الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
(115) دعاء الرفع من الركوع " ربنا ولك الحمد، حمداً كثيرا طيباً مباركاً فيه " " ملئ السموات وملئ الأرض وما بينهما ... "
تاريخ النشر: ٢٢ / ربيع الآخر / ١٤٣٥
التحميل: 2449
مرات الإستماع: 2695

الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

في هذه الليلة -أيّها الأحبّة- نتكلم على الذكر والدُّعاء الأخير مما يُقال بعد الرفع من الركوع؛ وذلك ما جاء في حديث أبي سعيدٍ الخدري قال: "كان رسولُ الله ﷺ إذا رفع رأسَه من الركوع قال: ربنا لك الحمدُ ملء السَّماوات والأرض، وملء ما شئتَ من شيءٍ بعد، أهل الثَّناء والمجد، أحقُّ ما قال العبد، وكلنا لك عبدٌ، اللهم لا مانعَ لما أعطيتَ، ولا مُعطي لما منعتَ، ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجدّ"[1]. هذا الحديث أخرجه الإمامُ مسلمٌ في "صحيحه".

وهنا لم يُحدَّد أنَّ النبي ﷺ قال ذلك في فريضةٍ أو نافلةٍ، فيكون ذلك مما يُقال في الصَّلاة مُطلقًا، في فرضها ونفلها.

فقوله: ربنا لك الحمد يعني: يا ربنا لك الحمد، هذا الحمدُ ما قدره؟ قال: ملء السَّماوات والأرض، وملء ما شئتَ من شيءٍ بعد يعني: حمدًا يملأ السَّماوات والأرض، أو بقدر ما يملأ السَّماوات والأرض.

وملء ما شئتَ من شيءٍ بعد يعني: وأكثر من ذلك مما يشاؤه ربنا -تبارك وتعالى-، فهذا حمدٌ كثيرٌ لا يُقادر قدره.

أهل الثَّناء والمجد يعني: أنت أهل الثَّناء، أو هو أهل الثَّناء والمجد، ويحتمل: أهلَ الثَّناء والمجد، يعني: يا أهل الثناء والمجد.

وعرفنا أنَّ الثناء هو إعادة الحمد ثانيًا، فالله -تبارك وتعالى- له الحمد، فإذا أعاد ذلك ثانيًا كان ذلك هو الثَّناء، كما في الحديث المشهور: قسمتُ الصَّلاةَ بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبدُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] قال اللهُ تعالى: حمدني عبدي، فإذا قال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3] قال الله تعالى: أثنى عليَّ عبدي، ثنَّى الحمد، أي: أعاده ثانيًا، فإذا قال: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] قال الله تعالى: مجَّدني عبدي[2].

فبعضهم فسَّر التَّمجيد بمعنى: كثرة الحمد؛ لما ذكر الثَّالثة سمَّاه: تمجيدًا، وبعضهم يقول: إنَّ ذلك قيل له: تمجيد؛ لأنَّه أناطه بالملك: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، فالملك من أوصاف المجد، وقد مضى الكلامُ على المجد في اسم الله: المجيد، في الكلام على الأسماء الحُسنى، وقلنا بأنَّ هذا اللَّفظ يدل على السَّعة والكثرة في أوصاف الكمال: كالكرم والجود والعظمة، وما إلى ذلك من المعاني، فهو من الأسماء التي تتضمن أوصافًا جامعةً، بمعنى: أنَّه يدخل تحتها أوصافٌ كثيرةٌ، يعني: لا يكون المجدُ إلا بكثرة أوصاف الكمال، فهذا يشمل ما ذُكر من تفسيره بالعظمة، أو الكرم، أو غير ذلك مما قيل فيه، وكأنَّه يقول: أنت أهل الثَّناء والمجد.

فحينما يُوصَف ربنا -تبارك وتعالى- ويُحْمَد ويُثنى عليه بذلك، فهذا حقٌّ؛ لأنَّه مُستحقٌّ لذلك؛ ولهذا قال: أحقُّ ما قال العبدُ، فهذا تقريرٌ لحمده، وتمجيده، والثَّناء عليه، يعني: أنَّ ذلك أحقّ ما نطق به العبدُ، وهذا له دلالات كما سيأتي -إن شاء الله تعالى-.

ثم أتبع ذلك بالاعتراف بالعبودية، كما يقول الحافظُ ابن القيم -رحمه الله-[3]، فقال: وكلنا لك عبدٌ، فهذا حكمٌ عامٌّ للجميع، كلنا بهذه الصِّفة والمثابة، كلنا عبيدك؛ ولهذا فإنَّ بعض أهل العلم قالوا: حينما يقول: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5]، هكذا بصيغة الجمع، كأنَّه يُعظِّم نفسَه، وهذا موضع تواضعٍ لله ، فكيف جاء بصيغة الجمع؟ لماذا لم يقل: إياك أعبد؟

فمن الأجوبة التي ذكرها أهلُ العلم: إنَّ ذلك يُنبئ عن حاله، وعن حال الخلق: أنَّهم عبيدٌ لله .

