الأربعاء 02 / جمادى الآخرة / 1446 - 04 / ديسمبر 2024
حديث «يغزو جيش الكعبة..» ، «لا هجرة بعد الفتح..»
تاريخ النشر: ٢٩ / ربيع الآخر / ١٤٢٣
التحميل: 5901
مرات الإستماع: 20538

يغزو جيش الكعبة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب الإخلاص وإحضار النية في جميع الأعمال والأقوال البارزة والخفية أورد المصنف -رحمه الله-:

حديث أم المؤمنين أم عبد الله عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله ﷺ: يغزو جيش الكعبة، فإذا كانوا ببيداء من الأرض يُخسف بأولهم، وآخرهم، قالت: قلت يا رسول الله، كيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم؟ قال: يخسف بأولهم وآخرهم، ثم يبعثون على نياتهم[1]. متفق عليه، وهذا لفظ البخاري.

قوله: عن أم المؤمنين أم عبد الله عائشة -رضي الله عنها، مضى في بعض المناسبات أن عائشة -رضي الله تعالى عنها- لم يكن لها ولد، وإنما هذه الكنية كانت بابن أختها أسماء كنيت بعبد الله ابن أختها، وهو عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما- وذكرنا هناك أنه لا بأس أن يكنى الإنسان بغير ولده، وقد يكنى بمن لا وجود له أصلاً، يعني: هذه عائشة -رضي الله عنها- كنيت بابن أختها بعبد الله بن الزبير .

عمر أبو حفص ليس له ولد يقال له حفص، ولم تكن هذه الكنية باعتبار معين يقال له حفص، وإنما حفص من أسماء الأسد.

وعلى كل حال حتى لو كان الإنسان له أولاد فيمكن أن يكنى بغير ولده، الأمر في هذا واسع.

تقول: قال رسول الله ﷺ: يغزو جيش الكعبة، فإذا كانوا ببيداء من الأرض يُخسف بأولهم وآخرهم.

في حصار ابن الزبير لما جاء جيش من الشام -كما هو معروف- حُدِّث بهذا الحديث، حدثت به أسماء -رضي الله تعالى عنها، وبعض من روى عنها هذا الحديث كان يقسم أن ذلك لا يراد به هذا الجيش الذي جاء من الشام، مع أنه جاء في بعض الروايات ما يدل على أن هذا الجيش يتوجه إلى رجل من قريش يعتصم بهذا البيت، ففهم بعضهم أن المراد به ابن الزبير وأن هذا الجيش هو الجيش الذي جاء من الشام، ثم انكشف الأمر بعد ذلك إلى أن هذا الجيش غير مراد؛ لأنه لم يخسف بهم، وهذا فيه فائدة: وهي ترك التسرع بتنزيل هذه النصوص على وقائع قد نعيشها ونراها ونشاهدها، ثم يكون ذلك التنزيل واقعًا على غير محله.

فهم بعضهم أن المراد به ابن الزبير وأن هذا الجيش هو الجيش الذي جاء من الشام، ثم انكشف الأمر بعد ذلك إلى أن هذا الجيش غير مراد؛ لأنه لم يخسف بهم.

يغزو جيش الكعبة الكعبة قيل لها كعبة باعتبار أنها مكعبة، والعرب تقول لكل مربع كعبة.

فإذا كانوا ببيداء من الأرض البيداء: الأرض المستوية يقال لها: بيداء، هل هذه البيداء هي البيداء المعروفة بطريق مكة من المدينة، أو أنها غير ذلك؟، الله تعالى أعلم، هنا نكرة.

حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأولهم وآخرهم ذكر الطرفين يفيد الشمول والعموم، يعني: يخسف بهم جميعًا، كما هي طريقة العرب، وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [سورة البقرة:115]، يعني: وما بينهما، وكذلك الشمال والجنوب، لكن العرب تذكر الطرفين وتريد الشمول والعموم والاستيعاب.

