الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
(187) أذكار النوم شرح معاني آيتا سورة البقرة [الآية الأولى] " آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه..."
تاريخ النشر: ٠٥ / شوّال / ١٤٣٥
التحميل: 2276
مرات الإستماع: 2541

الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،

نواصل الحديثَ في هذه الليلة على هاتين الآيتين من آخر سورة البقرة في جُملة الأذكار التي تُقال عند النوم، وقد مضى الحديثُ في الليلة الماضية عمَّا يتَّصل بالحديث الذي ورد فيه ذكر ذلك: وهو حديث أبي مسعودٍ البدري : أنَّ النبي ﷺ قال: الآيتان من آخر سورة البقرة مَن قرأهما في ليلةٍ كفتاه[1]، وبيَّنا المراد بهذه الكفاية، وأقوال العُلماء في ذلك.

قوله -تبارك وتعالى-: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ، الإيمان: كثيرٌ من المفسّرين ومن المتأخّرين من أهل اللُّغة يُفسِّرونه بالتَّصديق، يقولون: صدَّق الرسول. وهذا غير دقيقٍ؛ إذ إنَّ الإيمان يفترق مع التَّصديق في اللغة، كما أنَّه يختلف عنه في المعنى في الشَّرع.

وقد ذكر شيخُ الإسلام -رحمه الله- في كتابه "الإيمان الكبير" سبعة فروقات بين الإيمان والتَّصديق في اللُّغة[2]؛ ولهذا لا يُقال: آمن بالله، أي: صدَّق بالله، (يُؤمنون بالله) أي: يُصدِّقون به، وإنما الإيمان أقرب ما يُفسَّر به أن يُقال: هو الإقرار الخاصّ الذي هو بمعنى التَّصديق الانقيادي، فليس كل تصديقٍ يُقال له: إيمان، والله يقول عن الجاحدين المكابرين: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل:14]، فهم يعلمون في قرارة نفوسهم أنَّ ما جاء به الرسولُ الذي أُرسل إليهم أنَّه حقٌّ، ولكنَّهم دفعوا ذلك على سبيل المكابرة؛ ولهذا قال الله : يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146]، فهذا يدلّ على أنهم يعلمون ذلك، ويُصدِّقون به، ولكن هذا التَّصديق لا ينفعهم، كما في القصيدة التي تُنسب لأبي طالب، وقد ذكرها الحافظُ ابن كثير -رحمه الله- في "البداية والنهاية"، وهي قصيدة طويلة يمدح فيها النبيَّ ﷺ، وكان مما قال فيها:

ولقد علمتُ بأنَّ دينَ محمدٍ من خير أديان البريَّة دينًا[3]

وهو يعلم هذا، ومع ذلك لم يُؤمن، فلم ينفعه هذا العلم، إذًا لا بدَّ من الانقياد، والتَّصديق الانقيادي، وهو تصديقٌ خاصٌّ، بمعنى: الإقرار، أمَّا مجرد ما يقع في قلبه من التَّصديق، لكنَّه يُنكر ذلك ويُكابر، فهذا ليس بإيمانٍ صحيحٍ، كما أنَّه يفترق عنه من جهة اللُّغة -كما سبق-، فالإيمان فيه معنى الأمن، وهذا لا يوجد في التَّصديق، والإيمان يُقال في الأشياء التي فيها خفاء، بخلاف التَّصديق، وهكذا في سائر الفروقات في اللغة، حتى من جهة التَّعدية؛ فالتَّصديق يتعدَّى بنفسه، ويتعدَّى بالحرف، فتقول: صدَّق به، ويتعدَّى بنفسه، أمَّا الإيمان فلا يُقال: آمنه، فلا يتعدَّى بنفسه، وإنما يتعدَّى بالحرف، إلى غير ذلك من وجوه الفرق.

إذًا آمَنَ الرَّسُولُ بمعنى: أقرَّ وصدَّق تصديقًا انقياديًّا، وأذعن وانقاد لما جاء به اللهُ -تبارك وتعالى-، والرسول هو النبي ﷺ: بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ، فهنا الإيمان عُدِّي بحرف الباء: آمن بذلك، بمعنى أقرَّ به، وانقاد، وأذعن.

بِمَا فـ(ما) هذه تُفيد العموم: بكلِّ ما أُنزل إليه من ربِّه، وهذا يشمل العقائد، والأحكام، ويشمل الأخبار، والقصص، والأمثال، والحكم، وما إلى ذلك، سواء كان ذلك مما أُنزل إليه بوحي الله -تبارك وتعالى- في القرآن، أو كان ذلك بما أوحاه إليه من غير القرآن؛ فإنَّ السُّنةَ وحيٌ، وجبريل ﷺ كان يأتي النبيَّ ﷺ بهذا وهذا، ولربما أُلقي في روعه ﷺ كما قال: وإنَّ الروح الأمين قد نفث في روعي أنَّه لن تموت نفسٌ حتى تستوفي رزقَها، فأجملوا في الطَّلب[4]، فهذا نوعٌ من الوحي، لكن القرآنَ لا يأتي بهذه الطَّريقة، وإنما عن طريق الملك عن الله .

