 155-157].

وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ هذا مضمن القسم أي والله لنبلونكم، فهذا كما قال الله وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ من لطفه -تبارك وتعالى- أن ينزل البلاء بحسب أحوال العباد، وقد سئل النبي ﷺ: أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يعني: إذا علت مرتبته، وقوي إيمانه، وثباته، ويقينه كان البلاء في حقه أشدّ، فإذا كان فيه ضعف خفف عنه رأفة من الله ورحمة؛ لأنه ما ساق إليه البلاء من أجل أن يكسره، وإنما من أجل أن يمحصه، وأن يرفعه.

قوله: بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ قدم الخوف -والله أعلم- باعتبار أن الإنسان لا يهنأ بالطعام والشراب، ولا تحصل له الطمأنينة واللذة إلا إذا حصل له الأمن؛ فإن الإنسان إذا كان خائفًا لا يستسيغ الأكل ولا الشرب، ولا يهنأ بلذيذ طعام، ولا نوم.

وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ الاختبار والامتحان بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ كما قال الله : وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ نقص الأموال: بكساد التجارات، وقلة ذات اليد، والأنفس: بالموت، بما يقع من الحروب، والآفات، والعلل التي يموت الناس بسببها، والثمرات: تقل هذه بما يصيب الأشجار من الآفات، أو أن الشجر لا يثمر، أو يكون ثمره قليلًا.

قوله: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ۝ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ فهذا هو الأدب الذي يقال عند المصائب أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ فالله -تبارك وتعالى- يذكرهم في الملأ الأعلى، ويسددهم ويهدي قلوبهم.

قوله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ}

وقال سبحانه: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر: 10]. فيكمل لهم الأجر لكنه من غير حساب، أي: من غير عد، والعرب يعبرون بذلك ويريدون به الكثرة؛ لأن الشيء إذا كان قليلًا يكون معدودًا، أما الشيء الكثير جداً فإنه يقال: فلان يحثو المال، كما أخبر النبي ﷺ عما يكون في آخر الزمان، حيث قال: يكون في آخر أمتي خليفة يحثو المال حثواً، لا يعده عدا[2] فهذا يدل على الكثرة، فهنا يوفون أجرهم بغير حساب، يعني من غير أن يحسب ذلك لكثرة هذا الأجر.

وقال تعالى: أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ يعني: أبا بكر  أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [النــور: 22]، هذا كله في مِسْطَح الذي قذف عرض النبي ﷺ.

قوله تعالى: {اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}

قال تعالى: اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة: 153]. فالصبر هو أحد الركنين، وأحد العمودين اللذيْن يستعان بهما على التحمل لكل الأعباء، والتكاليف، والمشاق، سواء كان ذلك في القيام بوظائف العبودية، بفعل المأمورات واجتناب المنهيات، أو الاستعانة على ما يحصل للإنسان ويلاقي ويكابد من الأقدار المؤلمة، أو كان ذلك بسبب المكابدة في هذه الحياة لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد: 4]، فهو يكابد دائمًا، ويعاني، يخرج إلى هذه الحياة من بطن أمه باكيًا، ثم بعد ذلك يلقى ما يلقى من حر الصيف، وبرد الشتاء، وما إلى ذلك من أمور كثيرة، سواء في طلب الرزق، أو فيما يلقاه من ألوان الأذى والآلام، هذا كله يحتاج إلى استعانة عليه بهذين الأمرين: الصبر، والصلاة، ولهذا كان النبي ﷺ إذا حزَبَه أمر صلى[3]، وابن عباس لما نُعي إليه أخوه قُثَم وهو في طريقه إلى مكة نزل وقرأ هذه الآية: وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وصلى ركعتين[4]، فالإنسان إذا أصابته شدة، أو بلاء، أو مشكلة، أو ضائقة، أو جاءته مصيبة، أو خبر مفزع، أو كارثة ما عليه إلا أن يتوضأ ويصلي ركعتين، سيجد أن نفسه تهدأ وتسكن،  ويخف وقع المصيبة عليه، هذا في صلاة ركعتين أيها الأحبة، وهو شيء مشاهد معلوم، وكان النبي ﷺ إذا حزبه أمر صلى، فكيف بمن يحافظ على هذه الصلوات؟ إنه بلا شك يتحمل أكثر من غيره بكثير، يتحمل أعباء الحياة وتكاليفها، وما يحصل فيها من ألوان المتاعب، وأولائك الذين لا يعرفون الله، ولا يعرفون الصلاة سرعان ما ينكسر الواحد منهم، ولذلك تقرأ في التقارير المتنوعة التي تصدر حينًا بعد حين، هناك تقرير صدر في مصر قبل أربع سنوات تقريباً عن المخدرات، وتقرير آخر صدر عن الاكتئاب، فكانت كل هذه التقارير تؤكد أن هؤلاء الذين يبتلون بهذه البلايا لا يكون الواحد منهم من المحافظين على الصلاة، من جهة أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ومن جهة أخرى أن الصلاة تعين على التحمل والصبر، فالإنسان المحافظ على ذلك مباشرة يقول: الحمد لله، إنا لله وإنا إليه راجعون.

فأقول: المحافظة على الصلاة دومًا، وأيضًا في لحظة المصيبة يخفف عنه كثيرًا من ذلك، ويجد أن نفسه تستقر، ويتصرف بطريقة صحيحة في هذا الموقف الذي تضطرب فيه الأذهان، وتزل الأقدام، ويصدر عن كثير من الناس ما يستحي العاقل منه، مما يكشف العقول أحيانًا، والناس إنما تُعرف عقولهم غالبًا في مناسباتهم للأفراح والأتراح، كما قال النبي ﷺ: إنما الصبر عند الصدمة الأولى[5] كما أنهم في الأفراح يحتاجون إلى الصبر؛ لأن من الناس من يبدو عند الأفراح -كالزوجة والبنات والأولاد- في حالة من الخفة والطيش والمباهاة، ويتصرفون تصرفات لربما كانوا يعيبونها على الناس، فتظهر الأحلام والعقول في هذه المناسبات.

اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ يؤيدهم، ويسددهم، ويوفقهم، ويعينهم، ويثبتهم، كل ذلك يحصل منه -تبارك وتعالى- لهم.

وقال تعالى: قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [الأحزاب: 22]، هذا الذي وعد اللهُ رسولَه ﷺ، والراجح فيه ما قال ابن كثير -رحمه الله: إن المقصود أن الله وعد بالابتلاء الذي يعقبه التمكين والنصر، كقوله: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ إذن هذا الابتلاء من أجل أن يتبين وينكشف الحال، ويظهر الصابر من غير الصابر.

نسأل الله لنا ولكم الثبات واليقين، وأن يرزقنا الصبر، وأن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه الترمذي، أبواب الزهد عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في الصبر على البلاء، (4/ 601) برقم (2398)، وابن ماجه، كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء (2/ 1334) برقم (4023)، وأحمد، مسند باقي العشرة المبشرين بالجنة، مسند أبي إسحاق سعد بن أبي وقاص (3/ 78) برقم (1481).
  2. أخرجه أحمد، مسند المكثرين من الصحابة، مسند جابر بن عبد الله (22/ 298) (14406).
  3. أخرجه أبو داود، أبواب قيام الليل، باب وقت قيام النبي ﷺ من الليل (2/ 35) برقم (1319).
  4. أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، فصل في ستره على نفسه (12/ 173) برقم (9233).
  5. أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب زيارة القبور (2/ 79) برقم (1283).

مواد ذات صلة