فهنا ليس المقصود أن أوسطهم يسلمون، بل جاء في بعض الروايات أنه يخسف بأوسطهم، فينادِي أولُهم آخرَهم، ثم يخسف بأولهم وآخرهم، فلا يبقى منهم إلا الشريد الذي ينبئ بخبرهم[2]، نسأل الله العافية.

قالت: يا رسول الله، كيف يخسف بأولهم وآخرهم، وفيهم أسواقهم؟

يعني: أهل السوق، يعني: التجار الذين معهم؛ لأن الجيش يكون معه من التجار الذين يحملون الزاد والطعام، ونحو ذلك، أو المراد السوقة يعني: الذين لا شأن لهم ممن يتبعون الناس، وليس لهم تدبير أو عمل معهم، فهؤلاء لأنهم كثّروا سوادهم نزل العذاب بالجميع، فيخسف بهم جميعًا، لكن هل لهم حكمهم في الآخرة؟.

هؤلاء يغزون الكعبة، وعائشة -رضي الله عنها- استشكلت هذا المعنى، كيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم؟

قال: يخسف بأولهم وآخرهم، ثم يبعثون على نياتهم متفق عليه، وهذا لفظ البخاري.

هنا دل على أن هؤلاء يبعثون على نياتهم، معنى ذلك أنهم يبعثون على أحوال شتى، لا يبعثون على حال واحدة، مع أنهم جاءوا مع هذا الجيش، سواء كانوا من التجار، أو من السوقة، أو غير ذلك.

فيبعثون على نياتهم، وهذا فيه ملحظ هو في غاية الأهمية، وهو: أن هؤلاء الذين قد يصدر منهم بعض هذه الأمور ليسوا على وتيرة واحدة، وليس لهم حكم واحد في الآخرة، بمعنى أن هؤلاء لو حكم بكفرهم مثلاً هم جاءوا مع هذا الجيش، فقيل: هم منهم، وهم معهم، ومن أعوانهم، سواء كانوا من التجار، أو ممن يكثّر السواد، فيكون له حكمهم في الآخرة مثلاً، يبعثون على نياتهم، سواء قلنا: إن هذا الجيش الذي يغزو الكعبة هم من الكفار، أو قلنا: إنهم ليسوا كذلك، لكنهم أهل إجرام، فاستحقوا الخسف، فصار الذين يبعثون معهم يوم القيامة على أحوال شتى، بمعنى أنهم لا يأخذون حكمهم.

فدل ذلك على أن مثل هذه الأمور تحتاج إلى نظر دقيق وفقه، وأنه لا يصلح أن يتكلم فيها كل أحد، هذا القدر فقط هو الذي نحتاج إليه، يعني: لا يصلح أن يتكلم في ذلك صغار طلبة العلم، وممن لم يطلب العلم أصلاً، ثم يجترئ على أحكام كبيرة، لمجرد أشياء يرى أنها لربما كانت من قبيل الأعمال التي ربما في الجملة يقال: إن من فعل ذلك فقد كفر، أو هو منهم، أو نحو ذلك، فيحكم على هؤلاء بأحكام في الآخرة، وفي الدنيا، بل أكثر من هذا يُجري عليهم أحكامًا في الدنيا ينفذها هو، وهذا أمر لا يسوغ، وتُترك مثل هذه القضايا لمن كان راسخًا في العلم، والله لن يسأل الإنسان عن زيد وعمرو ما شأنهم، وما حكمهم، وهل هم ناجون في الآخرة، أو هم من الكفار المخلدين في النار؟.

الله سيسأل الإنسان في القبر عن ثلاث مسائل، من ربك؟، وما دينك؟، ومن هذا الرجل الذي بعث فيكم؟، ولا حاجة للإنسان أن يركب المراكب الصعبة، ثم بعد ذلك يتقحم أمورًا لا يحسنها، وقد يبوء ببعض أحكامها، فيترك هذا لمن كان راسخًا في العلم.

  1. أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب ما ذكر في الأسواق (3/ 65)، رقم: (2118).
  2. أخرجه مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب الخسف بالجيش الذي يؤم البيت (2883).
لا هجرة بعد الفتح
حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال النبي ﷺ: لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استُنفرتم فانفروا[1] متفق عليه.

