الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
حديث "لم أتخلف عن رسول الله إلا في غزوة تبوك.." (5-7)
تاريخ النشر: ١٦ / شعبان / ١٤٢٥
التحميل: 3291
مرات الإستماع: 3045

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فلا زلنا مع حديث كعب حينما تخلف عن غزوة تبوك، وحصل له ما حصل من الهجر، فلما تم له خمسون ليلة وهو على هذه الحال، حتى ضاقت عليه الأرض بما رحبت، فبينما هو على سطح بيت له يصلي صلاة الصبح، فجلس، فإذا هو بصارخ أوفى على سَلْع.

بصارخ: أي رجل يصيح بأعلى صوته.

"أوفى على سَلْع" أي: أنه صعد على جبل، يقال له: جبل سلع، وهو جبل معروف إلى اليوم، صغير، يقع في الناحية الشمالية الغربية قليلاً من المسجد النبوي، الآن لا يكاد يظهر مع البيوت.

وصعد على الجبل من أجل أن يكون ذلك أبلغ وأسرع من ركوب الفرس، وهذا يدل على ما كان عليه أصحاب النبي ﷺ من المحبة، والوفاء، والترابط، والمؤاخاة، يسرهم ما يسر أخوهم، ويسوءهم ما يسوءه، حتى إن الواحد منهم يستبطئ أن تصل البشارة وهو على فرس وهو أسرع ما يمكن في ذلك الحين، فيصعد على الجبل ويصيح بأعلى صوته، ومع هذه المحبة، والأخوة العظيمة التي كانت بينهم لمّا أمرهم النبي ﷺ بهجرهم استجابوا لهذا الأمر.

فأقول: هذا يبين مرتبة ذلك المجتمع، والانضباط مع أحكام الله ، وأمْر رسوله ﷺ، هذا الصارخ جاء عند الواقدي أنه أبو بكر الصديق ، وجاء في رواية في الصحيح أنه رجل من أسلم[1].

صعد وصاح بأعلى صوته يا كعب بن مالك أبشر، والبشارة في الأصل هي الإخبار بما يسر، وقيل لها ذلك لظهور أثرها على بشرة المبشر من السرور، والبهجة، والفرح، وما إلى ذلك.

وقد تقال فيما يسوء الإنسان، كما في قوله -تبارك وتعالى: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الانشقاق: 24] وكما في قول الشاعر:

وخيلٍ قد دلفتُ لها بخيلٍ تحيةُ بينِهم ضربٌ وجيعُ

يعني: التحية جعلها الضرب بالحديد، بالسيوف.

وقول الآخر:

يبشرني الغرابُ ببينِ أهلي فقلت له ثكلتُك مِن بشيرِ

فلما سمع كعب بن مالك ذلك، قال: "فخررت ساجداً"، عرف أنه قد تاب الله عليه؛ لأنه لم تكن ثمّة قضية تؤرقه، وتهمه، ويحتاج أن يُبشَّر بها سوى هذه القضية، فخر ساجداً، وهذا من الأدب الشرعي في مثل هذه المقامات، إذا حصل للمؤمن أمر محبوب يستحب له أن يسجد لله شكراً.

وبعض أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية يرى أنه لا يشترط له طهارة، ولا استقبال قبلة، فيهوي على حاله ويسجد.

قال: "وعرفت أنه قد جاء فرج، فآذن رسول الله ﷺ الناس بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر".

الآيات نزلت على النبي ﷺ في بيت أم سلمة، في آخر الليل، فسألت النبي ﷺ هل تخبر الناس؟ فنهاها النبي ﷺ من أجل أن لا يدهمهم الناس، سيتحول ذلك الليل إلى نهار، وإنما تمهل النبي ﷺ حتى صلى الفجر، فأخبرهم بذلك، وآذن الناس: أي أعلمهم ﷺ بهذه التوبة العظيمة على هؤلاء الثلاثة الذين خلفوا.

