الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
(229) دعاء حينما يقع ما لا يرضاه أو غلب على أمره " قدر الله وما شاء فعل "
تاريخ النشر: ٢٨ / ذو الحجة / ١٤٣٥
التحميل: 2209
مرات الإستماع: 1594

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

أما بعد:هذا باب الدُّعاء حينما يقع ما لا يرضاه، أو غلب على أمره.

هذا الباب أيضًا قد يُناسب أن يُذكر بعد الباب الذي قبله، وهو (دعاء طرد الشيطان ووساوسه)؛ لأنَّله تعلُّقًا بذلك كما سيأتي -إن شاء الله.

ذكر حديثًا واحدًا، وهو حديث أبي هريرة قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: المؤمن القوي خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضَّعيف، وفي كلٍّ خيرٌ، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيءٌ فلا تقل: لو أني فعلتُ كذا، أو لو أني فعلتُ كان كذا وكذا. ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن "لو" تفتح عمل الشَّيطان[1].أخرجه مسلم.

هذا الحديث عظيمٌ، تضمن معانٍ وآدابًا ينبغي للمؤمن أن يتحقق بها، فقوله-صلى الله عليه وآله وسلَّم-: المؤمن القوي، القوي هنا ما المراد به؟

القوي يعني: على أعمال البرِّ والطَّاعة، وتحمّل المشاقّ في ذلك، والصَّبر على ما يُصيبه من البلاء القويّ، هو اليقظ في الأمور، المهتدي إلى التَّدبير اللَّائق والمصالح الشَّرعية بالنَّظر إلى المقدّمات والأسباب، وذلك بإعمال النَّظر والفِكْر في مآلات الأمور، فهو الذي يجد ويجتهد ويقوى على الطَّاعات، وهو أيضًا صاحب تدبيرٍ، مع عزيمةٍ للنفس، وقريحة في الأمور، سواء كان ذلك فيما يتَّصل بعمل الآخرة من العبادات المحضة، أو ما يتعلَّق بمصالح الأُمَّة، وما يكون به قوامها.

فمثل هذا يكون مِقدامًا، ويكون آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر، مع تحمّلٍ وصبرٍ، وهو أرغب في الطَّاعة والعبادة، العبادات المتنوعة بجميع صورها وأشكالها: من الأذكار،والصَّلاة، والصِّيام، والحجّ، والجهاد، وما إلى ذلك من أنواع التَّعبدات، فهو يعزم على ذلك، ويقدم، ويصبر، ويُحافظ، ويُداوم، ويستمرّ.

وذكر بعضُ أهل العلم: أنَّ القويَّ المراد به هنا: القوي على مُخالطة الناس، والصَّبر على أذاهم، مع تعليمهم ما يحتاجون إليه، وإرشادهم، ونُصحهم.

وقد جاء في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: أنَّ النبي-صلى الله عليه وآله وسلم-قال: المؤمن الذي يُخالط الناس ويصبر على أذاهم خيرٌ من المؤمن الذي لا يُخالط الناس، ولا يصبر على أذاهم، أو كما قال -عليه الصَّلاة والسَّلام-.

وهذا المعنى لا شكَّأنَّه داخلٌ في عموم هذا الوصف: القوة، المؤمن القوي.

وبعضهم أرجع ذلك إلى قوة الإيمان: المؤمن القويّ في إيمانه خيرٌ من المؤمن ضعيف الإيمان. وهذا المعنى صحيحٌ؛ فقوة الإيمان يتفرع عنها ما ذكر من العزائم على الطَّاعات، وفعل هذه العبادات والقُربات مع الثَّبات عليها، وتحمّل المشاقّ في سبيل ذلك، كلّ هذا داخلٌ فيه.

