الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
(221) دعاء ما يقول من خاف قوما " اللهم اكفنيهم بما شئت "
تاريخ النشر: ٢٠ / ذو الحجة / ١٤٣٥
التحميل: 1887
مرات الإستماع: 2412

الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،

سنتحدَّث عمَّا أورده المؤلفُ تحت باب (ما يقول مَن خاف قومًا)، وذكر فيه هذه الجملة: (اللهم اكفنيهم بما شئتَ)، وذلك في الحديث الطَّويل الذي أخرجه الإمامُ مسلم -رحمه الله- في "صحيحه" في قصّة الغلام والسَّاحر والراهب.وأسوق ذلك سياقًا أقف معه بعض الوقفات اليسيرة؛ لأنَّ الكلام على هذا طويلٌ، ويحتاج إلى مجالس طويلةٍ، وليس ذلك بمقصودٍ هنا، وإنما الكلام في هذا الذكر، لكن لما اشتمل هذا الحديثُ على فوائد وعِبر فلا بأسَ من إيراد السياق بكامله، وهو ما جاء عن صهيب : أنَّ رسول الله ﷺ قال:

كان مَلِكٌ فيمَن كان قبلكم، وكان له ساحرٌ، فلمَّا كبر قال للملك: إني قد كبرتُ، فابعث إليَّ غُلامًا أُعلِّمه السحر، فبعث إليه غلامًا يُعلِّمه، فكان في طريقه إذا سلك راهبٌ، فقعد إليه، وسمع كلامَه، فأعجبه، فكان إذا أتى السَّاحر مرَّ بالراهب وقعد إليه، فإذا أتى السَّاحر ضربه، فشكا ذلك إلى الراهب، فقال: إذا خشيتَ السَّاحر فقل: حبسني أهلي. وإذا خشيتَ أهلك فقل: حبسني الساحرُ. فبينما هو كذلك إذ أتى على دابَّةٍ عظيمةٍ قد حبست الناس، فقال: اليوم أعلم: آلسَّاحر أفضل أم الراهب أفضل؟ فأخذ حجرًا فقال: اللهم إن كان أمرُ الراهب أحبَّ إليك من أمر السَّاحر فاقتل هذه الدابَّة حتى يمضي الناسُ. فرماها فقتلها ومضى الناس، فأتى الراهبَ فأخبره، فقال له الراهبُ: أي بُني، أنت اليوم أفضل مني، قد بلغ من أمرك ما أرى، وإنَّك ستُبتلى، فإنِ ابتُليتَ فلا تدلّ عليَّ.

وكان الغلامُ يُبرئ الأكمه والأبرص، ويُداوي الناس من سائر الأدواء، فسمع جليسٌ للملك كان قد عمي، فأتاه بهدايا كثيرةٍ، فقال: ما هاهنا لك أجمع إن أنتَ شفيتني. فقال: إني لا أشفي أحدًا، إنما يشفي الله، فإن أنتَ آمنتَ بالله دعوتُ الله فشفاك. فآمن بالله؛ فشفاه الله.

فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس، فقال له الملكُ: مَن ردَّ عليك بصرك؟ قال: ربي. قال: ولك ربٌّ غيري؟! قال: ربي وربُّك الله. فأخذه، فلم يزل يُعذِّبه حتى دلَّ على الغلام، فجيء بالغلام، فقال له الملك: أي بُني، قد بلغ من سحرك ما تُبرئ الأكمه والأبرص، وتفعل، وتفعل. فقال: إني لا أشفي أحدًا، إنما يشفي الله. فأخذه، فلم يزل يُعذِّبه حتى دلَّ على الراهب، فجيء بالراهب، فقيل له: ارجع عن دينك. فأبى، فدعا بالمئشار، فوُضِعَ المئشارُ على مفرق رأسه، فشقَّه حتى وقع شقَّاه، ثم جيء بجليس الملك، فقيل له: ارجع عن دينك. فأبى، فوضع المئشارُ في مفرق رأسه، فشقَّه به حتى وقع شقَّاه.

ثم جيء بالغلام، فقيل له: ارجع عن دينك. فأبى، فدفعه إلى نفرٍ من أصحابه فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا، فاصعدوا به الجبل، فإذا بلغتم ذروته، فإن رجع عن دينه، وإلا فاطرحوه. فذهبوا به، فصعدوا به الجبل، فقال: اللهم اكفنيهم بما شئتَ. فرجف بهم الجبلُ فسقطوا، وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملكُ: ما فعل أصحابُك؟ قال: كفانيهم الله.

