الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
(196) أذكار النوم " أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء..."
تاريخ النشر: ١٨ / شوّال / ١٤٣٥
التحميل: 2110
مرات الإستماع: 1902

الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،

نواصل الحديث -أيّها الأحبّة- عمَّا ابتدأناه في الليلة الماضية من حديث سهيلٍ، قال: كان أبو صالحٍ يأمرنا إذا أراد أحدُنا أن ينام أن يضطجع على شقِّه الأيمن، ثم يقول: اللهم ربَّ السَّماوات، وربَّ الأرض، وربَّ العرش العظيم، ربنا وربّ كل شيءٍ، فالق الحبِّ والنَّوى، ومُنزل التَّوراة والإنجيل والفُرقان، أعوذ بك من شرِّ كل شيءٍ أنت آخذٌ بناصيته، اللهم أنت الأول فليس قبلك شيءٌ، وأنت الآخر فليس بعدك شيءٌ، وأنت الظَّاهر فليس فوقك شيءٌ، وأنت الباطن فليس دونك شيءٌ، اقضِ عنا الدَّين، وأغننا من الفقر. وكان يروي ذلك عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ، وهو مُخرَّجٌ في مسلمٍ[1].

فبعد أن ذكر هذا الثناء على الله -تبارك وتعالى- ذكر الاستعاذةَ بعده، فقال: أعوذ بك، وهذا من الأذكار التي تجمع بين الثَّناء على الله -تبارك وتعالى-، مع السُّؤال، إضافةً إلى الإخبار، وهذا يكون من أجمع الأذكار، وقد عرفنا مراتبها، فهنا بدأ بالسُّؤال؛ لأنَّ الاستعاذة من قبيل السؤال: أعوذ بك من شرِّ كل شيءٍ أنت آخذٌ بناصيته، وعرفنا معنى العوذ، وأنَّه بمعنى الاعتصام والالتجاء، فهو يستعيذ بالله -تبارك وتعالى- من كل شيءٍ، يقول: أنت آخذٌ بناصيته، وفي روايةٍ لمسلم: من شرِّ كل دابَّةٍ أنت آخذٌ بناصيتها[2]، ومن كل شيءٍ، هذا أعمّ من الدابَّة، وحينما يُقيد بمثل هذا القيد: أنت آخذٌ بناصيته، وناصية الشَّيء هي مُقدّمه.

فالله -تبارك وتعالى- آخذٌ بنواصي الخلق جميعًا، فهذه صفةٌ كاشفةٌ، وليست بصفةٍ مُقيدةٍ، فالصِّفات على نوعين: منها ما يكون من قبيل الصِّفات الكاشفة، كما نقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]؛ لأنَّ الصِّراط لا يكون صراطًا إلا إذا كان مُستقيمًا، فإذا قيل: الصِّراط المستقيم، فهذه كاشفة، وليست بمُقيدةٍ، لكن حينما نقول مثلاً: رجلٌ طويلٌ، فهذه صفةٌ مُقيدةٌ، لكن حينما تقول: رجلٌ ذكرٌ، فهي صفة كاشفة؛ لأنَّ الرجل لا يكون إلا ذكرًا، وحينما تقول: امرأةٌ أنثى، فهذه صفة كاشفة، تكشف عن حقيقة الموصوف، ولا تُقيّده، بخلاف ما لو قيل لامرأةٍ: مُؤمنة، فتخرج غير المؤمنة، فهنا حينما يقول: أعوذ بك من شرِّ كل شيءٍ أنت آخذٌ بناصيته، هذا لا يُقيد الموصوف؛ لأنَّ الله آخذٌ بناصية كل شيءٍ، لا يخرج شيءٌ عن ذلك، ولكن هذا لمزيدٍ من التَّحقيق، هذا يعود على نفس قائله بالتَّثبت واليقين والاطمئنان، وصدق التَّوكل واللُّجئ إلى الله -تبارك وتعالى-، والعوذ بربِّه وخالقه .