وبهذا يتبين أنَّ القوةَ المرادة هنا ليست قوةَ البدن؛ بقوة الإنسان في عضلاته، ونحو ذلك؛بكونه يُزاول أنواعًا من الرياضات، وما أشبه هذا، فليس هذا هو المقصود، وجميع الشُّراح عند كلامهم على هذه الجملة إنما يذكرون ما ذكرتُ جملتَه فيما يتَّصل بالعبادات والطَّاعات، وقوة الإيمان، وما أشبه ذلك، ولا يتحدَّثون عن قوة البدنوالأعضاء، وما أشبه ذلك.

فالمؤمن هو القويّ في إيمانه وطاعته لربِّه -تبارك وتعالى-، مع صبرٍ واحتمالٍ، وليست العبرةُ بقوة البدن، فقد يكون قويَّ البدن، ولكن لا همَّةَ له في الطَّاعة، وهو أضعف ما يكون في العبادة؛ فلا ينشط لها، ولا تسمو همَّته لمزاولتها والقيام بها، وإذا ابتدأ شيئًا من ذلك ضعف، وانقطع، وكَلَّ، فهذا ليس بمرادٍ.

وقد ذكر الشيخُ محمد الصَّالح العثيمين -رحمه الله-: أنَّه لو كُتِبَ على نادٍ رياضي، أو ملعب، أو نحو ذلك هذه العبارة: أنَّ المؤمنَ القويَّ خيرٌ من المؤمن الضَّعيف، أنَّ هذا لا يجوز؛ لأنَّ هذا حملٌ للحديث على غير المراد[2]،لكن لو أنَّه استوى اثنان في الإيمان، وفي العزائم على الطَّاعات، والقُربات، وأعمال البرِّ، مع عمل البرِّ، والصَّبر، والثَّبات،استووا في جميع هذه الأمور، لكن كان أحدُ هذين أقوى في جسده، وبناء هذا الجسد من الآخر، فهذه من وجوه التَّفاضل، لكن ليس هذا هو المراد بالحديث عند الإطلاق، ولا يصحّ أن يتبادر إليه الذهنُ؛ المؤمن القويّ خيرٌ من المؤمن الضَّعيف، المؤمن القويّ في إيمانه، وليس في بدنه.

ثم قال-صلى الله عليه وآله وسلم-: وفي كلٍّ خيرٌ يعني: في القويّ والضَّعيف من المؤمنين، فأصل الخير موجودٌ؛ الذي هو الإيمان، فقد اشتركا فيه: المؤمن القويّ خيرٌ من المؤمن الضَّعيف، فهذا مؤمنٌ، وهذا مؤمنٌ، وذاك الضَّعيف لا يخلو من خيرٍ، فقال-صلى الله عليه وآله وسلم-هنا: وفي كلٍّ خيرٌ من أجل ألا يتوهم أنَّ الثاني الضَّعيف لا خيرَ فيه، وإنما الذي لا خيرَ فيه هو الكافر.

وهذا الأسلوب هو الذي يُسميه البلاغيون: الاحتراز، وقد تكلمتُ عليه في الأسبوع الماضي في الكلام على التَّفسير على مُقدمة ابن جزي، فيما يتَّصل بالبلاغة القرآنية، وبينتُ المراد به، يتكلم الإنسانُ كلامًا يُوهم معنًى لا يقصده، فيأتي بجملةٍ تُبين مُراده، تُحدد المراد، ويحترز بها عن المعنى غير المراد.

وذكرنا أمثلةً لذلك: في قوله -تبارك وتعالى-: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ، فهؤلاء نفي الاستواء يُحمل على أعمِّ معانيه، قال: أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا، فقد يُفهم أنَّ الذين أنفقوا من بَعْدُ وقاتلوا ليس لهم فضلٌ؛ فاحترز من ذلك قال: وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى[الحديد:10]يعني: الجنَّة.

