الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
‏(7) أما آن زمن الإفاقة
تاريخ النشر: ١٠ / ذو القعدة / ١٤٣٤
التحميل: 6991
مرات الإستماع: 10571

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله، وصحبه أجمعين، أما بعد:

فإن ما نعانيه من قسوة في القلوب حيث نسمع كلام الله، نسمع أوصافه وعظمته نسمع الآيات الدالة على جلاله وعظمته، ونسمع الآيات التي تتحدث عن اليوم الآخر، والجنة والنار، وما إلى ذلك، ولا تتحرك قلوبنا، والله -تبارك وتعالى- قد ضرب المثل بالجبل الذي هو في غاية الصلابة: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الحشر:21]، ونحن نجد ما نجد ونعاني ما نعاني في هذه القلوب من القسوة التي تكون لأسباب مجتمعة أعظمها الغفلة عن ذكر الله -تبارك وتعالى-، وما ينضم إلى ذلك وينضاف إليه من فضول النظر، وفضول الكلام، وفضول الخلطة، وفضول الأكل والشرب، وفضول النوم، هذا في المباح، فكيف بالمعاصي التي يعافسها من يعافسها صباح مساء؟!

هذا لا شك أنه يؤثر في هذه القلوب تأثيرًا بليغًا.

إن جلاء ذلك يكون: باليقظة، بالتوبة، وبكثرة الذكر بالقلب واللسان، فتعود للقلب حياته وصفاؤه ورقته وشفافيته، وتزول عنه تلك الأكدار، هذه الغفلة هذه القسوة ينبغي على كل عبد أن يداويها بذكر الله -تبارك وتعالى- وهو من أعظم الملينات، وهناك أمور أخرى من زيارة المقابر، التفكر، عيادة المرضى، امسح رأس اليتيم، أطعمه من طعامك، كل ذلك يلين القلب، لكن الذكر ويدخل في الذكر قراءة القرآن بالتدبر، هذا من أعظم ما يلينه ويذيب قسوته، وقد قال رجل للحسن البصري -رحمه الله-: يا أبا سعيد أشكو إليك قسوة القلب؟! قال: "أذبه بالذكر"[1].

 فهذا القلب القاسي يلينه ذكر الله -تبارك وتعالى-، فإذا اشتدت غفلتنا اشتدت قسوة قلوبنا فنحتاج إلى ذكر أكثر لا العكس، نحن في حال غفلتنا يقل ذكرنا، ويضمحل ويتلاشى فتزداد القسوة، ثم تزداد المعاناة بل قد يصير العبد إلى حال لا يشعر أن قلبه قاسي، ولا يلتفت إلى ذلك، فهو يعاني من الداء العضال دون أن يشعر، وهذه الأدواء المركبة التي تورث الإنسان غفلة متتابعة، الغفلة عن الله ، والغفلة عن نفسه وما يصلحه، والغفلة عن الداء، فإذا اجتمع هذا وهذا، فمتى يفيق الإنسان؟! ومتى يشعر؟!

فهذا الذكر كما يقول الحافظ ابن القيم: "يذيب ذلك كله، كما يذوب الرصاص في النار"[2]، فما أذيبت قسوة القلوب بمثل ذكر الله تعالى، فهذا الذكر يذيب هذه القسوة وهو أيضًا شفاء لهذه القلوب من جميع أدوائها، حينما تمرض قلوبنا بالغفلة والشهوة تتشبث وتتعلق بهذا الحطام، قد يتحول المخلوق ذو الصورة الحسنة إلى معبود ومألوه يعلق به القلب ويحبه أعظم من محبة الله -تبارك وتعالى-، ولكن هذه المحبة كما لا يخفى سواء كانت لإنسان، أو لغيره إذا كانت هذه المحبة محبة تزاحم محبة الله في القلب فإن القلب يعذب بها ويتألم ولا بدّ جزاء وفاقًا؛ لأن هذا القلب لا يصلح بحال من الأحوال ولا يطمئن إلا بأن يقبل على الله وأن يتعلق به، فكيف يكون الشفاء؟ وما السبيل إلى الدواء؟ إنه الذكر.

القلوب العليلة القلوب المريضة تداوى بالذكر، فهذا أنجع العلاج، والله -تبارك وتعالى- قد سمى القرآن ووصفه بأنه شفاء: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء:82]، وهنا ما قال دواء؛ لأن الدواء قد يصيب وقد يخطئ وقد يلائم بعض الناس، ولكنه لا يلائم آخرين وقد يكون هذا الدواء سببًا للهلاك أما القرآن فأعطاك النتيجة: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ، ولم يقل دواء هذا هو القرآن الذي هو أعظم الذكر وأجل الذكر، وحينما نتحدث عن الذكر والاشتغال بالذكر ينبغي أن لا نغفل هذا المعنى، فإن قراءة القرآن داخلة فيه بل هي من أعظمه، والذين يعانون ما يعانون وكلنا يعاني، وإنما يعظ العبد نفسه بما يقول؟