فإذا استحضر أنَّ نواصي الخلق بيد الله ، وهذا -كما سبق- أعمّ من روايةٍ أخرى عند مسلمٍ: من شرِّ كل دابَّةٍ أنت آخذٌ بناصيتها[3]، فالدابَّة تُطلق بإطلاقاتٍ، لكنَّها تُقال لما يدبّ على الأرض، فكلّ ما دبَّ على الأرض فهو دابَّة، فيدخل في ذلك الإنسان والحيوان، وسائر أنواع الدَّواب: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [هود:6]، لكن الشَّجر لا يُقال له: دابَّة، والحجر لا يُقال له: دابَّة، وإنما يُقال ذلك لمن يكون موصوفًا بالدَّبيب، وتُطلق بإطلاقٍ أضيق من هذا، ويُراد به ذوات الأربع من الحيوان، وتُطلق بإطلاقٍ عُرفيٍّ أضيق في عُرفٍ خاصٍّ، فيُقال للحمار: دابَّة، فهذا أضيق إطلاقاته، والمقصود هنا ما هو أعمّ -والله أعلم.

ثم قال مُخبرًا عن ربِّه -تبارك وتعالى- الذي يستعيذ به: اللهم أنت الأوَّل، فليس قبلك شيء، وقوله: فليس قبلك شيء تفسيرٌ للأول، يعني: له الأوَّلية المطلقة، وهذا من أسماء الله -تبارك وتعالى-، وسيأتي الكلامُ عليه، وما يكون مُقترنًا معه؛ لأنَّ الأول يُذكر مع الآخر، كما أنَّ الظَّاهر يُذكر مع الباطن، وسيأتي الكلامُ على ذلك جميعًا، إن شاء الله تعالى.

والله يقول: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ [الحديد:3]، فهذه الأسماء الأربعة لم ترد -فيما أعلم- إلا في هذه الآية من كتاب الله ، وفي سنة رسول الله ﷺ في هذا الحديث الذي رواه الإمامُ مسلم في "صحيحه"، ونُثبتها لله -تبارك وتعالى-، ونُثبت ما تضمّنته من الأوصاف من غير تكييفٍ، ولا تحريفٍ، ولا تعطيلٍ، ولا تمثيلٍ، فإنَّ أهلَ السُّنة -كما هو معلومٌ- يُؤمنون بأنَّ الله -تبارك وتعالى- لم يزل بصفاته -تبارك وتعالى- وأسمائه، ليس لأوَّليته ابتداء، ولا لآخريَّته انقضاء، وهو عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، كما قال حافظُ المغرب ابن عبدالبر -رحمه الله-[4].

فالأول هو السَّابق للأشياء كلِّها، الكائن الذي لم يزل قبل وجود الخلق، فاستحقَّ الأولية؛ إذ كان موجودًا ولا شيءَ قبله، ولا معه، هكذا فسَّره بعضُ أهل العلم: كالخطَّابي[5]، وهو معنًى صحيحٌ، وقول البيهقي: هو الذي لا ابتداءَ لوجوده[6]. وبنحو ذلك قال آخرون.

وهكذا بالنسبة للآخر، فإنَّه الباقي بعد فناء الخلق، وكذلك الذي لا انتهاءَ لوجوده، هكذا فسَّروه، وهو مُوافقٌ للحديث.

وأنت الآخر فليس بعدك شيءٌ فهذا تفسيرٌ أيضًا له، والحافظ ابن القيم -رحمه الله- تكلّم على هذه الأسماء الأربعة بكلامٍ بديعٍ، ويأتي -إن شاء الله تعالى- ذلك مُفصَّلاً في الكلام على هذه الأسماء في شرح الأسماء الحسنى، فهو يُقرر أنَّ الله -تبارك وتعالى- سبق كلَّ شيءٍ بأوَّليته: هذا الأول، وبقي بعد كلِّ شيءٍ بآخريته[7].