وهكذا في قوله -تبارك وتعالى-:وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ، فذكر حكمهما، ثم بيَّن أنَّه فهَّمها سليمان: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ[الأنبياء:78-79]، فقد يُفهم من هذا أنَّ هذا يُلحق نقيصة بداود -عليه الصَّلاة والسَّلام- لما أضاف الفهمَ في هذه الواقعة والحكم إلى سليمان -عليه الصَّلاة والسلام- قال: وَكُلاً آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا[الأنبياء:79]، فهذا لئلا يُفهم أنَّ داود -عليه الصَّلاة والسَّلام- يلحقه نقصٌ من جراء ذلك.

النبي-صلى الله عليه وآله وسلم- قال: احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز، هكذا "احرِص" بكسر الرَّاء، وجوَّز بعضُهم فتحَها: احرَص على ما ينفعك، لكن المشهور هو الأول: احرِص على ما ينفعك، يعني: من أمور الدِّين، أمَّا أمور الدنيا فالناس ليسوا بحاجةٍ إلى حرصٍ عليها؛ ولهذا كما قال الشَّاطبي -رحمه الله-: تجد الأمر كثيرًا ما يأتي بالصَّلاة والمحافظة عليها، وما إلى ذلك من العبادات الشَّاقة: كالصَّدقة، والإنفاق في سبيل الله -تبارك وتعالى-، ولكنَّه لا يأتي الأمرُ بالأكل -أكل الطَّعام-، والشُّرب، والنِّكاح، وما إلى ذلك مما تشتهيه النفوس، وتستلذّه، وتطلبه، فهي ليست بحاجةٍ إلى مَن يحرِّصها على مطالبها وشهواتها، وإن جاء ذلك فإنما يأتي عادةً في سياقٍ معينٍ، مثل: الامتنان:يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا[المؤمنون:51]، يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ[البقرة:172][3]،فهذا في سياق الامتنان، لكن أن يحثَّ الناس، ويتردد هذا الحثّ في القرآن: كلوا، واشربوا، فيذكر هذا على سبيل الامتنان، وإلا فالنَّاس ليسوا بحاجةٍ.

ولذلك يُقال: الدُّعاة إلى الله -تبارك وتعالى- هم هُداة، هم أتباع الرسل، ولا يصحّ أن يتحولوا إلى مُرشدين لأمور الناس المتَّصلة بشهواتهم ودُنياهم فيما يتعلق بالأكل، والشُّرب، والمكاسب، والأموال من غير جهة الحلِّ والحُرمة، ولكن كيف تنمي الثروة؟ كيف تستطيع أن تُوفر المال؟ كيف تستطيع أن تُدير أموالك؟ كيف تستطيع كذا؟ أو الحديث عن صنع الطَّعام، وما إلى ذلك، أو الحديث عن ضروب النِّكاح والوطء، وما أشبه ذلك مما لا يحتاج الناسُ فيه إلى تعليمٍ، أو مَن يُحرِّصهم عليه،وهم أحرص ما يكونون، لكن الناس بحاجةٍ إلى مَن يُذكرهم بالله -تبارك وتعالى-: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ[العصر:3]على ذلك، أمَّا أن يتحوّل الدُّعاة إلى الله -تبارك وتعالى- إلى شيءٍ آخر؛ يفتحون الآفاق للناس في أمور المكاسب، والدنيا، والشَّهوات؛ فهذا خروجٌ عن المقصود.

الحاصل أنَّه قال هنا: احرص على ما ينفعك، احرص على طاعة الله، والرَّغبة فيما عنده، واطلب الإعانةَ من الله -تبارك وتعالى- على ذلك، ولا تعجز ولا تكسل عن طلب هذه الطَّاعات، واسأل ربَّك الإعانة: استعن بالله اطلب العونَ منه، فإنَّه لا يمكن للعبد أن يقوم بشيءٍ من هذه الوظائف-وظائف العبوديَّة- إلا بإعانة الله -تبارك وتعالى-؛ فإنَّه لا حول ولا قوةَ إلا بالله، لا تحوّل من حالٍ إلى حالٍ إلا بإعانة الله .