ولما ذكر إيمان الرسول ﷺ بما أُنزل إليه من ربِّه، وهو القُدوة -عليه الصَّلاة والسلام- ذكر إيمانَ المؤمنين فقال: وَالْمُؤْمِنُونَ أي: آمنوا بما أُنزل على الرسول ﷺ من ربِّه، وجاء هذا في سياق الثَّناء والمدح، وفي سياق أيضًا التَّعليم لأهل الإيمان، فالمؤمن ليس أمامه إلا التَّصديق والانقياد: من الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا الإيمان والتَّسليم، ولا يسع المؤمن غير هذا.

أمَّا الذي يسوء أدبُه مع ربِّه -تبارك وتعالى-؛ فيكون في قلبه أو على لسانه نوعُ معارضةٍ لما جاء به الرسول ﷺ، فهذا لم يُحقق الإيمان الصَّحيح، فيقول: أنا لا أقبل شيئًا حتى أعرضه على عقلي، فما قبله عقلي قبلتُه. فجعل عقله حاكمًا على الوحي، وهذا لا يمكن أن يكون صاحبُه مسلمًا مُستسلمًا، فلم يُحقق الإسلام الصَّحيح؛ لهذا قال الله : وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36]، وقال: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [النور:51]، هذا هو اللَّائق والواجب بأهل الإيمان، ولا يسعهم غير ذلك.

كُلٌّ يعني: من الرسول ﷺ وأهل الإيمان: آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ [البقرة:285]، كلٌّ آمن بالله أنَّه واحدٌ، أحدٌ، فردٌ، صمدٌ، لا إله غيره، ولا ربَّ سواه، آمنوا بأنَّه واحدٌ في إلهيَّته، وربوبيَّته، وأسمائه، وصفاته، كلّ هذا داخلٌ في قوله: كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ، فالإيمان بالملائكة يكون مجملاً ومُفصلاً؛ فالمجمل أنَّ الله خلق ملائكةً كرامًا، وأنَّه -تبارك وتعالى- قد أوكل بهم من الوظائف والأعمال والمهام ما لا يعلمه إلا هو، وأخبرنا عن بعض ذلك: فمنهم حملة الرِّسالات بين الله وخلقه، ومنهم مَن وكّل بالأرواح، ومنهم مَن وكّل بالأرزاق والقَطْر، ومنهم من وكّل بالسَّحاب، ومنهم مَن وكّل بأعمال العباد، ومنهم خزنة للجنَّة، وخزنة للنار، ومنهم مَن يتعبَّدون لله -تبارك وتعالى-: أطَّت السَّماءُ، وحُقَّ لها أن تئطَّ؛ ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملكٌ واضعٌ جبهتَه ساجدًا لله[5]، وأخبر: هذا البيت المعمور يُصلِّي فيه كلَّ يومٍ سبعون ألف ملكٍ، إذا خرجوا لم يعودوا إليه آخر ما عليهم[6]، وأخبر: يُؤتى بجهنم يومئذٍ لها سبعون ألف زمامٍ، مع كل زمامٍ سبعون ألف ملكٍ يجرُّونها[7]، عدد هؤلاء مع ما ذُكر هذا شيءٌ لا يُحصيه إلا الذي خلقه -تبارك وتعالى-.

هذا الإيمان المجمل: وهو أن نُؤمن بأنَّ الله خلق ملائكةً كرامًا، والإيمان المفصّل: أن نُؤمن بمَن ذُكِرَ منهم، مثل: جبريل، وميكائيل، ومَن ذُكِرَ بصفته: كملك الموت، ومالك خازن النار، وما أشبه ذلك، فهذا نُؤمن به إيمانًا مُفصّلاً، وهذا الإيمان المجمل يكفي ويتحقق به المقصود، لكن الإيمان المفصّل تكون فيه زيادة في الإيمان، والإيمان مراتب، والقدر الذي لا بدَّ منه: أنَّه إذا بلغ ذلك أحدًا من الناس فعليه أن يُذعن ويُقرّ، ولا يُنكر، يعني: لا يُنكر أحدًا من الملائكة، ويقول: أنا لا أُؤمن بهذا الملك. إذا كان ذلك قد ثبت في الكتاب، أو في السُّنة، لكن من الأسماء ما لا يثبت، مثل: عزرائيل ملك الموت، لم يثبت هذا الاسمُ: لا في الكتاب، ولا في السُّنة.

