الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
(147) الأذكار بعد السلام من الصلاة " لا إله إلا الله وحده لا شريك له ... ولو كره الكافرون "‏
تاريخ النشر: ٢٧ / جمادى الآخرة / ١٤٣٥
التحميل: 3189
مرات الإستماع: 2544

الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،

فمن الأذكار الواردة بعد الصَّلاة ما رُوي عن أبي الزبير قال: كان ابنُ الزبير يقول في دُبر كل صلاةٍ حين يُسلِّم: لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير، لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النِّعمة، وله الفضل، وله الثَّناء الحسن، لا إله إلا الله مُخلصين له الدِّين ولو كره الكافرون[1]، وقال: "كان رسولُ الله ﷺ يُهلل بهنَّ دُبر كل صلاةٍ"، كان يقول في دُبر كلِّ صلاةٍ.

عرفنا أنَّ دُبر الصَّلاة يحتمل أن يكون في آخرها قبل السَّلام، وأن يكون بعده، لكنَّه جاء مُوضّحًا هنا أنَّه حين يُسلِّم، فهذا لا إشكالَ فيه، وقد تجد في بعض الرِّوايات -كما في الحديث السَّابق- الاقتصار في بعض ألفاظها على: "دُبر الصَّلاة"[2]، وفي بعضها ما هو مُصرّحٌ بأنَّ ذلك بعد السَّلام، فمثل هذا إذا ضُمَّ بعضُه إلى بعضٍ اتَّضح معناه، وهذه من فوائد جمع المرويات والألفاظ الصَّحيحة للحديث الواحد.

هنا يقول: "حين يُسلِّم"، فهم بعضُ أهل العلم أنَّه يبدأ بذلك حين يُسلِّم؛ أنَّه بمجرد التَّسليم يقول: "لا إله إلا الله .." إلى آخره، والظَّاهر أنَّ هذا غير صريحٍ، فهو يحتمل، فحين يُسلِّم أراد أن يُبين به أنَّ ذلك ليس مما يُقال دُبر الصَّلاة، بمعنى: قبل السَّلام، وإنما بعد السَّلام، وإن قال قبله مثلاً: "اللهم أنت السَّلام"، أو استغفر ثلاثًا، ونحو ذلك.

يقول: لا إله إلا الله، سبق الكلامُ عليها في مناسباتٍ، من آخرها في المجلس السَّابق، فمعناها: لا معبودَ بحقٍّ إلا الله.

"وحده"، جاء التَّأكيد بذكر الوحدانية، مع أنَّ "لا إله إلا الله" تدلّ على الوحدانية؛ لا معبودَ بحقٍّ إلا الله، فهو الواحدُ المعبودُ لا شريكَ له، ولا ندَّ، ولا نظيرَ، وقد جاءت كلمةُ التوحيد بأقوى صيغةٍ من صيغ الحصر، كما هو معلومٌ عند الأُصوليين وأهل اللغة، وهو النَّفي والاستثناء، هذه أقوى صيغةٍ، صيغ الحصر في القوة مُتفاوتة في الرُّتَب، أقواها: لا يُرشد إلا العُلماء، كما يقول صاحب "المراقي"[3]، يعني: النَّفي والاستثناء هذه أقواها وأعلاها، ثم يأتي بعد ذلك الحصر بـ"إنما"، وهكذا في درجات مُتفاوتة.

فكلمة التوحيد جاءت بهذه الصِّيغة القويَّة: "لا إله إلا الله"، ثم قال: "وحده"، فهذا مزيدٌ من التوكيد، ثم قال: "لا شريكَ له"، هذا توكيدٌ أيضًا في نفي الشُّركاء، ذاك –يعني- المؤكّد قبله "وحده" تأكيدٌ للوحدانيَّة، "ولا شريكَ له" تأكيدٌ لنفي الشُّركاء والأنداد.