أقول: هذه المعاناة التي نعانيها الكلام الكثير الذي يقال فيما يكون به العلاج، وما يذكر من خطوات وأنواع وما إلى ذلك كل هذا يجمعه قراءة القرآن بتدبر، وكثرة الذكر، فيحصل بذلك الحياة بأكمل وجوهها وأعظم حالاتها وصورها هذا باختصار، كل من يعاني من تعلق القلب بغير الله، الذي يعاني من القسوة، الذي يعاني من العشق، الذي يعاني من أمراض وأدواء، عليه بهذا الدواء الجامع النافع الذي يحصل به غسل القلوب وإزالة جميع تلك العوالق، وما نقوله من وراء ذلك فنحن نتفلسف، ونطول الكلام ونشققه هذه هي الحقيقة، ولكني وجدت جماع ذلك إقبال حقيقي على القرآن بتدبر، والاشتغال بذكر الله -عز وجل- مع تعقل معانيه، هذا هو العلاج الحقيقي لكل هذه العلل والأدواء والمشكلات التي نعاني منها، فهذا له أثر عجيب في هذه الحياة لهذه القلوب، وفي زكائها، وصلاحها، ونمائها، ويبدد عنها الأوهام والمخاوف جميعًا، فهذه المخاوف إنما تكون بسبب ضعف القلب، كما أن التعلقات بالمخلوقين تكون بسبب ضعف القلب، فهو تارة يحبهم محبة تزاحم محبة الله، وتارة يخافهم مخافة لا تصلح للمخلوق فيبقى هذا القلب مشوشًا، يبقى قلقًا، دائم الترقب، فيكون المخلوق أعظم عنده من الله -تبارك وتعالى-، وهذه لا تصلح لأهل الإيمان، وإنما ذكر الله ذلك في صفات غيرهم من المنافقين: لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ [الحشر:13].

هذا لا يكون للمؤمن بحال من الأحوال فهذه المخاوف تارة تكون لأمور مدركة وتارة لأمور مبهمة، يعني هو يشعر بالخوف دائمًا، بالخوف على رزقه، الخوف على نفسه الخوف على ولده، الخوف من مكاره متوقعة متوهمة، الرجحان في الوقوع كبير أو أنه موهوم لكنه يتخوف، وأحيانًا يخاف ولا يدري من أي شيء يخاف، لكنه يعلم أن هذا الخوف ليس من الله؛ لأنه الخوف الذي يكون من الله يحصل للقلب معه الطمأنينة والراحة ويعظم الإيمان فإذا فاض ذلك حتى بلغ العين فبكى من خشية الله كان ذلك كالغسيل للقلب، ولكننا نغفل عن هذا كثيرًا، ولذلك تجد بعض الناس يلجأ إلى إشباع هذه الرغبة في غسل قلبه والشعور بحاجته إلى البكاء مثلاً وقد سمعت هذا من بعضهم، يسمع قصائد حزينة يحاول أن يقرأ بطريقة حزينة لبعض الأشعار، يحاول أن يتذكر ذكريات حزينة من أجل أن يبكي، ويشعر برغبة في البكاء هذا ضعف وهذا كالذي يقول: داوني بالتي كانت هي الداء.

إنما ينبغي أن يكون اللجأ إلى هذا المعبود بذكره بالقلب واللسان فهنا يحصل له الأمان، أما الغافل فكما يقول الحافظ ابن القيم يقول: "والغافل خائف مع أمنه حتى كأن ما هو فيه من الأمن كله مخاوف، ومن له أدنى حس قد جرب هذا وهذا"[3]، حتى إن بعضهم يتعاظم به هذه الخوف مما يسميه الأطباء يتحول إلى حالة مرضية يسمونه الرُهاب الاجتماعي، بحيث يصير الإنسان لا يستطيع مخالطة الناس، ولا حضور المناسبات، بل بعضهم يصل إلى باب الكلية -نسأل الله العافية للجميع- ويرجع ما يستطيع الدخول يطوي قيده، يترك دراسته يذهب إلى العمل يصل إلى باب المؤسسة، ثم يرجع لا يستطيع يخاف.

وبعضهم يظهر ذلك عليه، على أطرافه، على وجهه، يجف لسانه ولم يوجد سبب لهذا أصلاً، لكنه يتحول إلى نوع من الاعتلال والمرض، فأين نحن من هذا المعين؟! وهذا الدواء؟! وهذا الطود الشامخ الذي من تمسك به واعتصم به فإنه يكون في غاية الاطمئنان والثقة والراحة والأمن الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]، ومتى يكون الإنسان يكون قلبه عامرًا بالإيمان؟

إنما يكون ذلك لمن كان قلبه عامرًا بذكر ربه -تبارك وتعالى- ولسانه لاهجًا بذكره، وقراءة كلامه.

إن هذا الذكر ينبه هذه القلوب أيضًا من غفلتها من نومها، يوقظها من سنتها، فالقلب قد يكون في غطيط، وقد يكون في سنة فتفوته الأرباح والمتاجر، ويكون الغالب عليه الخسران كما يقول الحافظ ابن القيم -رحمه الله-[4].

فإذا استيقظ وعلم ما فاته في نومته شد المئزر، وأحيا بقية العمر، واستدرك ما فات، ولا تحصل يقظته إلا بالذكر فإن الغفلة نوم ثقيل، فهل نحن في نوم ثقيل؟!

وهل أفقنا؟!

أما آن لنا أن نفيق؟!

أما آن لنا أن نعرف الأولويات؟!

أما آن لنا أن نعرف الطريق؟!

أما آن لنا أن نراجع أنفسنا؟!

أسأل الله -تبارك وتعالى- أن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته، اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، وعاف مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، -والله أعلم-، وصلى الله على نبينا محمد.

  1. الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص:71).
  2. الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص:71).
  3. انظر: الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص:77).
  4. انظر: الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص:65).

مواد ذات صلة