وهكذا أيضًا بالنسبة للكتب: فإنَّ الإيمانَ بالكتب يكون مُجملاً: وهو أنَّ الله أنزل كُتبًا تضمّنت الهدايات والإيمان والتوحيد والشَّرائع على الأنبياء الكرام -عليهم الصَّلاة والسلام-.

والإيمان المفصّل: أن نؤمن بما ذُكر من هذه الكتب، مثل: التوراة، والإنجيل، والزبور، لكن ذلك لمن بلغه، يعني: لو أنَّ أحدًا فقط آمن بأنَّ الله أنزل كتبًا، لكنَّه لا علمَ له بشيءٍ من هذا، ولا يُنكر شيئًا منها؛ فإنَّه يكفيه الإيمان المجمل.

أمَّا الرسول ﷺ فلا بدَّ من الإيمان به على وجه التَّحديد، ولا يصحّ الإيمانُ إلا بهذا.

والرسل كذلك: هناك إيمانٌ مُجملٌ، وإيمانٌ مُفصَّلٌ؛ فالإيمان المجمل: أنَّ الله أرسل رسلاً إلى خلقه، وأوحى إليهم بوحيه، وهذا القدر هو الذي يحصل به الإيمانُ ويتحقق، لكن لا بدَّ من الإيمان بخصوص النبي ﷺ.

والإيمان المفصّل: أن يُؤمن بمَن ذُكِرَ منهم، والمذكورون في القرآن جملة معروفة -عليهم الصَّلاة والسلام-.

لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ، فهؤلاء، هذه صفة أهل الإيمان: أنَّهم لا يُفرِّقون في الإيمان، فيُؤمنون ببعضٍ، ويكفرون ببعضٍ: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً ۝ أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا [النساء:150-151]؛ ولهذا تجدون في خبر قوم نوحٍ مثلاً: أنَّ الله -تبارك وتعالى- يُضيف إليهم الكفر بالمرسلين، مع أنَّهم إنما كفروا بنوحٍ ﷺ، وهو أول رسولٍ إلى أهل الأرض، ولكن كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء:105]، وذلك أنَّ مَن كذَّب واحدًا فقد كذَّب بالجميع.

فهؤلاء الذين يقولون: نُؤمن بموسى ﷺ، وبأنبياء بني إسرائيل، ولا نُؤمن بعيسى، ولا بمحمدٍ -صلى الله عليهما وسلم-. لا ينفعهم إيمانهم، فهم كفَّار بنصِّ القرآن، وهكذا الذين يقولون: نؤمن بموسى وعيسى -عليهما الصَّلاة والسَّلام-، ولا نؤمن بمحمدٍ ﷺ. أو مَن يقول -كبعض طوائف أهل الكتاب-: نُؤمن بأنَّ محمدًا ﷺ رسولٌ من عند الله حقًّا، ولكنَّه أُرسل إلى العرب خاصَّةً. فهؤلاء أيضًا لا ينفعهم هذا الإيمان.

لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ كما فعل أولئك من أهل الكتاب، وإنما نقول كما قال الرسولُ ﷺ وأهلُ الإيمان: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [البقرة:285]، وهذا من مُقتضى الإيمان: السَّمع والطَّاعة، سمعنا قولك يا ربّ، وفهمناه، وقُمنا به، وامتثلنا ذلك، سمعنا سماعَ استجابةٍ وقبولٍ وانقيادٍ: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ [الأنفال:21]، فهؤلاء ليست لديهم الاستجابة، فذلك السَّمع كعدمه: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، فهم حينما سمعوا سماع قبولٍ، تبع ذلك الطَّاعة والانقياد والعمل والامتثال، هذا هو شعار المؤمن: إذا جاءك النصُّ عن الله أو عن رسوله ﷺ، فقل: سمعنا وأطعنا. ولا يقل الإنسانُ: لا حتى أقتنع، أو نحو ذلك مما يمكن أن يقوله البعضُ قديمًا أو حديثًا: إنَّ هذا يُعارض القواعد والأصول، أو أنَّ هذا يُعارض العقول، أو نحو ذلك.

ولا يوجد في كلام الله ولا كلام رسوله ﷺ شيءٌ ألبتة يُعارض العقل، لكن يُوجد فيه ما تتوقف العقول بإدراكه؛ لأنها قاصرةٌ، إنما تجول في هذا العالم المشهود، ولها حدٌّ محدودٌ، لا تستطيع أن تتجاوزه، فالأنبياء -عليهم الصَّلاة والسَّلام- جاءوا بمحارات العقول، ولم يأتوا بمُحالات العقول، لم يأتوا بشيءٍ يقول العقلُ: لا يمكن، هذا مُحال، أبدًا. لكن جاءوا بأشياء يتوقف العقلُ ويقول: أنا لا أُدرك هذا. فيقصر دونها، هذا لا إشكالَ فيه.