فدفعه إلى نفرٍ من أصحابه فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقورٍ، فتوسَّطوا به البحر، فإن رجع عن دينه، وإلا فاقذفوه. فذهبوا به، فقال: اللهم اكفنيهم بما شئتَ. فانكفأت بهم السَّفينة فغرقوا، وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله.

فقال للملك: إنَّك لستَ بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به. قال: وما هو؟ قال: تجمع الناسَ في صعيدٍ واحدٍ، وتصلبني على جذعٍ، ثم خذ سهمًا من كنانتي، ثم ضع السَّهم في كبد القوس، ثم قل: بسم الله ربّ الغلام، ثم ارمني، فإنَّك إذا فعلتَ ذلك قتلتني.

فجمع الناسَ في صعيدٍ واحدٍ، وصلبَه على جذعٍ، ثم أخذ سهمًا من كنانته، ثم وضع السَّهم في كبد القوس، ثم قال: بسم الله ربّ الغلام، ثم رماه؛ فوقع السَّهم في صُدغه، فوضع يده في صُدغه في موضع السَّهم، فمات، فقال الناسُ: آمنا بربِّ الغلام، آمنا بربِّ الغلام، آمنا بربِّ الغلام.

فأتى الملك فقيل له: أرأيتَ ما كنت تحذر؟! قد والله نزل بك حذرك؛ قد آمن الناسُ! فأمر بالأخدود في أفواه السِّكك فخُدَّت، وأضرم النِّيران، وقال: مَن لم يرجع عن دينه فأحموه فيها. أو قيل له: اقتحم. ففعلوا، حتى جاءت امرأةٌ ومعها صبيٌّ لها، فتقاعست أن تقع فيها، فقال لها الغلامُ: يا أُمَّه، اصبري؛ فإنَّكِ على الحقِّ

[1].

أخرجه الإمامُ مسلمٌ بهذا السياق، وهذا لفظه.

فالنبي ﷺ ذكر هذا الخبر من أخبار الماضين لما فيه من العِبر؛ فهذا الملكُ كان له ساحرٌ، وفي رواية الترمذي: وكان لذلك الملك كاهنٌ يكهن له[2]، والكاهن والسَّاحر مُتقاربان، مع الفرق الذي لا يخفى.

فلمَّا كبر يعني: هذا الساحرُ، يعني: في السنِّ، لكن يُقال: كبُر في القدر: كَبُرَتْ كَلِمَةً [الكهف:5]، يعني: عظمت، قال للملك: إني قد كبرتُ، فابعث إليَّ غلامًا، في رواية الترمذي: فهمًا، أو قال: فَطِنًا، والغلام: الصَّبي من الفِطام إلى البلوغ.

أُعلِّمه السِّحر، في رواية الترمذي: أُعلِّمه علمي؛ فإني أخاف أن أموتَ وينقطع عنكم هذا العلم، ولا يكون فيكم مَن يعلمه. قال: فنظروا له على ما وصف، يعني: يُريد غلامًا فَطِنًا، فَهِمًا.

هذا السَّاحر يحمل هذا العلم الفاسد الذي لا يجوز لأحدٍ أن يتعلّمه، وهكذا أهل كلِّ مِلَّةٍ وضلالةٍ يحرصون غايةَ الحرص على بقاء ضلالتهم من بعدهم، فهذا بدلًا من أن يتوبَ ويرجع إلى الله -تبارك وتعالى- يريد أن يمتدّ هذا السِّحر ويبقى من بعده، ولا يرتفع ذلك عنهم، فبعث إليه غلامًا يُعلِّمه.

جاء عن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما-: أنَّ هذا الملك كان في نجران[3].

وبعضهم يذكر هذا عند تفسير سورة الأخدود -تفسير سورة البروج-، والنبي ﷺ لم يذكر السورةَ أو الآيات، ولكن مثل هذا لو فُسِّر به ذلك الموضع لم يكن بعيدًا، لكنَّه لا يُقطع به، فبعض المفسّرين أثبته، يعني قال: إنَّ المقصود بقوله: قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ [البروج:4] هو ما ذُكِرَ في هذا الحديث، وبعضهم لم يربط بينهما.