فهذه وصية جامعة من النبي-صلى الله عليه وآله وسلم-لا يصحّ أن يُحوّل معناها، وأن يُقلب إلى أمورٍ دنيويةٍ في أي جملةٍ منها، والإنسان العاقل، المرء العاقل هو الذييستجيب، وينتصح، وينتفعبمثل هذه الوصية وغيرها، ولا يضيع عليه العمرُ من غير طائلٍ، فيذهب ذلك بالأماني، والتَّسويف، والاشتغال بأمورٍ لا طائلَ تحتها، بل قد تعود عليه بالضَّرر.

وللأسف! تجد الكثيرين تمضي الأعمار، ولو اختصرت الإنجازات الحقيقية في سبعين سنة عاشها هذا الإنسان لربما ما تبلغ ثلاث سنوات، أو ما يقرب من ذلك، وباقي العمر ذهب في التَّضييع، والتَّفريط، والأماني الفارغة التي لا قيمةَ لها.

وهكذا في طلب معالي الأمور؛ فإنَّ هذا يحتاج إلى صبرٍ واستعانةٍ بالله وحرصٍ، فإنَّ عديم الرَّغبة لا يمكن أن يقوم بشيءٍ من ذلك، وهكذا أيضًا العاجز، والذي يركن إلى نفسه، وإلى قوته وقُدراته، وما أشبه ذلك؛ فإنَّه لا يُحقق مطلوبًا، ولا يرجع بطائلٍ، استعن بالله على هذا كلّه، ولا تعجز، لا تعجز عن العمل، لا تعجز عن هذا الحرص، لا تعجز عن الاستعانة، فقد حذف مُتعلّقه، وذلك يُفيد العموم، لا تعجز عن شيءٍ مما ذكر، فإنَّ الله -تبارك وتعالى- قادرٌ على أن يُعطيك قوةً على الطَّاعة إذا استقمتَ على الاستعانة.

وبعض أهل العلم يقول: معناه: لا تعجز عن العمل بما أُمِرْتَ به، ولا تتركه مُقتصرًا على الاستعانة به، فلا بدَّ من الجمع بين الأمرين: الاستعانة مع الحرص، والبذل، والامتثال، والصَّبر، أمَّا أن يقول الإنسانُ: أنا أستعين بالله، وأسألالله التوفيق، وادعوا لي أنَّ الله يهديني، وأن أُعان على هذه الأعمال، وهذه الطَّاعات. فمثل هذا لا يكفي، بل لا بدَّ من رغبةٍ صادقةٍ، وحرصٍ أكيدٍ، بالإضافة إلى العمل الواقعي في الخارج، فمبدأ ذلك بعزائم النفوس، ثم بعد ذلك العمل على وفق هذه العزيمة؛ ليكون ذلك عملاً خارجيًّا، مع الاستعانة بالله -تبارك وتعالى-.

فهذا الحديث فيه الأمر بفعل الأسباب، مع الاستعانة بالله -تبارك وتعالى-، فيه التَّسليم أيضًا لأمر الله، والرِّضا بقدره، كما يدلّ عليه شقّ الحديث الآخر، يقولشيخُ الإسلام -رحمه الله-: بأنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وآله وسلم-أمر بحرص العبد على ما ينفعه، والاستعانة بالله، ونهاه عن العجز، يقول: وأنفع ما للعبد -لاحظ- الحرص علىما ينفع. ما الذي ينفع؟

يقول شيخُ الإسلام: أنفع ما للعبد طاعة الله ورسوله، هذا أنفع ما يكون للعبد. يقول: وهي عبادة الله تعالى، وهذان الأصلان-يعني: العبادة والاستعانة: استعن بالله-. يقول: هما حقيقة قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ[الفاتحة:5]. قال: ونهاه عن العجز، وهو الإضاعة، والتَّفريط، والتَّواني[4].