فعقل الإنسان لا يُدرك أقربَ الأشياء إليه، فلو نظرنا في هذه الكهرباء لا نراها، ولا نجد لها رائحةً، ولا نسمعها، ولا شيء من ذلك، ومع ذلك هي موجودة، وآثارها ظاهرة، والأرض كُروية، ولو قيل: نحن نُؤمن بهذا، وأنَّ الأرض كُروية، ونرى صورها الحقيقية بالأقمار الصِّناعية، لكن مَن الناس مَن يكون في الأسفل، كيف يعيش هؤلاء وينتقلون؟! والعمارات والنَّاطحات والدُّنيا والبحار والأنهار لا يتغير شيءٌ، يقول: جاذبية، وفلسفات، وأنا لا أُنكر الجاذبية، لكن هل يتصور هذا العقل وإلا يتوقف؟ يتوقف العقل، كيف يوجد ناسٌ في الجزء الأسفل من الأرض في الجهة الثانية، ويعيشون كما لو كانوا في الأعلى؟! هذا أمرٌ يتوقف دونه العقل، هل تتصورون هذا؟! نحن نتصور أنَّه يوجد، لكن كيف يقع؟! لو بقينا مع العقول لقلنا: يسقط كل شيءٍ، كيف ينتقلون؟! وكيف تحصل معايشهم؟! والبحار لا تتحرك ولا تتغير، وكأنَّ شيئًا لم يكن، فهذا العقل يقصر دونه، مع أنَّه شيءٌ مُشاهَدٌ.

وهذه الروح التي تملأ الجسد، الجميع يُقرّ بها، وبمجرد ما تخرج يتحوّل إلى جمادٍ، مثل: الخشبة تمامًا، لا حراكَ به، ولا يمكن أن يُجيب عن سؤالٍ، ولا يتحرك بعد أن كان يُدبر ويأمر وينهى، يتحوّل إلى شيءٍ آخر.

وتقرؤون في بعض سير خلفاء بني العباس، كما يحكي أقربُ الناس إليه من وزرائه: أنَّه عند مرض الموت من شدّة هيبته كان بنو العباس من بني عمِّه وقرابته لا يجرؤون على الدُّخول عليه، وهو يحتضر، فكان هذا الوزير ينظر: هل فارق الحياةَ أم لا؟ يقول: فاقتربتُ منه، فنظرتُ، فنظر إليَّ بعينٍ كاد قلبي أن يطير من الهيبة والخوف. يقول: فتراجعتُ. هذا في مرض الموت، يقول: ثم أتيتُه ثانيةً، فوجدتُ تلك العين التي نظر إليَّ بها قد قضمها فأرٌ، يعني: مات وجاء فأرٌ وعدا على تلك العين، وهو فأرٌ ضعيفٌ، وما استطاع أن يدفعه عن نفسه، وهؤلاء الكُبراء، ومَن سيكون خليفةً من بعده ما يجرؤون على المجيء للنَّظر فقط: هل مات أو لم يمت؟ أو يجلسون عنده؛ هيبةً له، ثم يتحوّل بعد خروج الروح إلى شيءٍ آخر تمامًا.

هذا أمرٌ لا يُدركه العقلُ، لكنَّه شيء مُشاهَد، فالعقل ليس مُدركًا لكثيرٍ من الأشياء التي حوله، فكيف بالعالم العلوي والغيب، وما إلى ذلك؟

غُفْرَانَكَ [البقرة:285] هذا سؤالٌ للمغفرة والرحمة، مع هذا الإيمان، والإذعان، والأدب، والانقياد، وعرفنا أنَّ هذا يتضمّن السّتر والوقاية.

رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285] يعني: المرجع، يا ربنا، فاغفر لنا، فنصير إليك.

وأترك الكلامَ على باقي الآية في ليلةٍ أخرى.

وأسأل الله أن ينفعني وإياكم بما سمعنا، ويجعلني وإياكم هُداةً مُهتدين.

والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه.

  1. متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب فضائل القرآن، باب مَن لم يرَ بأسًا أن يقول: سورة البقرة، وسورة كذا وكذا، برقم (5040)، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل الفاتحة وخواتيم سورة البقرة، برقم (807).
  2. "الإيمان" لابن تيمية (ص102).
  3. "البداية والنهاية" ط. إحياء التراث (3/56).
  4. "شعب الإيمان" برقم (1141).
  5. أخرجه الترمذي: أبواب الزهد، بابٌ في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا))، برقم (2312)، وابن ماجه: كتاب الزهد، باب الحزن والبكاء، برقم (4190)، وحسَّنه الألباني.
  6. متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، برقم (3207)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، برقم (164).
  7. أخرجه مسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، بابٌ في شدّة حرِّ نار جهنم وبُعْد قعرها وما تأخذ من المعذَّبين، برقم (2842).

مواد ذات صلة