قالوا: وهذا أبلغ من أن يقول: أنا عبدك، وأنا مُطيعك، وأنا المقبِل عليك. يقول: كلنا عبيدك، وكلنا تحت قبضتك وتصرُّفك. فهذا أبلغ في التَّعظيم.

هذا أحد الأجوبة المتنوعة المتعددة التي ذكرها أهلُ العلم في هذا المقام.

فـأحقُّ ما قال العبدُ يحتمل أن تكون (ما) موصولة أو موصوفة، و(أل) في العبد للجنس؛ جنس العباد، أو أن يكون معنى: أحقُّ ما قال العبد هو الحمد والثَّناء على الله -تبارك وتعالى-.

ويحتمل أن يكون المعنى مُتعلِّقًا بما بعده، يعني: أحقُّ ما قال العبدُ ... اللهم لا مانعَ لما أعطيتَ، ولا مُعطي لما منعتَ، ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجدّ، وتبقى هذه الجملة: وكلنا لك عبدٌ جملة اعتراضيَّة، يعني: ما أحقّ ما قال العبدُ؟ اللهم لا مانعَ لما أعطيتَ، ولا مُعطي لما منعتَ، فـ"أحقُّ ما قال العبدُ" تكون مُبتدءًا، وما بعدها هو الخبر: اللهم لا مانع لما أعطيتَ، ولا مُعطي لما منعتَ ... إلى آخره.

وعلى الأول يكون: ربنا لك الحمد، ملء السَّماوات والأرض، وملء ما شئتَ من شيءٍ بعد، أهلُ الثَّناء، أو أهلَ الثناء على الاحتمالين، والمجدَ، أحقُّ ما قال العبدُ هذا الكلام الذي هو الحمدُ والثَّناء والتَّمجيد لله -تبارك وتعالى- مُتعلِّقٌ بما قبله: أنَّ الحمدَ والثَّناء والتَّمجيد أحقُّ ما قال العبدُ، وهذا هو المتبادر، وإلا فهناك أقوال أخرى، وقد تكون بعيدةً ومُتكلَّفةً.

أحقُّ ما قال العبدُ، وبعضهم يقول: أحقَّ ما قال العبدُ بالنَّصب على المدح، أو على المصدر، كأنَّه يقول: قلتُ: أحقَّ ما قال العبدُ، يعني: أصدقه وأثبته، لكن المشهور الأول.

وكلنا لك عبدٌ يعني: كلنا ذلك العبد، كلنا عبيدك، وتحت قبضتك وتصرُّفك، ونحن مماليكك.

وشيخ الإسلام -رحمه الله- يقول: إنَّ التَّقدير في قوله: أحقُّ ما قال العبدُ: "الحمد أحقُّ ما قال العبدُ، أو هذا -وهو الحمد- أحقُّ ما قال العبدُ"[4]، فجعله مُتعلِّقًا بالحمد، يعني: أنَّ الحمدَ لله -تبارك وتعالى- أحقُّ ما قاله العبادُ، يقول: "ولهذا أوجب قوله -أي الحمد- في كل صلاةٍ، وأن تُفتتح به الفاتحةُ، وأوجب قولَه في كل خطبةٍ، وفي كل أمرٍ ذي بالٍ"[5]؛ لعظم شأنه ومنزلته، فهو أحقُّ ما قال العبدُ.

وقد عرفنا أنَّ الحمدَ يُقابل الذَّنب، وأنَّه يكون على محاسن المحمود بذكر أوصاف الكمال؛ لإضافتها له ، مع مُواطأة القلب، مع المحبَّة والتَّعظيم، وإلا كان تزلُّفًا وملقًا، ونحو ذلك، يعني: إذا كان باللِّسان من غير مُواطأة القلب قد يكون مادحًا بغير ما يعتقد، لكن الحمد حقيقةً لا بدَّ فيه من مُواطأة القلب مع المحبَّة.

ويقول: اللهم لا مانعَ لما أعطيتَ لا أحد يمنع ما أعطيتَ، فإذا أعطى اللهُ العبدَ عطاءً فلو اجتمع مَن بأقطارها لا يستطيعون أن يمنعوه هذا العطاء، أيًّا كان هذا العطاء، قد يكون هذا العطاء ولدًا، وقد يكون هذا العطاء مالاً، وقد يكون هذا العطاء علمًا، وقد يكون هذا العطاء تقوى وصلاحًا، وقد يكون هذا العطاء بخلقٍ جميلٍ، أو غير ذلك مما يُعطاه الناس، فهذا إنما المعطي هو الله -تبارك وتعالى-، وهو المانع: لا مانعَ لما أعطيتَ، فإذا أعطى اللهُ عبدًا شيئًا لا يستطيع أحدٌ أن يمنعه.

وهذا العطاء سواء كان ابتداءً، أي: ابتدأ اللهُ به العبدَ، أو كان جزاءً على عملٍ عمله في الدنيا، أو في الآخرة، فإنَّ الله يجزي المحسنَ إحسانًا، وهذا من معاني اسمه: الشَّكور، ويزيده، ويُضاعف له، فإذا أعطى اللهُ العبد في الدنيا، أو في الآخرة، فإنَّه لا يستطيع أحدٌ أن يحول بينه وبين هذا العطاء بحالٍ من الأحوال.