 قوله ﷺ: لا هجرة بعد الفتح نحن عرفنا في بعض المناسبات أن الهجرة هي الانتقال من بلد الكفر إلى بلد الإسلام، وقلنا إن هذا ليس بالضرورة، وإنما ينتقل من البلد التي لا يأمن فيها، ولا يتمكن من إقامة دينه إلى بلد يأمن فيها، ويتمكن من إقامة دينه، ليصدق هذا على الهجرة إلى الحبشة مثلاً، فالصحابة لما هاجروا إلى الحبشة كانت هجرة شرعية، وسميت بذلك ولم تكن الحبشة بلد إسلام.

هنا قول النبي ﷺ: لا هجرة بعد الفتح يحتمل أن يحمل ذلك على العموم؛ لأن "هجرة" هنا نكرة في سياق النفي فتعم، يعني: أن ذلك ينفي الهجرة التي هي الانتقال بالبدن، أنه لا حكم لذلك بعد فتح مكة، انتفت الهجرة بالكلية، لا هجرة.

ويحتمل أن يكون المراد لا هجرة من مكة، فإن مكة صارت بلد إسلام، فلا هجرة بعد فتحها، انتهت، كان الناس يهاجرون من مكة، فلما فتحها النبي ﷺ انتفت الهجرة، وهذا معنى قريب.

وهناك معنى ثالث يحتمل وهو: أن المقصود لا هجرة بعد الفتح، يعني: كالهجرة الأولى التي كانت قبل فتح مكة، حيث كانت الحاجة والشدة والأذى، فكانت النفقات تتفاوت قبل فتح مكة، وكذلك الهجرة، فيكون النفي هنا ليس للذات وإنما يكون النفي للكمال، ولكن هذا فيه ما فيه.

فالأقرب -والله أعلم- أنه لا هجرة من مكة إلى غيرها، ولكن جهاد ونية يعني: الجهاد باقٍ، ماضٍ، كما قال النبي ﷺإلى يوم القيامة.

ولكن جهاد ونية يعني: الجهاد باقٍ، ماضٍ، كما قال النبي ﷺ إلى يوم القيامة.

ونية أن ينوي الإنسان الجهاد، وينوي الخير، وينوي نصر الدين، فيكون قصده إعزاز كلمة الله -تبارك وتعالى، وكذلك أيضًا أن يهاجر بقلبه إلى الله ورسوله، بمعنى: أنه يفارق مألوفات النفس وهواها، فالهجرة هجرتان: هجرة بالأبدان، وهجرة بالقلوب، فهذه الهجرة التي بالقلوب هي باقية، وقد يهاجر المرء ببدنه، ولكن قلبه لم يهاجر معه.

وإذا استُنفرتم فانفروا يعني: إذا دعيتم إلى الجهاد واستُنفرتم لنصر الدين وإعزازه لأي أمر كان فأجيبوا من دعاكم وانفروا في سبيل الله -تبارك وتعالى.

النووي-رحمه الله- هنا فسر الهجرة، قال: من مكة؛ لأنها صارت دار إسلام، وقال الخطابي -رحمه الله: كانت الهجرة أي إلى النبي ﷺ في أول الإسلام مطلوبة، ثم افترضت لما هاجر إلى المدينة، يعني: إلى حضرته ﷺ للقتال معه ولتعلّم شرائع الدين، وهذا جاء فيه آيات معروفة، فلما فتحت مكة ودخل الناس في الإسلام من جميع القبائل سقطت الهجرة الواجبة، وبقي الاستحباب، هذا كلام الخطابي.

والله تعالى أعلم.

نسأل الله -تبارك وتعالى- أن يفقهنا وإياكم في الدين، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين.

  1. أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب فضل الجهاد والسير (4/ 15)، رقم: (2783)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام والجهاد والخير، وبيان معنى لا هجرة بعد الفتح (3/ 1488)، رقم: (1864).

مواد ذات صلة