فهذا الراهب كان في طريق الغلام إلى السَّاحر، والمقصود بالراهب: هو العابد، الإنسان المنقطع إلى مكانٍ ينفرد به من أجل العبادة، يتخلَّى عن أشغال الدنيا، ويعتزل الناس، فقعد الغلامُ إليه؛ إلى هذا الراهب، سمع كلامَه فأعجبه.

وفي بعض الرِّوايات عند غير مسلمٍ -الترمذي-: فدخل في دين الراهب، فجعل الغلامُ يسأل ذلك الراهبَ عن معبوده كلَّما مرَّ به، فلم يزل به حتى أخبره، فقال: إني أعبد الله.

هذا الراهب كان الغلامُ يقضي عنده بعض الوقت يتعلّم منه، فكان ذلك سببًا لغضب السَّاحر وضربه لهذا الغلام؛ بسبب تأخُّره عليه، فشكا إلى هذا الراهب.

وفي رواية الترمذي: أنَّ الكاهن أرسل إلى أهل الغلام: إنَّه لا يكاد يحضرني. فأهله كانوا يتساءلون، وهذا السَّاحر أيضًا كان يتساءل.

فالراهب قال له: إن سألك السَّاحرُ عن تأخُّركِ فقل: حبسني أهلي. وإذا سألك أهلُك عن تأخُّرك وإبطائك في الرجوع إليهم فقل: حبسني الساحرُ. يعني: أخَّرني، إلى أن أتى على هذه الدَّابة العظيمة.

عند الترمذي: قال بعضُهم: إنَّ تلك الدَّابة كانت أسدًا، قد حبست الناس، يعني: لخوفهم من صولتها لم يستطيعوا أن يجتازوا في طريقهم، فأراد هذا الغلامُ أن يعرف الحقَّ مع مَن، فقال: اليوم أعلم: السَّاحر أفضل أم الراهب أفضل؟

وقال: اللهم إن كان أمرُ الراهب، لاحظ: لم يقل: إن كان أمرُ السَّاحر، كأنَّه يميل إلى الراهب ويُرجِّح أمره، فرماها بهذا الحجر فقتلها، ومضى الناس، يعني: في طريقهم، كما يدلّ عليه السِّياق، وبعض أهل العلم يقول: "مضى الناسُ" يعني: في الثَّناء على هذا الغلام وإطرائه.

وفي رواية الترمذي: ففزع الناسُ وقالوا: قد علم هذا الغلامُ علمًا لم يعلمه أحدٌ.

فذكر ذلك للراهب، فأخبره الراهبُ أنه سيُبتلى، هل قاله تفرُّسًا، أو أنَّه قال ذلك باعتبار أنَّها السُّنة الجارية: لا بدَّ من الابتلاء؟ هذا الذي يظهر -والله تعالى أعلم-، ونهاه إن ابتُلِيَ أن يدلّ عليه.

هذا الغلام صار له شأنٌ؛ فكان يُبرئ الأكمه بإذن الله، والأكمه: هو الذي خُلِقَ أعمى، الذي وُلِدَ أعمى منذ الولادة، والأبرص، ويُداوي الناس من سائر الأدواء، كيف يُداويهم؟ يدعو الله لهم، كما يدلّ عليه الخبرُ؛ خبر هذا الغلام مع جليس الملك، حيث جاء بهذه الهدايا الكثيرة ورغَّبه فيها، قال: إن أنت شفيتني. فقال: إني لا أشفي أحدًا، إنما يشفي الله، فإن آمنتَ بالله يعني: دعوتُ الله فشفاك، فدلَّ على أنَّه كان يدعو فتُستجاب دعوته، فآمن هذا الجليسُ للملك؛ فشفاه الله .

وعند الترمذي: أنَّه أخذ عليه العهدَ إن رجع إليه بصرُه أن يؤمن بالذي ردَّه عليه، يعني: الله، فقال: نعم، فدعا الله تعالى؛ فردَّ عليه بصره، فآمن الأعمى.

إلى أن جلس هذا الرجلُ إلى الملك كعادته، وجرى بينهما الحوارُ الذي سبق، كان ذلك ينبغي أن يكون داعيًا لهذا الملك إلى الإيمان وترك ما هو فيه من الكفر بالله -تبارك وتعالى-، ولكن: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ [المائدة:41]، فدلّ على الغلام، والغلام دلَّ على الراهب، فجيء بهؤلاء جميعًا.