"له الملك" فالملك كلّه لله، وملكه كاملٌ من كل وجهٍ، "وله الحمد"، لاحظ: "له الملك"، ما قال: "الملك له"، فقُدِّم الجار والمجرور، ومثل هذا يُشْعِر بالحصر، "له الملك" يعني: وليس لغيره، ليس لأحدٍ سواه، "له الملك، وله الحمد"، أيضًا هذا يُشعر بالحصر، يعني: وليس لأحدٍ سواه، فالذي يستحقّ الحمد من كل وجهٍ هو الله -تبارك وتعالى-.

والحمد بمعنى إضافة المحامد وأوصاف الكمال إلى الله -تبارك وتعالى-، وأنَّ (أل) في الحمد تُفيد الاستغراق؛ كل المحامد هي مُستحقّةٌ لله -تبارك وتعالى-، وعرفنا من قبل أنَّ مَن كان يُحْمَد من كل وجهٍ، فهذا لكونه الكامل من كل وجهٍ، الكامل في ذاته، وفي أسمائه، وفي صفاته، وفي أفعاله، فهو له الكمال الـمُطلق، وأنَّ مَن كان بهذه المثابة فهو الذي ينبغي أن يُعْبَد دون أحدٍ سواه.

له الملك، وله الحمد، وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ فذكر الوحدانيَّة، ثم ذكر الملك، ثم ذكر الحمد، فهو محمودٌ في ملكه، وهو محمودٌ في إلهيَّته، ومحمودٌ في ربوبيَّته -جلَّ جلاله وتقدَّست أسماؤه-.

وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ، "قدير" صيغة مُبالغة، يعني: أنَّ قُدرته كاملة وتامَّة من كل وجهٍ، لا يُعجزه شيءٌ، ولا يمتنع عليه أمرٌ من الأمور، بخلاف المخلوقين؛ فإنَّهم يعجزون ويُؤمِّلون ثم يُخفقون، أمَّا الله -تبارك وتعالى- فهو قادرٌ على كل شيءٍ.

لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله، لاحظ هذا التَّتابع في هذه الجُمَل: هو على كل شيءٍ قدير، "لا حول" لا تحوّل من حالٍ إلى حالٍ، "ولا قوّة"، فإنَّ الخلقَ ضُعفاء، لا يستطيع أحدٌ منهم أن يقوم بنفسه، ولا أن يتصرَّف في مصالحه، ولا أن يُدبّر شؤونه، ولا أن يُحقق نجاحًا ولا فلاحًا إلا بالله -تبارك وتعالى-، لا تحوّل من حالٍ إلى حالٍ إلا بالله : بإعانته، وتيسيره، وهدايته، وتوفيقه، وتقديره.

ومن ثم فهذا إعلانٌ من العبد، إعلانٌ بالخضوع لربِّه وخالقه : أنَّه لا يملك شيئًا، العبدُ ضعيفٌ، عاجزٌ العجز الكامل، وأنَّ القُدرة والقُوّة والحول كلّه لربِّه -تبارك وتعالى.

فإذا كان الأمرُ كذلك فينبغي أن يُوحّده، وأن يعبده، وأن يعتصم به، وأن يركن إليه، وأن يتوجّه إليه بكُليته، دون التفاتٍ إلى ما سواه؛ ولهذا قال بعده: "لا إله إلا الله"، فمَن كان بهذه المثابة فلا معبودَ بحقٍّ سواه.

قال: ولا نعبد إلا إيَّاه، يعني: الأول "لا إله" لا معبودَ بحقٍّ، ثم عاد فصرَّح بحاله وتوجّهه فقال: ولا نعبد إلا إيَّاه على صيغة كلمة الشَّهادة: لا نعبد إلا إيَّاه، لا إله إلا الله، لا نعبد إلا إيَّاه، لا نتوجَّه بأعمالنا، بما نتقرَّب به من ألوان القُربات: من صلاةٍ، من ذبحٍ، من طوافٍ، من صيامٍ، من ذكرٍ، إلى غير ذلك إلا لله -تبارك وتعالى-، ولا نعبد إلا إيَّاه، فلا يلتفت قلبُ العبد إلى المخلوقين: يعبدهم، أو يُرائيهم، أو يُسمع بعمله؛ رجاء حظوةٍ أو منزلةٍ عند الخلق، أو ثناء، أو مدح، أو غير ذلك من المطالب الرديّة المردية.