ثم يذكر التَّعبد له -تبارك وتعالى- بمُقتضى هذه الأسماء، وكيف نتعبَّد باسمه الأوَّل؟ لأنَّ هذا يقتضي التَّجرد من مُطالعته الأسباب، والتفات إليها، وتجريد النَّظر إلى مجرد سبق فضله ورحمته، يعني: هو الذي أعطاك ابتداءً، فهو الأول قبل الأسباب، وقبل أن يُوجد أحدٌ من الخلق يُعطيك، أو يكون سببًا في نوالك، أو نحو ذلك من: البُرء، والغنى، والعلم، فالله هو الأول، وهو المبتدئ بالعطاء قبل أن يُوجد السَّبب، فهو خالقُ الأسباب، فلا يلتفت العبدُ إلى الأسباب، وإنما يعملها، ولكن لا يركن قلبُه إليها، ولا يتعلَّق بها، فهو يُجرد النَّظر إلى مجرد سبق فضله ورحمته، وأنَّه هو المبتدئ بالإحسان من غير وسيلةٍ من العبد؛ إذ لا وسيلةَ له في العدم قبل وجوده، وأي وسيلةٍ كانت هناك؟! وإنما هو عدمٌ محضٌ، وقد أتى عليه حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا [الإنسان:1]، فمنه سبحانه الإعداد، ومنه الإمداد، وفضله سابقٌ على الوسائل، والوسائل من مجرد فضله وجوده، ويقول: من نزل اسمه الأول على هذا المعنى أوجب له فقرًا خاصًّا، وعبوديةً خاصَّةً[8]، لا يتعلَّق بشيءٍ، وإنما يفتقر إلى مُسبِّب الأسباب، وإلى مُوجِدها وخالقها.

وأمَّا عبوديته -تبارك وتعالى- باسمه الآخر، فإنَّها تقتضي أيضًا عدم الركون والوثوق بالأسباب، والوقوف معها، فإنها تنعدم لا محالةَ، وتنقضي بالآخرية، والله هو الآخر الذي ليس بعده شيءٌ، فهو الباقي، وكل شيءٍ يضمحل، فالتَّعلق بها تعلُّقٌ بما ينعدم وينقضي، والتَّعلق بالآخر تعلُّقٌ بالحيِّ الذي لا يموت، ولا يزول، فالمتعلِّق به حقيقٌ ألا يزول، ولا ينقطع، بخلاف التَّعلق بغيره مما له آخر يفنى به[9].

ثم يذكر بعد ذلك ما يُوجبه هذان الاسمان من صحّة الاضطرار إلى الله -تبارك وتعالى- وحده، ودوام الفقر إليه دون كل شيءٍ سواه، وأنَّ الأمر ابتداءً منه، وإليه يرجع، فهو المبتدئ بالفضل حيث لا سببَ، ولا وسيلةَ، وإليه تنتهي الأسباب والوسائل، فهو أول كل شيءٍ وآخره، وكما أنَّه ربُّ كل شيءٍ وفاعله وخالقه وبارئه، فهو إلهه وغايته التي لا صلاحَ له، ولا فلاحَ، ولا كمالَ، إلا بأن يكون وحده غايته ونهايته ومقصوده، فهو الأول الذي ابتدأت منه المخلوقات، والآخر الذي انتهت إليه عبوديَّاتها، وإراداتها، ومحبَّتها، فليس وراء الله شيءٌ يُقصد ويُعبد ويُتألّه، كما أنَّه ليس قبله شيءٌ يخلق ويبرأ[10].