يقول: "فذهب الناس يبشروننا"، أي: انطلقوا يبشرونهم، كأني أراهم يخرجون من المسجد في غاية البهجة، والفرح ليبشروا هؤلاء الثلاثة.

يقول: "فذهب قِبَل صاحبيّ مبشرون "، يعني: ذهب إلى ناحيتهم، وهم: هلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، وقد  ذهب سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل إلى هلال بن أمية يبشره، فوجد أن الرجل قد أنهكه الحزن والبكاء، فما استطاع أن يمشي إلى المسجد، فأركبوه على دابة، وحملوه إلى رسول الله ﷺ من شدة ما كان به من الإعياء، وذهب إلى مرارة بن الربيع سِلْكان بن سلمة، وقيل: سلامة بن سلمة.

يقول: وركض إليّ رجلٌ فرساً يعني: الجري الشديد، وسعى ساعٍ من أسلم قِبَلي، وأوفى على الجبل، يعني: الذي بشره اثنان، رجل على أعلى الجبل بصوته، والآخر ذهب جرياً كجري الفرس، ليبشره ويسبق بالبشارة.

يقول: "فكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبيّ".

الذي جاء على الفرس، بعضهم يقول: هو المقداد، وبعضهم يقول: الزبير، وبعضهم يقول غير هذا، فالمقصود أن الصوت وصله قبل ذلك.

يقول: فلما جاءني الذي سمعت صوته على الجبل نزعت له ثوبيّ، من شدة الفرح، ما عنده شيء يعطيه فنزع له ثوبه وكساه إياه، وهذا ما يسمى بالخُلَع، وهو ما يُكساه المبشر، من جاء بالبشارة يكسى مكافأة له على بشارته، وهذا يدل على أن الذي يستحق البشارة هو الأول إذا تعدد المبشرون.

يقول: "نزعت له ثوبيّ فكسوتهما إياه ببشراه"، وهذا يدل على مشروعية مكافأة المبشر، يقول: "والله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت أتأمّم رسول الله ﷺ، أي قصد النبي ﷺ.

يقول: "يتلقاني الناس فوجاً فوجاً يهنئونني بالتوبة"، الناس يتلقونه فوجاً فوجاً أي جماعة جماعة، وهذا يدل على عظم هذه التوبة، وعلى عظم محبتهم له، وعلى الحال التي كانوا يعيشونها في الخمسين ليلة هذه، ويدل أيضاً على مشروعية التهنئة، وكما أنه تشرع البشارة في الأمور السارة فكذلك أيضاً تشرع التهنئة، ولا يُتوقف في مثل هذا؛ لأنه مما تدعو إليه مكارم الأخلاق، ومحاسن العادات، وقد جاءت هذه الشريعة على أرفع الأحوال وأكملها، وبعض الناس يتردد ويتحرج، ويقول هل نهنئ بالعيد؟ هل نهنئ ليلة رمضان إذا أعلن هلاله أو لا؟ نقول: هذه من الأمور السارة، مما يُفرَح به؛ لأن الأمور التي يُفرَح بها على ثلاثة أنواع: الأول: الفرح بالأمور والمكاسب الدينية، كانتصار الإسلام، وكتحصيل أمور كهذه التوبة وما إلى ذلك، قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58] كما تفرح بحفظ ولدك للقرآن، وكما تفرح بدخول شهر رمضان وما إلى ذلك من الأمور السارة، وهذا أعلى أنواع الفرح وأعظمه.

الثاني: الفرح بالأمور المباحة، كفرحه إذا نجح في الاختبار، وفرحه إذا حصّل ربحاً في تجارته ونحو ذلك.

الثالث: الفرح على تحصيل معصية الله ، والملاذ المحرمة، فهذا فرح محرم، ومذموم.

قال: "يهنئونني بالتوبة، ويقولون لي: لِتَهْنِك توبةُ الله عليك، حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله ﷺ جالس حوله الناس، فقام طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني، والله ما قام رجل من المهاجرين غيره".