له النِّعمة، وله الفضل، وله الثَّناء الحسن، "له النِّعمة" هنا أيضًا قدَّم الجار والمجرور، يعني: النِّعمة له -تبارك وتعالى- خلقًا؛ هو الذي يخلق النِّعَم، ومُلكًا؛ فهو الذي يملكها، وخالقها، وهو مالكها، فكل النِّعَم لله -تبارك وتعالى-، هو الـمُنْعِم المتفضّل على عباده: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل:53].

فكل هذه النِّعَم التي يتقلَّب بها الناسُ صباح مساء، والتي لا يستشعرون أكثرها، مثل: نعمة الهواء وبرده، ونعمة الماء، ونعمة البصر والسَّمع، ونِعَمٌ ظاهرةٌ وباطنةٌ من الهدايات والعطايا والهبات التي نُدْرِك بعضَها، ويخفى علينا أكثرها، كلّ هذا لله -تبارك وتعالى-، وله الفضل والإحسان الذي يصل إلى العباد، هذا كلّه من الله ، فهو الذي يملكه، وهو الذي يُسديه، وهو الذي يُعطيه.

العبدُ الذي يُردد بعد كلِّ صلاةٍ مثل هذا الكلام كيف يغفل عن طاعة ربِّه -تبارك وتعالى-؟! وكيف يجترئ عليه في خلوته أو جلوته بالمعصية؟! وكيف يتعلَّق قلبُه بغيره بأي لونٍ من ألوان التَّعلقات؟!

هؤلاء الذين يشتكون من تشتت القلب بسبب التَّعلق بمخلوقٍ أحبُّوه، فصار ذلك عشقًا تيَّم هذه القلوب، وعبَّدها لغير فاطرها -تبارك وتعالى-، فهؤلاء لو أنَّ قلوبَهم عرفت معبودَهم، وامتلأت بمحبَّته، ومعرفة أوصافه الكاملة؛ لما التفتت إلى شيءٍ سواه، كلّ هذه النِّعَم التي نتقلَّب فيها من الله -تبارك وتعالى-.

له النِّعمة، وله الفضل لو أنَّ أحدًا أعطاك هديةً مَلَكَك، لو شفع لك شفاعةً، لو أنَّه أحسن إليك بأي لونٍ من ألوان الإحسان يملكك، لو توقّف في الطَّريق وقال: امضِ، ملكك بهذا الإحسان، فكيف بنِعَم الله التي تترى، لا تتوقف؟! فهذا لا شكَّ أنَّه يسوق القلوبَ سوقًا إلى محبَّة ربِّها وفاطرها .

وله الثَّناء الحسن، الثَّناء هو تكرير الحمد ثانيًا، كما في الحديث القدسي: إذا قال العبدُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، قال الله: حمدني عبدي، فإذا قال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3]، قال الله: أثنى عليَّ عبدي[4]، فهذا من الثَّناء، من التَّثنية: إعادة الحمد ثانيًا، كما قال شيخُ الإسلام ابن تيمية[5] -رحمه الله-، وهو أحسن ما فُسِّر به فيما يبدو -والله تعالى أعلم.

له الثَّناء الحسن "الحسن" هل هذه صفة مُقيّدة حقيقيَّة، أو أنها صفة كاشفة؟

يعني: الثَّناء هل يكون بخيرٍ دائمًا؟ فيُقال: "الحسن" هي صفة كاشفة فقط، تُوضِّح حقيقة الأمر، كما نقول: "الصِّراط المستقيم"، فالصِّراط لا بدَّ فيه من الاستقامة، فإذا قلنا: "المستقيم" فهذه صفة كاشفة تُبين حقيقةَ الأمر، وحينما تقول مثلاً: "رجلٌ ذكر"، فـ"ذكر" هذه صفة كاشفة؛ لأنَّه لا يكون رجلاً إلا أن يكون ذكرًا، "امرأةٌ أُنثى"، فهذه صفة كاشفة، بخلاف ما إذا قلت: "رجل طويل"، وتقول: "امرأةٌ حسناء"، فهذه صفة مُقيّدة للموصوف.