يقول: فكما كان واحدًا في إيجادك، فاجعله واحدًا في تألهك إليه؛ لتصحّ عبوديتك، وكما ابتدأ وجودك وخلقك منه، فاجعله نهاية حبِّك وإرادتك وتألهك إليه؛ لتصحّ لك عبوديته باسمه (الأول والآخر)، وأكثر الخلق تعبَّدوا له باسمه (الأول)، وإنما الشَّأن في التَّعبد له باسمه (الآخر)، فهذه عبوديَّة الرسل -عليهم الصَّلاة والسَّلام-[11].

فهو الأول ليس قبله شيءٌ، إذًا لا يركن القلبُ، ولا يتعلَّق بأحدٍ، ولا بشيءٍ سواه، وهو الآخر: فلا يركن القلبُ أيضًا إلى شيءٍ؛ لأنَّ كلَّ شيءٍ ينقضي إلا الله -تبارك وتعالى-، وعطاؤه هو الذي يبقى، وفضله، وإحسانه، فيرجوه العبدُ ويخافه، وكذلك (الظَّاهر والباطن).

وكبير المفسّرين أبو جعفر ابن جرير -رحمه الله- يقول: بأنَّ (الظَّاهر) هو الظَّاهر على كل شيءٍ دونه، وهو العالي فوق كل شيءٍ، فلا شيءَ أعلا منه[12].

وهذا كلام أهل السُّنة والجماعة، فكثيرٌ من الكلام الذي يذكره الشُّراح –أعني: شرَّاح الحديث- فيه ما فيه من كلام المتكلِّمين وإشكالاتهم، ولربما لا يصحّ كثيرٌ مما يذكرون.

والحافظ ابنُ القيم -رحمه الله- يذكر أنَّ من لوازم اسمه (الظَّاهر) ألا يكون فوقه شيء[13]، ويذكر هذا الحديث، وأنَّه فوق كل شيءٍ، إذًا فالفوقيَّة هي من لوازم اسمه (الظاهر)، يقول: ولا يصحّ أن يكون الظاهرُ هو مَن له فوقيَّة القدر فقط، وإنما فوقيَّة الذَّات والقدر والقهر والمنزلة، وما إلى ذلك.

يقول: ولا يصحّ أن يكون ظهورُ القهر والغلبة فقط، وإن كان سبحانه ظاهرًا بالقهر والغلبة. يقول: لمقابلة الاسم (الباطن)، وهو الذي ليس دونه شيءٌ، كما قابل (الأول) الذي ليس قبله شيء بـ(الآخر) الذي ليس بعده شيء[14]، وتكلّم على هذا في مواضع من كتبه.

وابن جريرٍ -رحمه الله- فسَّر بالباطن؛ بأنَّه الباطن لجميع الأشياء، فلا شيءَ أقرب إلى شيءٍ منه[15]، كما قال -تبارك وتعالى-: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق:16]، طبعًا هذه الآية الجمهور على أنَّ المراد الملائكة، وأنَّ ذلك ليس من التَّأويل، والله قال: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ [ق:17]، ويكفي في تعريف اسمه (الباطن) قول النبي ﷺ هنا: وأنت الباطنُ فليس دونك شيء.

والشيخ عبدالرحمن بن سعدي -رحمه الله- يُفسِّر (الباطن) ببعض مُقتضياته ولوازمه: بأنَّه يدلّ على اطلاعه على السَّرائر والضَّمائر، والخبايا والخفايا، ودقائق الأشياء، كما يدلّ على كمال قُربه ودُنوه، وأنَّه لا يتنافى الظَّاهر والباطن؛ لأنَّ الله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] في كل النُّعوت، فهو العلي في دونه، القريب في عُلوه[16].

والحافظ ابن القيم -رحمه الله- يذكر التَّعبد باسمه (الظاهر) بأنَّ ذلك يكون بجمع القلب على المعبود، وأنَّه يجعل له ربًّا يقصده إذا تعبَّد لله بهذا الاسم، ويصمد أيضًا؛ أن يكون له ربٌّ يصمد إليه في حوائجه، ويكون ربّه -تبارك وتعالى- هو ملجأه، وملاذه، ومعاذه[17].