فوُضِعَ المئشارُ بالهمزة، هذا هو الأشهر، وهي رواية الأكثر، ويجوز تخفيف الهمزة بقلبها ياء: (الميشار)، وفي لغة: (المنشار)، هذه كلّها لغات: (المئشار) وهذا هو الأشهر، (الميشار) تخفيفًا للهمزة بقلبها ياء، (المنشار) بالنون، هذه لغة صحيحة، لكن الأشهر (المئشار) بالهمزة، وهي الآلة المعروفة التي يُقطع بها الخشب، تقول: أشرتُ الخشبة، ونشرتُ الخشبة. نشرتها باعتبار: منشار، وأشرتها باعتبار أنَّه مئشار.

لاحظ: هذا الملك بطش بهؤلاء بهذه الطَّريقة البشعة: بالمنشار، يضعه في مفرق رأسِه حتى جعله شقّين، يعني: من مفرق رأسه إلى أسفله، قطعه نصفين بالمنشار، كلّ ذلك نكايةً به، وتخويفًا لهذا الغلام من أجل أن يعتبر فيرجع.

فلمَّا أبى هذا الغلامُ وقد رأى هذين يُقتلان بهذه الطَّريقة المفزعة بعثه -دفعه- إلى نفرٍ، والنَّفر: اسم جمعٍ يقع على جماعة الرجال خاصةً، ما بين الثلاثة إلى العشرة، لا واحدَ له من لفظه، أمرهم أن يذهبوا به إلى جبلٍ معروفٍ عندهم، سمَّاه لهم، فإذا بلغوا القمةَ، فيُلقى من تلك القمة.

ما فعل به كما فعل بهؤلاء؛ جاء بالمنشار مثلًا، كأنَّه أراد أن يُخوِّفه لعله يرجع، فإذا جيء به إلى قمة الجبل ونظر إلى أسفل، فإنَّ ذلك مدعاة لخوفه وتوقّفه ورجوعه؛ لأنَّ ذلك مقامٌ لا يصمد به الرجال الكبار، فضلًا عن هذا الغلام، ولكن الله -تبارك وتعالى- يُثبت مَن شاء من عباده.

والله -تبارك وتعالى- قال عن الفتية الصِّغار أصحاب الكهف: وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الكهف:14]، كثيرٌ من المفسّرين قالوا: قاموا بين يدي الملك في زمانهم، فقالوا هذا الكلام، وهم يعلمون أنَّ ذلك قد يُودي بأرواحهم ومُهَجِهم.

الشَّاهد أنَّ هذا الغلام قال: اللهم اكفنيهم بما شئتَ، فرجف بهم الجبلُ، لا تسأل عن قُدرة الله ، وعن الطَّريقة التي يُنجِّي بها أهلَ الإيمان، ويُخلِّصهم من المخاوف، لكن انظر: هل أنت على الطَّريق؟! انظر في صِلتك بالله -تبارك وتعالى-، هذا الغلام لم يفرّ، لم يطلب السَّلامة والنَّجاة، وإنما جاء يمشي إلى الملك كأنَّه يريد أن يُقرره بالتوحيد، وأن يُثبت له صحّة ما هو عليه في هذه الأمور الخارقة للعادة: الجبل يرجف، ثم يتساقط هؤلاء، وينجو هذا الغلام، فلم يكن طالبًا للسَّلامة بنفسه، وإنما كان يريد أن ينصر دينَه واعتقاده، وما يدعو إليه.

جاء يمشي إلى الملك، فسأله الملك عن هؤلاء؟ فقال: كفانيهم الله تعالى. يعني: هذا ينبغي أن يكون دافعًا لذلك الملك أن يُؤمن، هذه آيةٌ أخرى، ومع ذلك أصرَّ، فدفعه إلى نفرٍ آخرين، وأمرهم أن يحملوه في قرقورٍ.