فهنا: له الثَّناء الحسن هذه صفة مُقيّدة؛ لأنَّ الثَّناء من الأضداد، الثَّناء يُقال: الثَّناء الحسن، والثَّناء غير الحسن، الجنازة حينما تُحْمَل فيُثني الناسُ عليها خيرًا، أو يُثني الناسُ عليها شرًّا، كما جاء في الحديث[6]، فهذا كلّه ثناءٌ مما يُقال في حقِّ الغير، يكون بالخير والشَّر، يكون بالكمال والذَّم.

فهنا قُيّد ذلك: وله الثَّناء الحسن، ثم أعادها ثالثةً، أعني: كلمةَ التوحيد، هذا الذكر كلّه توحيدٌ من أوَّله إلى آخره، فهو يقول: لا إله إلا الله، مخلصين له الدِّين ولو كره الكافرون، "مُخلصين له الدِّين" مُخلصين له الطَّاعة، هذا بخلاف أهل الإشراك -الشرك الأكبر- يعبدون معه غيره، وأهل الشِّرك الأصغر الذين يُراؤون بأعمالهم، وتتوجّه قلوبُهم إلى غير معبودهم؛ طلبًا للمحمدة، وما إلى ذلك.

مُخلصين له الدِّين، هذا الآن بعد الصَّلاة يقول ذلك، فإذا كان يُرائي بهذه الصَّلاة، أو يُرائي بهذا الذكر؛ فهذا إعلانٌ ينادي على نفسه بالكذب في دعواه هذه: مُخلصين له الدِّين، الدِّين: الطَّاعة.

وهنا يقول شيخُ الإسلام[7] -رحمه الله- بأنَّ العبدَ عليه أن يُلاحظ التوحيد، والإنعام اجتماع هذا وهذا: له النِّعمة، وله الفضل، قبله: "لا إله إلا الله"، وبعده: "لا إله إلا الله"، فالله  يقول: هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [غافر:65]، فهذا مُوافقٌ لما جاء في هذا الحديث، وهكذا: فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [غافر:14]، فذكر الحمد، وذكر إخلاص الدِّين لله -جلَّ جلاله وتقدَّست أسماؤه-، والـمُنْعِم لا شكَّ أنَّه هو الذي يستحقّ أن يُعْبَد دون مَن سواه.

ولو كره الكافرون يعني: نحن على هذا التوحيد والإخلاص للمعبود ولو كره الكافرون، فهذا مقامٌ من مقامات الاعتزاز بالدِّين والإيمان؛ أن يعتزّ المؤمنُ بعقيدته، وتوحيده، وإيمانه، ولو كره ذلك أهلُ الضَّلال والإشراك، ولو كره الكافرون.

فالمؤمن لا يطلب رضاهم، فإنَّهم لا يرضون عنه بحالٍ من الأحوال، إلا كما قال الله : وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120]، فحتى هذه تدلّ على الغاية: حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ هنا يتحقق الرِّضا، لكن هنا قال: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ أي: لن ترضى اليهودُ حتى تتبع ملَّتهم، ولن ترضى النَّصارى حتى تتبع ملَّتهم، فإنَّك إن اتَّبعتَ ملَّة اليهود أيضًا سخط النَّصارى، وإذا اتَّبعت ملَّة النَّصارى سخط اليهود، فهؤلاء لا يمكن أن يتحقق منهم الرِّضا، وهذا أصلٌ كبيرٌ فيمَن يتوهم أنَّه يمكن أن يُرضِي أعداء الله ، فالرِّضا مُتعذّر، أمَّا القتالُ فكما قال الله : وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217].

فالقتال يمكن أن يتوقف إذا حصلت الرِّدة، وأمَّا الرِّضا فلا تتبع ملَّتهم، تتبع ملَّة مَن؟!