يقول ابنُ القيم: فإذا استقرَّ ذلك في قلبه، وعرف ربَّه باسمه (الظاهر)؛ استقامت له عبوديَّته، وصار له معقل وموئل يلجأ إليه، ويهرب إليه، ويفرّ في كل وقتٍ إليه[18].

يقول: وأمَّا تعبُّده باسمه (الباطن)، فأمرٌ يضيق ناطقُ التَّعبير عن حقيقته، ويكلّ اللِّسانُ عن وصفه، وتصطلم الإشارةُ إليه، وتجفو العبارةُ عنه، فإنَّه يستلزم معرفةً بريئةً من شوائب التَّعطيل، ومُخلِّصةً من فرث التَّشبيه، مُنزه عن رجس الحلول والاتِّحاد[19]. يقصد أنَّ الكثيرين فسَّروا هذا الاسم (الباطن) بتفسيرات مُنحرفة، كما فعل طوائفُ من الصُّوفية الغُلاة، وطوائف من الباطنية، ونحو هؤلاء، ويذكر مَن زلَّ في هذا الباب.

ثم يقول عن التَّعبد لله -تبارك وتعالى- باسمه (الباطن): إذا شهدت إحاطته بالعوالم، وقرب البعيد منه، وظهور البواطن له، وبدو السَّرائر، وأنَّه لا شيءَ بينه وبينها؛ فعامله بمُقتضى هذا الشُّهود، وطهِّر له سريرتك؛ فإنَّها عنده علانية، وأصلح له غيبَك؛ فإنَّه عنده شهادة، وزكِّ له باطنك؛ فإنَّه عنده ظاهر[20].

ثم يذكر أنَّ مدار هذه الأسماء الأربعة على الإحاطة، وأنهما إحاطتان: إحاطة زمانية، وإحاطة مكانية.

فإحاطة أوَّليته وآخريته بالقبل والبعد، يعني: هذه الزمانية، فكلُّ سابقٍ انتهى إلى أوَّليته، وكل آخرٍ انتهى إلى آخريته، فأحاطت أوَّليته وآخريته بالأوائل والأواخر، وأحاطت ظاهريته وباطنيَّته بكلِّ ظاهرٍ وباطنٍ، فما من ظاهرٍ إلا والله فوقه، وما من باطنٍ إلا والله دونه، وما من أوَّلٍ إلا والله قبله، وما من آخرٍ إلا والله بعده، فالأول قدمه، والآخر دوامه وبقاؤه، والظَّاهر علوه وعظمته، والباطن قُربه ودونه، فسبق كل شيءٍ بأوَّليته، وبقي بعد كلِّ شيءٍ بآخريته، وعلا على كل شيءٍ بظهوره، ودنا من كل شيءٍ ببطونه، فلا تُواري منه سماءٌ سماءً، ولا أرضٌ أرضًا، ولا يحجب عنه ظاهرٌ باطنًا، بل الباطن له ظاهر، والغيب عنده شهادة، والبعيد منه قريب، والسّر عنده علانية، فهذه الأسماء الأربعة تشتمل على أركان التوحيد[21]. إلى آخر ما ذكر.

الخُلاصة: أنَّ العبد إذا علم أنَّ ربَّه -تبارك وتعالى- هو الأول، فإنَّه يركن إليه، فالله -تبارك وتعالى- قبل الأسباب، وقبل الوسائط، وقبل الخلق جميعًا، فلماذا يتعلّق العبدُ بمخلوقٍ ربما يرى أنَّه قد رسخت قدمه في هذا الباب من الغنى أو السُّلطان أو العلم، أو غير ذلك؟! فالله قبل ذلك جميعًا، وهو الآخر؛ فلا يتعلق بأحدٍ من المخلوقين؛ لأنَّ هذا سيموت وينتهي، وإنما يتعلَّق بالحيِّ الذي لا يموت؛ ومن ثم فإنَّه لا يركن إلى غير الله ، ولا يتوكّل على أحدٍ سواه، المخلوق ينتهي ويموت، وكم من إنسانٍ يعلق قلبُه بمخلوقٍ، ثم بعد ذلك تكون حسرتُه إذا فارقه؟!