القرقور بعضهم فسَّره بالسَّفينة الصَّغيرة، وبعضهم فسَّره بالسَّفينة الكبيرة، أن يُحمل في قرقورٍ، وإذا توسَّطوا البحرَ، حيث لا يكون هناك سبيلٌ للنَّجاة، ولا أملَ في ذلك، فأمرهم أن يُلقوه عندئذٍ من هذه السَّفينة، فقال: اللهم اكفنيهم بما شئتَ، فانكفأت بهم السَّفينة، بعض العُلماء يقول: لعله كان في سفينةٍ أخرى. وهذا بعيدٌ، وإنما هذه آيةٌ؛ مَن انكفأت السَّفينة التي هو معهم فيها، فجاء، غرقوا وجاء يمشي إلى الملك، لم يطلب النَّجاة والسَّلامة لنفسه ويذهب ويفرّ، وإنما جاء إليه ليُريه هذه الآيات؛ من أجل أن يُؤمِن ويعتبر، فسأله عن أصحابه، فقال: كفانيهم الله تعالى.

ثم دلَّه على الطريقة التي يقتله بها -كما سمعنا-: أن يجمع الناسَ في صعيدٍ، الصَّعيد: الأرض البارزة، الأرض المستوية، من أجل أن يجتمع الناسُ، ولا يخفى على أحدٍ، ليس هناك شيءٌ من شجرٍ، ولا حجرٍ، ولا جبلٍ يحجب الرؤية، الناس كلّهم يُشاهدون، يجمع الناسَ في صعيدٍ واحدٍ.

قال: وتصلبني الصَّلب: تعليق الإنسان للقتل على جذعٍ، وجذع النَّخل جذعٌ عريضٌ، قاسٍ، خشنٌ، فرعون هدد السَّحرة قال: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه:71]، وهو أشدّ إيلامًا.

قال: ثم خُذْ سَهْمًا من كنانتي، الكنانة: بيت السِّهام، الجراب الذي تُوضع فيه السِّهام، وأمره أن يضع السهمَ في كبد القوس – يعني: المقبض-، ثم بعد ذلك يقول: بسم الله ربّ الغلام.

لاحظ هنا: ربّ الغلام من أجل ألا يظنّ أحدٌ أنه حينما قال: "بسم الله" يعني: ربّ الملك، أو معبود الملك، أو أنَّ المقصود هو الملك؛ لأنَّه يقول: هل لك ربٌّ غيري؟! بسم الله ربّ الغلام، فلا يكون في ذلك أدنى لبسٍ، كما قال السَّحرة: آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [الأعراف:121- 122]، فرعون كان يقول: أنا ربّ العالمين: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات:24]، مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38]، لكن هنا قالوا: رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ؛ لئلا يتلبّس بفرعون.

ثم قال: ثم ارمني، فإنَّك إذا فعلتَ ذلك قتلتني، لاحظ: كيف قدَّم نفسَه، وضحَّى بحياته من أجل أن ينتشر الحقُّ والتوحيد والإيمان؟

ففعل الملكُ ذلك، وجمع الناس، وأخذ السَّهم، ثم رماه في صُدغه، والصُّدغ: ما بين العين وشحمة الأذن، فأصابه السَّهمُ بهذا الموضع، فوضع يدَه عليه، ثم مات؛ ليحيا الناس، ليحيوا الحياة الحقيقية التي تحصل بها سعادةُ الدنيا والآخرة.

فالناس آمنوا: آمنا بربِّ الغلام، قالوا ثلاث مرات، كان ينبغي أن يحمل ذلك هذا الملك ومَن معه على الإيمان، فجاءوا إليه وقالوا له: أرأيتَ ما كنت تحذر؟! قد والله نزل بك حذرك، قد آمن الناسُ!، هؤلاء شياطين ما زالوا يُحرِّضونه وهم يرون هذه الآيات، فهؤلاء كما قال قومُ فرعون: وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ [الأعراف:132]، فهؤلاء مهما رأوا من الآيات؛ لو رأوا الملائكةَ تنزل، وكلَّمهم الموتى، قال الله: وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا [الأنعام:111].

فهؤلاء رأوا ذلك، ومع ذلك مثل: قوم فرعون؛ يأتي إليه الملأ، ويقولون له بعدما رأى كلَّ هذه الآيات: أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ [الأعراف:127]، وفرعون لا يحتاج إلى مَن يُحرِّضه ويُحرِّكه للشَّرِّ، ومع ذلك هؤلاء الشياطين يؤزُّونه أزًّا.