طلحة بن عبيد الله من العشرة المبشرين بالجنة، قام يهرول أي: يمشي مشية سريعة بين المشية المعتادة وبين الجري، يهرول من شدة الفرح، يدفعه هذا الفرح دفعاً، فتتحرك خطاه بسرعة.

يقول كعب: ما قام رجل من المهاجرين غيره، وهذا يدل على أن التهنئة تكون بالمصافحة، ويدل على أنه لا بأس بالقيام للرجل القادم.

فإذا قدم إنسان هل نقوم له أو لا؟  فبعض أهل العلم كالحافظ ابن القيم -رحمه الله- يجعل القيام على أنواع:

القيام على الشخص، كالذين يقومون على العظماء فهذا لا يجوز، وهذا الذي قال فيه النبي ﷺ: إنْ كدتم لتفعلوا فعل فارس والروم، يقومون على ملوكهم[2]، وذلك لما صلى جالساً وصلى أصحابه خلفه قياماً، فهذا القيام لا يجوز، فهو قيام تعظيم.

النوع الثاني: القيام إلى الشخص الداخل، فيقوم إليه يمشي لاستقباله، فهذا لا إشكال فيه وهو للإكرام.

النوع الثالث: وهو مختلف فيه، وهو القيام له للسلام عليه ومصافحته، فهذا من أهل العلم من كرهه، وقال: هذا مما ذكر النبي ﷺ، وكان يكره أن يقوم له أصحابه، فيقال: مثل هذا على كل حال ينظر فيه، فإذا كان هذا الإنسان ممن يستحق كالوالد، أو العالم، أو الإنسان الإمام العادل، أو الرجل الكبير في السن أو نحو ذلك فلا بأس أن يقام له، ولو تحرك الإنسان خطوات نحوه، فهذا أحسن، وأما القيام له إذا كان يقع في خاطره ونفسه أنك متكبر، وتتحول القضية إلى شحناء وعداوة فقم واقطع باب الشر، وأما إذا كان هذا الإنسان فاجراً لا يستحق القيام، معلناً بفسقه، فإنه لا يقام له ولإكرامه، إلا أن يترتب على ذلك مفسدة، وأما القيام لغير السلام والمصافحة فيقوم إذا دخل، ويجلس إذا جلسوا فهذا أمر لا يسوغ إطلاقاً، ولا ينبغي لأحد أن يقوم هذا القيام، ولا لهذا القيام، ولا فائدة فيه إلا مزيداً من المذلة والمهانة التي لا يرضاها المسلم لنفسه بحال من الأحوال.

وفي قصة بني قريظة لما جاء سعد بن معاذ ، ليحكم فيهم، وكان قد جرح بأكحله فجيء به من المسجد على حمار، فلما وصل قال النبي ﷺ لأصحابه وقومه -وهم الأوس: قوموا إلى سيدكم[3].

فمن أهل العلم من حمل هذا الحديث على جواز القيام، ومنهم من قال: هذا قيام إليه، يعني: يمشون إليه لاستقباله، ومنهم من قال: هذا قيام له من أجل أن يعينوه وينزلوه من الحمار؛ لأنه جريح مريض، ومنهم من قال: ليكون ذلك أنفذ لحكمه؛ لأنه الآن سيحكم في بني قريظة، وقد حكم فيهم بقتل جميع من يقدر على حمل السلاح، ممن شارك في القتال، ومن لم يشارك، وسبي الذرية والأموال، فهو حكم ليس بالسهل، فعددهم بين الأربعمائة والسبعمائة، يقتلون.

وانظر كيف اعتد كعب بن مالك بهذا الفعل البسيط من طلحة ولم ينس هذا الفعل، وقال: ما قام إليّ أحد من المهاجرين غيره، فهذا يدل على أن الإنسان قد يفعل فعلاً بسيطاً يكون له أبلغ الأثر، وهذه أمور كثيراً ما نفرط فيها ولا نتنبه لها.