ويذكر الحافظُ ابن القيم -رحمه الله-:أنَّ العجزَ هو أصل المعاصي جميعًا؛ فإنَّ العبد يعجز عن أسباب أعمال الطَّاعات، وعن الأسباب التي تُبعده عن المعاصي، وتحول بينه وبينها، فيقع في المعاصي ولا بدَّ[5].

ثم أرشد النبيُّ -صلى الله عليه وآله وسلم-بعد ذلك إلى ما ينبغي عند فوات المحبوب، أو وقوع المكروه، قال: عليك بالجدِّ، والاستعانة بالله، ولا تتردد، ولا تتأخّر، كن مِقدامًا، صاحب عزيمةٍ قويَّةٍ، ثابتةٍ، فإن فاتك شيءٌمن المطالب، أو وقع لك شيءٌ من المكاره، وإن أصابك شيءٌ-يعني: في أمر دينك أو دُنياك -فلا تقل: لو أني فعلتُ كذا، أو لو أني فعلتُ كان كذا وكذا، لو أني فعلتُ كذا وكذا؛ لكان كذا وكذا. أي: لما أصابني ذلك، فهذا القول غير سديدٍ، ولا رشيدٍ، وهو أيضًا غير مفيدٍ، لا ينفع الإنسان، ولا يرد عليه هذا الفائت.

والله يقول: قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا[التوبة:51]، والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: واعلم أنَّ ما أصابك لم يكن ليُخطئك، وما أخطأك لم يكن ليُصيبك[6]،وقال الله -تبارك وتعالى-: لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ[آل عمران:153]، فهذه أمور قدَّرها الله -تبارك وتعالى-، ولا داعي لاجترار الغمِّ والحزن والألم بتحريكه بمثل هذه الكلمات والجُمَل التي لا يحصل منها على مطلوبٍ، ولا يعود عليه مفقودٌ.

يقول: ولكن قُلْ-يعني: بلسان المقال، أو بلسان الحال-: قدر الله.

ويصح أن يُضبط هكذا بالتَّشديد:"قدَّر الله، وما شاء فعل"، يعني: أنَّ الله قدَّر هذا الأمر، ووقع بمُقتضى قضائه وقدره، وما شاء الله -تبارك وتعالى- كان، وما لم يشأ لم يكن.

إذًا "لو" هذه لا فائدةَ فيها، قال: فإن "لو" تفتح عمل الشَّيطان، تفتح عمل الشَّيطان، هذه على مراتب؛ لو أنَّه قالها مُعتقدًا لمعناها، يعني: لو أنَّه اعتقد أنَّ تدبيره اللَّاحق الذي استدركه واستبانه يدفع عنه ما قدر وما كان؛ فإنَّ هذا يقدح في الاعتقاد، ويُفضي إلى التَّكذيب بالقدر: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، مهما كان التَّدبيرُ: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ[آل عمران:154]، هؤلاء الذين قالوا: لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا[آل عمران:156]، لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا[آل عمران:168]، فردّ الله -تبارك وتعالى- عليهم بمثل هذا.

فهذا الموت لا بدَّ أن يقع، وفي نفس السَّاعة، ومن ثم على العبد أن يرضى بقضاء الله -تبارك وتعالى-، ولا داعي لمثل هذه الأماني الفارغة؛ فإنَّ"لو" هذه تُفيد التَّمني -كما هو معلومٌ-: فإن "لو" تفتح عمل الشَّيطان، اعتقاد أنَّ الأمر منوطٌ بتدبير العبد، وهذه أسوأ صور هذا الاستعمال، أو ما يترتب عليه من الحكم، يعني: كأنَّه يعتقد أنَّ تدبيرههو الذي يؤثر فيما يقع، وما يكون، بينما ما قضاه الله هو الذي يكون ويقع.