إن اتَّبعت ملَّة هؤلاء سخط هؤلاء، وهكذا، والله أحقّ أن يُرْضَى، ويُطاع، ويُعْبَد، فالمقصود أنَّ هذا إعلانٌ بعد كل صلاةٍ، إعلانٌ من المؤمن بأنَّه على التوحيد والإخلاص، ولو كره الكفَّار ذلك، فإنَّه لا يطلب رضاهم، كما قال الله لنبيِّه ﷺ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ۝ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ۝ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً [الأحزاب:1- 3].

فهنا النَّهي عن طاعتهم: لَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا يعلم عواقبَ الأمور، ويعلم ما تُفْضِي إليه طاعتُهم، وهو حكيمٌ يضع الأمورَ في مواضعها، فطاعته وطاعة رسوله هو الحقُّ والصَّواب والطَّريق والمخرج، لا طاعةَ هؤلاء؛ ولهذا قال عن المنافقين: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ يعني: مُعللين هذه المسارعة: نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ، يعني: يحتاطون لأنفسهم فيتولّون الكافرين: نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ أي: حرب الأعداء، فيجعلون لهم يدًا عند هؤلاء: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ [المائدة:52].

وهنا في آية الأحزاب: وَاتَّبِعْ بعدما نهاه عن طاعتهم قال: وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا.

اعلم، أيّ التفاتٍ يحصل للعبد يعلم أحواله، يعلم نيَّته وقصده وما يجري في الخفاء؛ لأنَّ الخبير هو الذي يعلم بواطن الأشياء: إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا، ثم هؤلاء لن يتركوه، فقال: وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً.

بل إنَّ قوله -تبارك وتعالى- بعده: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ [الأحزاب:4] حمله بعضُ المفسرين، وإن لم يكن هذا هو الراجح، لكنَّه قولٌ معروفٌ في التَّفسير، قالوا: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ يعني: لا تجتمع طاعةُ المعبود -تبارك وتعالى- وطاعة أعدائه من الكفَّار والمنافقين، لا تجتمع في قلبٍ واحدٍ أبدًا، وهذا المعنى له وجهٌ: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ، وإن كان الأقربُ أنَّ هذا مُقدّمة لما سيأتي بعده من إبطال التَّبني والظِّهار.

فالمقصود أنَّ هذه الكلمات التي نُرددها هي أصولٌ كِبارٌ، لو أنَّ الأُمَّةَ تعي ما تقول فإنَّ أحوالها ستتغير من أوَّلها إلى آخرها، والله المستعان.

وهؤلاء الأعداء لا يُريدون بالمسلمين خيرًا بحالٍ من الأحوال، ومن الأشياء المضحكات المبكيات هذه الأيام: تسمع انزعاجًا كبيرًا لدى هؤلاء الأعداء من المصالحة بين الفلسطينيين، وما شأنكم؟!

يعني: على المكشوف -كما يُقال- لا يُريدون من هؤلاء أن يجتمعوا، وأن يصطلحوا، ساخطين عليهم -والله المستعان.

أسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعنا وإيَّاكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإيَّاكم هُداةً مُهتدين.

  1. أخرجه مسلم: باب استحباب الذكر بعد الصَّلاة وبيان صفته، برقم (594).
  2. أخرجه مسلم: باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، برقم (594).
  3. "نشر البنود على مراقي السعود" (1/104).
  4. أخرجه مسلم: كتاب الصَّلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعةٍ، وإنَّه إذا لم يُحْسِن الفاتحة، ولا أمكنه تعلّمها؛ قرأ ما تيسر له من غيرها، برقم (395).
  5. انظر: "درء تعارض العقل والنقل" (4/16).
  6. متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الجنائز، باب ثناء الناس على الميت، برقم (1367)، ومسلم: كتاب الجنائز، باب فيمَن يُثْنَى عليه خير أو شرّ من الموتى، برقم (949).
  7. انظر: "مجموع الفتاوى" (22/493).

مواد ذات صلة