لما كنا ندرس في الجامعة في مرحلة الماجستير كان لنا زميل، وكان ضعيف العلم والعمل وحتى الرأي، ودخل بطريقة أو بأخرى في برنامج الدراسة، فكان الجميع لا يرتضون سيرته، ولا يرتضون طريقته في التعامل، والمحادثة، والمناقشة، وليس في العلم ولا في العمل، لا في العِير، ولا في النفير، فغاب ثلاثة أسابيع أو شهراً، ولم يسأل عنه أحد، فجاء فجأة فدخل والشيخ يشرح، وكان العدد قليلاً خمسة أو ستة، فقمت من بينهم أثناء الدرس -والشيخ يشرح- فعانقته وسلمت عليه، فجلس، فمرت الأيام فغضب عليهم غضبة لسبب آخر فيما بعد، فإذا هو يتكلم بشعور أو بغير شعور، فكنت ألاطفه وأهدئه، وأقول له: هؤلاء إخوانك، وما ينبغي أنك تحمل عليهم، وتنظر إليهم بسوء الظن هذا كله، فذكرني بهذا الحدث، وقال: تذكر حينما أتيت، وكنت قد انقطعت هذه المدة، وكنت في المستشفى ما قام إليّ أحدٌ غيرك، هذا يدل على أن هؤلاء الناس لا يعبئون بحقوق الأخوّة، ولا يرفعون لي رأساً، ولا يكترثون بي.

تصرف بسيط لم يكن محسوباً انظر كيف أثر فيه، فأقول: يا إخوة كلمة بسيطة، مواساة بسيطة لإنسان مريض، زيارته لا تكلفك شيئاً، قد تكون علاقتك فيه سطحية، لكن هذه الزيارة تزرع في نفسه أبلغ الأثر، أعرف بعض الناس اهتدى وكان مسرفاً على نفسه، ولا يحب أهل الصلاح والفضل بسبب زيارة، أنه مرض فما زاره أحد من أصحابه، وزاره أحد الصالحين الذين كان ينتقدهم ويعيبهم، فما نسيها له، واستقام وصلحت حاله، بسبب زيارة.

وأنا كنت أعجب من تصرفات أراها من بعض الطلبة، الأستاذ يأتي وليس له كرسي، ولم يجد مكاناً يجلس عليه، فيذهب يبحث الأستاذ بنفسه ويأتي بكرسي ويضعه، والذي نعرف وعهدنا عليه الناس أن الطلاب يتسابقون يحضرون له، وإذا خرج فتحوا له الباب، فأتينا قوماً لا يرفعون لهذه الأمور رأساً، ولا يكترثون لها، ولا يعرفونها.

فسألت مرة في مناسبة من المناسبات أحد الطلاب، قلت: أنا أعجب من هؤلاء الطلاب، أنا لا تحملني الأرض وأرى إنساناً أكبر مني يبحث عن كرسي، فقال: لا، هذه نظرة أخرى، حتى لا يفسر ذلك بالملق، فيترك ما يجمل ويحسن حتى لا يقال عنه: إنه متملق لأستاذه.

فأسأل الله أن يوفقنا وإياكم للخير، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب حديث كعب بن مالك وقول الله : وعلى الثلاثة الذين خلفوا (4/ 1603)، رقم: (4156)، ومسلم، كتاب التوبة، باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه (4/ 2120)، رقم: (2769).
  2. أخرجه البخاري في الأدب المفرد، باب قيام الرجل للرجل القاعد (1/ 327)، رقم: (948)، وصححه الألباني.
  3. أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب مرجع النبي ﷺ من الأحزاب ومخرجه إلى بني قريظة ومحاصرته إياهم (4/ 1511)، رقم: (3895)، ومسلم،  باب جواز قتال من نقض العهد وجواز إنزال أهل الحصن على حكم حاكم عدل أهل للحكم (3/ 1388)، رقم: (1768).

مواد ذات صلة