البخاري -رحمه الله- ذكر بابًا في الصَّحيح: (باب ما يجوز من الـ"لو")[7]، فـ"لو" كما قلتُ على مراتب في الاستعمال؛ فمن ذلك ما جاء في الحديث: يقول النبيُّ -صلى الله عليه وآله وسلم- لعائشةَ -رضي الله عنها-: ألم تري أنَّ قومكِ لما بنوا الكعبةَ اقتصروا عن قواعد إبراهيم؟ فقلت: يا رسول الله، ألا تردّها على قواعد إبراهيم؟ قال: لولا حدثان قومك بالكفر لفعلتُ[8]،وقال: لو رجمتُ أحدًا بغير بينةٍ لرجمتُ هذه[9]،وقال: لولا أن أشقَّ على أُمَّتي لأمرتهم بالسِّواك[10]،وشبه ذلك.

القاضي عياض يقول: هذا كلّه في المستقبل، يعني: ليس ذلك مما جاء النَّهي عنه، وإنما هذه أمور مُستقبلية، يقول: لولا كذا لفعلتُ كذا، في المستقبل، مما لم يفعله أصلاً، فهو لا يتحسّر على أمرٍ مضى، ولكنَّه يذكر شيئًا في المستقبل، فهذا لا اعتراضَ فيه على القدر، ولا كراهةَ فيه، يعني: لولا المانع الفلاني لفعلتُ كذا، لولا كذا لسافرتُ معك، لولا كذا لفعلتُ كذا في المستقبل. فهذالا إشكالَ فيه، بخلاف ما فات؛ فهذا لا يمكن استدراكه، ولا يدخل تحت قُدرته.

النبي-صلى الله عليه وآله وسلم-ذكر نتيجة هذا الأخير، قال: فإنَّ"لو" تفتح عمل الشَّيطان؛ فيُلقي في القلب الخواطر السَّيئة، ويفتح الإنسانُ نافذةً سيئةً للوساوس، وما إلى ذلك مما يجلب له الحزن، ويُجدده في قلبه، وما يحصل من مُعارضة القدر.

لكن هذا الذي ذكره القاضي عياض -رحمه الله- في توجيه ما ذكره البخاري -رحمه الله- في باب:(ما جاء في "لو") من الأحاديث التي قال النبيُّ ﷺ: لولا كذا لكان كذا، ذكر النَّووي -رحمه الله- ما يستدرك على هذا، وهو قول النبي-صلى الله عليه وآله وسلم-: لو أني استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ لم أَسُقِ الهدي، وجعلتُها عمرةً[11]،هنا لأمرٍ مضى، وليس ذلك للمُستقبل، يقول النَّووي: فالظَّاهر أنَّ النَّهي إنما هو عن إطلاق ذلك فيما لا فائدةَ فيه، فيكون نهي تنزيهٍ، لا تحريمٍ، فأمَّا مَن قاله تأسُّفًا على ما فات من طاعة الله تعالى، أو ما هو مُتعذّر عليه من ذلك، ونحو هذا؛ فلا بأسَ به، وعليه يُحمل أكثر الاستعمال الموجود[12]،يعني: النبي-صلى الله عليه وآله وسلم-هنا يُبين التَّشريع، هو مُشرع للأُمَّة، يقول لهم: ما الذي منعه من التَّمتع؟ إنما هو سوق الهدي، وليس ذلك مما يفتح عمل الشَّيطان.

ولهذا ذكر الحافظُ ابن القيم -رحمه الله- في كتابه "زاد المعاد": بأنَّ النَّهي عن قول القائل بعد فوات الأمر: لو أني فعلتُ كذا وكذا. قال: إنَّ"لو" تفتح عمل الشَّيطان، قال: وأرشده إلى ما هو أنفع له من هذه الكلمة؛ أن يقول: "قدر الله، وما شاء فعل".

