الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
حديث "لم أتخلف عن رسول الله إلا في غزوة تبوك.." (3-7)
تاريخ النشر: ١٣ / شعبان / ١٤٢٥
التحميل: 2973
مرات الإستماع: 2684

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فلا زلنا نتحدث عن خبر كعب بن مالك حينما تخلف عن غزوة تبوك، وذلك أن النبي ﷺ حينما أقر هؤلاء الثلاثة وهم: كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية أن تخلفهم لم يكن بناء على عذر صحيح أمر النبي ﷺ بهجرهم.

يقول: "ونهى رسول الله ﷺ عن كلامنا أيُّها الثلاثةُ من بين من تخلف عنه، فاجتنبا الناس، أو قال: تغيروا لنا، حتى تنكرتْ لي في نفسي الأرض، فما هي بالأرض التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة".

لبثوا على ذلك خمسين ليلة، والمقصود أن هذا الهجر هو الهجر الشرعي، وهو الذي لا يُحد بأمد، إذ أن الهجر إما أن يكون لحظ النفس، لما يقع بين الناس من الشحناء والخصومة، فمثل هذا يحد بثلاثة أيام، وذلك من لطف الله ورحمته بالمكلفين؛ إذ أن الإنسان قد لا يستطيع أن يغالب نفسه في حال الحنق والمغاضبة، فيقع في نفسه شيء من الوحشة على أخيه، فرخص له الشارع أن يهجر ثلاثة أيام، فما زاد على ذلك فإنه لا يجوز أن يلقى صاحبه ثم يعرض بوجهه ولا يسلم عليه، وقد صح عن النبي ﷺ أنه قال: تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين، ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا، إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظِروا هذين حتى يصطلحا، أنظِروا هذين حتى يصطلحا، أنظِروا هذين حتى يصطلحا[1]، فأما إذا كان ذلك لمعنى شرعي فإن الهجر عندئذ لا يُحد بأمد، لا يحد بثلاث، وإنما يكون ذلك بحسب الحاجة، وذلك إما أن يكون لمصلحة الهاجر، أو لمصلحة المهجور أو للأمرين معاً.

مثل أن يكون هذا الإنسان وقع في بدعة، أو معصية، فإذا هجره هذا الإنسان ارتدع وترك ما هو فيه من الخطأ والانحراف، فمثل هذا يهجر، وأما إذا كان لا يرعوي ولا يتأثر ولا يكترث بهذا الهجر بل قد يزداد عتواً ونفوراً، فالهجر هنا لا محل له.

وكذلك إذا كان الذين يفعلون المنكر كُثُراً، بحيث إن الإنسان لو أراد أن يهجرهم لصار هو المهجور، فإن هذا لا هجر فيه، فلو أراد الإنسان الآن أن يهجر كل من يقع في معصية ظاهرة، كأن يقول: أهجر كل من يسبل ثوبه، أو يحلق لحيته مثلاً لصار هو المهجور، فهذا لا معنى له، ولا يصح هذا الهجر بهذا الاعتبار، إلا أن يقع في حق شخص معين يعلم أنه سيتأثر، ويترك ما هو فيه، أو يكون ذلك لمصلحة الهاجر، كأن يكون لا يسلم من شر ذي الشر إلا بهجره، كأن يكون إنسان عنده بدع، وعنده ضلالات، وعنده أذية للناس، فلا يسلمون من أذاه، فعندئذ يهجرونه، ولذا جاءت النصوص الكثيرة عن السلف في هجر أهل الأهواء والبدع، تارة لمصلحة الهاجر، وتارة لمصلحة المهجور، فهذا لا حد له، وهذا الهجر شرعي، وهو من أجل مصلحة المهجور ليرتدع.

فهؤلاء الصحابة شاركوا مع النبي ﷺ في سائر الغزوات، وقد تخلفوا عن غزوة واحدة فهُجروا خمسين ليلة، ودل ما ذكره كعب على أن هذا الهجر في محله.

قال: "تنكرتْ لي الأرض، فما هي الأرض التي أعرف، وتنكر لي الناس، وتنكرتْ لي نفسي"، فمثل هذا لا شك أنه يدل على عظم تأثر هذا الإنسان؛ حيث إن كل شيء تغير حوله، وتغيرت عليه نفسه، فهذا هو الهجر الذي يؤدب وينفع ويزجر صاحبه.

يقول: "فأما صاحباي فاستكانا"، أي: خضعا، غلب عليهما الحزن، والاكتئاب، وقعدا في بيوتهما يبكيان، "وأما أنا فكنت أشبَّ القوم، وأجلدهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف الأسواق، ولا يكلمني أحد".

وهذا يدل على انضباط المجتمع المسلم بأمر رسول الله ﷺ.

يقول: "وآتي رسول الله ﷺ فأسلم عليه، وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه يرد السلام أم لا؟، ثم أصلي قريباً منه، وأسارقه النظر –أي: أنظر إليه خلسة، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي، وإذا التفت نحوه أعرض عني، حتى إذا طال ذلك علي من جفوة المسلمين مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي".

أبو قتادة ابن عمه من بعيد، يعني: يجتمع معه في الجد الخامس بالنسبة لأبي قتادة، وبالنسبة لكعب في الجد السادس.

يقول: "وأحبُّ الناس إلي فسلمت عليه، فوالله ما رد علي السلام، فقلت له: يا أبا قتادة، أنشدك بالله -يعني: أسألك بالله- هل تعلمني أحب الله ورسوله ﷺ؟ فسكت، فعدت فناشدته فسكت، لأنه منهي عن محادثته، فعدت فناشدته، فقال: الله ورسوله أعلم، يقول: ففاضت عيناي، وتوليت حتى تسورت الجدار".

تصور هذا الحال، أقرب الناس إليه، وأحب الناس إليه لا يرد السلام، ويستحلفه هل تعلم أني أحب الله ورسوله ولا يرد عليه، فما بالك بالآخرين، ما بالك بمن يشمت أو يعاديه، أو بينه وبينه وحشة؟!، كل ذلك التزاماً بأمر رسول الله ﷺ، والحديث له بقية، أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين.

  1. أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب النهي عن الشحناء والتهاجر (4/ 1987)، رقم: (2565).

مواد ذات صلة