فأمر بالأخدود الأخدود: هو الشقّ العظيم في الأرض، فحُفرت في أفواه السِّكك أبواب الطُّرق، يعني: هذه المدينة، أبواب الطُّرق: مداخل الطرق، أخاديد لا أحدَ يستطيع الخروج، فإمَّا أن يرجع عن دينه، وإمَّا أن يُلقَى فيها، أضرم فيها النَّار لمن لم يرجع عن دينه.

فأحموه فيها يعني: ارموه فيها، أحميت الحديدة: أدخلتها في النار لتحمى، أو شكّ من الراوي.

يُقال: أو قيل له: اقتحم يعني: ألقِ نفسَك في النار، إمَّا أن ترجع عن دينك، وإمَّا أن تقتحم. ففعلوا، حتى جاءت هذه المرأةُ ومعها هذا الصَّبي، فتلكَّأت، وتقاعست، يعني: توقَّفت ولزمت موضعها، كرهت الدُّخول في النار، كرهت أن تقع فيها، فقال لها الغلامُ: يا أُمَّاه، اصبري؛ فإنَّك على الحقِّ، هذا واحدٌ من الذين تكلَّموا في المهد.

وقد تكلَّم في المهد جماعةٌ، ذكر بعضُهم نحو عشرةٍ، وذكر بعضُهم أكثر من ذلك، وهذا لا يُنافي الخبر المخرّج في "الصحيحين" عن النبي ﷺ: أنَّه لم يتكلّم في المهد إلا ثلاثة، وذكر عيسى، وصاحب جُريج، وابن المرأة التي مرَّ عليها ذلك الفارسُ، فدعت الله أن يجعل ابنَها مثل هذا، فقال: "اللهم لا تجعلني مثله"، ثم جيء بتلك الجارية التي يضربها أهلُها ويقولون: "زنت"، فدعت هذه المرأةُ ألا يجعل ابنَها مثل هذه، فقال: "اللهم اجعلني مثلها"[4].

فهؤلاء الذين ذكرهم النبيُّ ﷺ في هذا الحديث: ولم يتكلّم في المهد إلا ثلاثة، وهذه الصِّيغة تدلّ على الحصر، لكن يمكن أن يكون ذلك قاله النبيُّ ﷺ في حينٍ، فأطلع اللهُ نبيَّه ﷺ بالوحي على غيرهم.

السيوطي -رحمه الله- جمع هؤلاء في أبياتٍ:

تكلم في المهد النبي محمدٍ ويحيى وعيسى والخليل ومريم
ومُبري جُريج ثم شاهد يوسف وطفل لدى الأخدود يرويه مسلم
وطفل عليه مرّ بالأمة التي يُقال لها: تزني، ولا تتكلّم
وماشطة في عهد فرعون طفلها وفي زمن الهادي المبارك يختم[5]

كن بعض هذا لا يثبت، وبعضه قد اختلفوا فيه، يعني: شاهد يوسف مثلًا اختلفوا: هل كان غلامًا –يعني: في المهد-، أو كان رجلًا كبيرًا؟

فالذين تكلَّموا جماعةٌ، هم أكثر من ثلاثةٍ، لكن قد لا يثبت هذا العدد الذي أوصله بعضُهم إلى العشرة.

ويُؤخذ من هذا الحديث فوائد كثيرة:

قوة إيمان هذا الغلام.

وأنَّ الله يُجيب دُعاء المضطر، دعاء أهل الإيمان، المضطرّ ولو كان كافِرًا.

وأنَّ الإنسان يجوز أن يغرر بنفسه لمصلحةٍ عامَّةٍ للمسلمين، كما فعل هذا الغلامُ، لكن كلّ ذلك يكون قتله بيد غيره، أمَّا أن يكون قتلُه بيد نفسه؛ فالذي يظهر أنَّه لا يوجد شيءٌ يدلّ على هذا إطلاقًا، يعني: هذه الأعمال التي يُسمّونها: عمليات انتحارية أو استشهادية، أو نحو ذلك، الذي يظهر أنَّ هذا لا يجوز، وأنَّه لا يجوز للإنسان أن يقتل نفسَه بيده هو؛ لأنَّه لا يملك ذلك، وإنما الذي يملك نفسَه هو الله -تبارك وتعالى-، وجميع ما يمكن أن يُستدلّ به على هذا العمل كلّ ذلك إنما يكون قتلُه بيد غيره، ولا أعلم دليلًا يدلّ على ما يُصحح ذلك، والله أعلم.