وهكذا لا يركن الإنسانُ إلى شيءٍ من الدنيا؛ قد يركن إلى منصبٍ، وإلى ولايةٍ، أو نحو ذلك، ثم بعد ذلك تزول عنه، أو يزول هو عنها، فالله هو الأول، وهو الآخر، وكذلك هو الظَّاهر، فمهما علا شأنُ المخلوق، فالله فوقه.

وكذلك أيضًا فالعبدُ يتعامل مع ربٍّ يعلم الخفايا والدَّقائق والسَّرائر، وما يجول في الخواطر، ولا تخفى عليه خافية، إذًا لا داعي للتَّصنع للناس، ولا داعي للتَّخفي بالمعاصي والمدنسات، فيكون حالُ العبد في السّر كحاله في العلانية، فالله يعلم ما الذي يدور في خواطره، ويعلم ما يجول في قلبه ونفسه: حينما يصمت، وحينما يتحدَّث، وحينما يُغمض عينيه، وحينما يفتحها، وحينما يتغشَّى بثيابه، وحينما يكون في حالٍ من أحواله، فالله مُطَّلعٌ عليه، فالتَّعامل يكون مع ربٍّ السر عنده علانية، لا فرقَ بحالٍ من الأحوال.

ومن ثم فإنَّ العبدَ يكون على حالٍ واحدةٍ، قد تخفى على المخلوقين أشياء كثيرة من شؤوننا، ولكن الله لا يخفى عليه شيءٌ، فيكون العبدُ في حالٍ من تحقيق العبودية، والصَّفاء، والإخلاص، والتَّقوى، سرًّا وعلانيةً، في الظَّاهر والباطن؛ لأنَّ ربَّه -تبارك وتعالى- قريبٌ منه، يعلم أحوالَه جميعًا.

وهكذا حينما يفتقر إليه ويسأله ويرجوه، فإنَّه يعلم أنَّ ربَّه قريبٌ: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186]، فهنا يحصل للعبد اليقينُ والإيمانُ والإذعان، ويكون عابدًا لربِّه حقًّا.

أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هُداةً مُهتدين.

والله أعلم، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع، برقم (4888).
  2. أخرجه مسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع، برقم (4888).
  3. أخرجه مسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع، برقم (4888).
  4. "جامع بيان العلم وفضله" (1/57).
  5. "شأن الدعاء" (1/87).
  6. "الاعتقاد" للبيهقي (ص21).
  7. "مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين" (3/111).
  8. "طريق الهجرتين وباب السعادتين" (ص19).
  9. "طريق الهجرتين وباب السعادتين" ت: عمر بن محمود (ص40).
  10. "طريق الهجرتين وباب السعادتين" (ص20).
  11. "طريق الهجرتين وباب السعادتين" (ص20).
  12. "تفسير الطبري = جامع البيان" ت: شاكر (23/168).
  13. "مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين" (1/55).
  14. "مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين" (1/55).
  15. "تفسير الطبري = جامع البيان" ت: شاكر (23/168).
  16. "تفسير أسماء الله الحسنى" للسعدي (ص20).
  17. "طريق الهجرتين وباب السعادتين" (ص21).
  18. "طريق الهجرتين وباب السعادتين" (ص21).
  19. "طريق الهجرتين وباب السعادتين" (ص21).
  20. "طريق الهجرتين وباب السعادتين" (ص25-26).
  21. "طريق الهجرتين وباب السعادتين" (ص24).

مواد ذات صلة