وإذا منع اللهُ العبدَ شيئًا لا يستطيع أحدٌ أن يُعطيه إياه في الدنيا، أو في الآخرة، لا يمكن ولو كان أقوى الناس، ولو اجتمع الخلقُ جميعًا، ولو كان أقرب الناسِ إليه: كالوالدة والوالد، ومهما كان حال هذا الذي يريد إيصالَ ذلك إليه، فإنَّه لا أحدَ يستطيع أن يُوصِل إليه شيئًا منعه اللهُ إياه.

هذا كتب اللهُ له ألا يُرزق بالولد، فلو اجتمع أطباءُ الدنيا بأموال أهل الدنيا من أوَّلها إلى آخرها، قالوا: بين أيديكم ولدٌ واحدٌ فقط، لا يستطيعون، إذا أعطاه اللهُ عافيةً لا أحد يستطيع أن ينتزعها منه، أو يمنع ذلك عنه، وإذا رفع اللهُ منه عافيةً، فإنَّه لا يستطيع أن يكشفها أحدٌ إلا هو، فالأطباء يموتون، طبيب يُجري عمليةً ويُصاب بجلطةٍ، هذا يحصل، فأين الأطباء في القرون التي مضت؟ مات الأطباءُ، ومات المرضى، ومات الأصحّاء: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ [الأنعام:17].

ومن هنا إذا عرف العبدُ أنَّه لا مُعطي لما منع اللهُ ، كما أنَّه لا مانعَ لما أعطى، كما قال الله -تبارك وتعالى-: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ [فاطر:2]، إذا عرف العبدُ هذا المعنى -أيّها الأحبّة- وأيقن، فإنَّ قلبَه يتعلَّق بالله ، ولا يتعلق بالطَّبيب، ولا بالدَّواء، ولا بالرَّاقي، ولا بأهل الجدة والغنى والثَّراء، ولا يتعلق بالأقوياء، وإنما يتعلق بالواحد القهَّار ، الذي بيده النَّفع والضّر، ومن هنا يسلم له قلبُه، ويكون مُحقِّقًا للتَّوحيد على الوجه الصَّحيح، ولا يكون في قلبه أدنى التفات إلى المخلوق.

لكن حينما يقول الإنسانُ: اللهم لا مانعَ لما أعطيتَ، ولا مُعطي لما منعتَ، ويتوقع أنَّ رئيسه في العمل يملك رزقَه ومُستقبله، وقلبه مُعلِّقه به، هذا كيف يُفلح؟!

إذا كان يقول: اللهم لا مانعَ لما أعطيتَ، ولا مُعطي لما منعتَ وقلبه مُعلَّقٌ بالطَّبيب الذي يُعالجه، أو المستشفى الذي يتردد عليه، ويُعالج فيه، ويظنّ أنَّه لو قُطع عنه ذلك يهلك ويموت؛ فهذا لم يُحقق هذا المعنى.

فالعبد حينما يقول ذلك ينبغي أن يلتفت إلى قلبِه، وأن ينظر: هل هو كذلك أو لا؟

لا مانعَ لما أعطيتَ، ولا مُعطي لما منعتَ البنات قد تبور، فلا تتزوج، وقد تكون فيها من الأوصاف الكاملة الشَّيء الكثير، ولكن الله لم يُقدِّر لها هذا، فأين المخرج؟ وأين الطَّريق؟ التَّعلق بالله ، فهو الذي يملك النَّفع والضّر.

وبعض أهل الجهالة قريبًا ممن كانوا يعبدون الأشجار، وما إلى ذلك، شجرة كبيرة تذهب لها المرأةُ التي تطلب الزوج، وتطوف بها، وتتمسَّح وتقول: يا فحل الفحول، أريد زوجًا قبل الحول! ومَن لا تُرزق بالولد كذلك، فهذا شركٌ أكبر بالله ، مُخْرِجٌ من الملَّة؛ فإنَّ الذي يُعطي ويمنع هو الله، فلا يسأل ذلك من شجرةٍ، أو نحو ذلك.

هذا هو التوحيد الذي نُردده في هذه الصَّلاة، وفي أوضاع وأشياء نقولها في قيامنا وركوعنا وسجودنا، ولكن القلوب تغفل كثيرًا عن هذه المعاني.

لعلي أتوقّف هنا، انتهى الوقتُ.

وأسأل الله أن ينفعني وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا هُداةً مُهتدين.

اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مُبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دُنيانا، والله أعلم.

وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم: كتاب الصَّلاة، باب ما يقول إذا رفع رأسَه من الركوع، برقم (477).
  2. أخرجه مسلم: كتاب الصَّلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعةٍ، وإنَّه إذا لم يُحسِن الفاتحة ولا أمكنه تعلّمها قرأ ما تيسَّر له من غيرها، برقم (395).
  3. "الصلاة وأحكام تاركها" ت. الجابي (ص208).
  4. "الحسنة والسَّيئة" (ص77).
  5. "الحسنة والسَّيئة" (ص77).

مواد ذات صلة