وفيه إثبات كرامات الأولياء.

وفيه جواز الكذب من أجل إنقاذ نفسٍ من الهلاك، سواء كان لإنقاذ نفسه، أو لإنقاذ غيره.

وفي الحديث بيان شرف الصبر.

وفيه فضل الثَّبات على الدِّين، وإن عُذِّب بأنواع العذاب، كما وقع من بلال في أول الإسلام، مع أنَّ فيه رخصةً لهذه الأُمَّة: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ [النحل:106]، ولكن الصَّبر أكمل وأفضل، لكنَّه لا يجب، فعمَّار ترخَّص، وبلال صبر.

وأبو مسلم الخولاني من التَّابعين، وهو من المخضرمين؛ أدرك الجاهلية، لكن لم يلقَ النبي ﷺ، لما أبى أن يشهد لأبي الأسود العنسي بالنبوة ألقاه في النَّار، فصارت بردًا وسلامًا عليه، ولم يترخّص.

وعبدالله بن حُذافة لما دعاه ملكُ الروم بجملة الأسرى: أن يتنصَّر، فأبى، فأمر ملكُ الروم بإلقائه في قدرٍ عظيمةٍ مملؤةٍ بماءٍ يغلي، فبكى، ثم لما ردُّوه إلى الملك أخبره أنَّه لم يبكِ جزعًا من الموت، ولكن يبكي لأنَّه ليس له إلا نفسٌ واحدة تموت، وأنَّه يودّ لو كان له مئة نفسٍ، أو لو كان له مكان كل شعرةٍ أن يكون له نفسٌ يُفْعَل بها ذلك في سبيل الله، فهذا لم يترخّص.

ولهذا قال يوسفُ -عليه الصَّلاة والسَّلام-: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [يوسف:33]، والنبي ﷺ ذكر مما يكون علامةً على قوة الإيمان، وما يجد به حلاوةَ الإيمان: أن يكره أن يعود إلى الكفر والشِّرك بعد أن أنقذه الله منه، كما يكره أن يُلْقَى في النار[6].

وابن رجب -رحمه الله- يقول: "بأنَّ القدر الواجب من كراهة الكفر والفسوق والعصيان هو أن ينفر من ذلك ويتباعد منه جهده، ويعزم على ألا يُلابس شيئًا منه؛ لعلمه بسخط الله وغضبه على أهله"[7].

وعبارات العلماء في هذا مُتعددة، ما هذه الكراهة: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ [النحل:106].

ويُؤخذ من هذا الحديث أيضًا، أو هذه القصّة: رفض الدَّاعي إلى الله الأجر على عمله وهِدايته: قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا [الأنعام:90]، هذا الغلام رفض أن يأخذ من جليس الملك هذه الهدايا، فالدَّعوة لا يصحّ أن تُتَّخذ مطيَّةً وسبيلًا للتَّكسُّب وتحصيل الأموال.

هذا الحديث تضمّن كثيرًا من الفوائد، أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بها، وأن يجعلنا وإياكم هُداةً مُهتدين.

والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم: كتاب الزهد والرقائق، باب قصّة أصحاب الأخدود والساحر والراهب والغلام، برقم (3005).
  2. أخرجه الترمذي: أبواب تفسير القرآن عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب: ومن سورة البروج، برقم (3340).
  3. انظر: "تفسير البغوي" ط. طيبة (8/385).
  4. متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله: {وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا} [مريم:16]، برقم (3436)، وكتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث الغار، برقم (3466)، ومسلم: كتاب البرّ والصِّلة والآداب، باب تقديم برّ الوالدين على التَّطوع بالصَّلاة وغيرها، برقم (2550).
  5. "نواهد الأبكار وشوارد الأفكار" (حاشية السيوطي على تفسير البيضاوي) (2/525-526).
  6. متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الإيمان، باب مَن كره أن يعود في الكفر كما يكره أن يُلقى في النار من الإيمان، برقم (21)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب بيان خصالٍ مَن اتَّصف بهنَّ وجد حلاوةَ الإيمان، برقم (43).
  7. "فتح الباري" لابن رجب (1/58).

مواد ذات صلة