يقول ابنُ القيم: وذلك لأنَّ قوله: لو كنتُ فعلتُ كذا وكذا لم يفتني ما فاتني، أو لم أقع فيما وقعتُ فيه؛كلامٌ لا يُجدي عليه فائدة ألبتة، فإنَّه غير مُستقبلٍ لما استدبر من أمره، وغير مُستقيلٍ عثرته بـ"لو"، وفي ضمن "لو" ادِّعاء أنَّ الأمر لو كان كما قدره في نفسه لكان غير ما قضاه الله وقدَّره وشاءه[13].

يعني: ابن القيم يذكر مثلما ذكر النَّووي -رحمه الله-، يقول: فإنَّ ما وقع مما يتمنى خلافه إنما وقع بقضاء الله وقدره ومشيئته، فإذا قال: لو أني فعلتُ كذا لكان خلاف ما وقع؛ فهو محالٌ، إذ خلاف المقدّر المقضي محالٌ، فقد تضمّن كلامُه كذبًا، وجهلاً، ومحالاً، وإن سلم من التَّكذيب بالقدر لم يسلم من مُعارضته بقوله: لو أني فعلتُ كذا لدفعتُ ما قدر الله عليَّ[14].

والمقصود أنَّ النبي-صلى الله عليه وآله وسلم-أمر مَن أصابته مُصيبةٌ أن ينظر إلى القدر، ولا يتحسّر على الماضي، بل يعلم أنَّ ما أصابه لم يكن ليُخطئه، وأنَّ ما أخطأه لم يكن ليُصيبه، فالنَّظر إلى القدر عند المصائب، والاستغفار عند المعايب، هكذا ينبغي أن يكون المؤمنُ.

وعلى كل حالٍ، الله -تبارك وتعالى- يقول: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن:11]، جاء عن علقمة:يَهْدِ قَلْبَهُ يعني: يعلم أنَّها من عند الله؛ فيرضى ويُسلِّم[15].قد ذكر نحو هذا شيخُ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-[16].

إذًا فإنَّ"لو" تفتح عمل الشَّيطان، المقصود به: التَّأسف على أمورٍ فاتت لا يمكن تداركها، مما لا طائلَ ولا نفعَ فيه، فيبقى الإنسانُ في حسراتٍ: لو أنَّ فلانًا ما سافرمع فلانٍ؛ كان ما وقع له المكروه، لو أني ما فعلتُ كذا؛ كنتُ ما خسرتُ في تجارتي، لو أني ما ساهمتُ في المكان الفلاني؛ كانت بقيت أموالي، لو أني ما اشتريتُ هذه السَّيارة؛ لكان هذا الحادث لم يقع. ونحو ذلك من الأمور التي لا فائدةَ فيها، فيُعرض عنها الإنسانُ، ويقول: قدر الله، وما شاء فعل. ويقطع الطريقَ على عدوه إبليس.

والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.

 
  1. أخرجه مسلم: كتابالقدر، بابٌ في الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة بالله وتفويض المقادير لله، برقم (2664).
  2. انظر:"شرح الأربعين النووية" لابن عثيمين(ص75).
  3. انظر: "الموافقات" للشاطبي (1/198).
  4. انظر: "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (10/506).
  5. انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (2/326).
  6. أخرجه أبو داودفي "سننه": كتابالسُّنة، بابٌ في القدر، برقم (4699)، وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح"، برقم (115).
  7. انظر: "صحيح البخاري"(9/85).
  8. متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الحج، باب فضل مكة وبنيانها، برقم (1583)، ومسلم: كتاب الحج، باب نقض الكعبة وبنائها، برقم (1333).
  9. أخرجه البخاري: كتابالطَّلاق، باب قول الإمام: اللهم بَيِّن، برقم (5316).
  10. أخرجه البخاري: كتاب التَّمني، باب ما يجوز من الـ"لو"، برقم (7240).
  11. أخرجه مسلم: كتاب الحجّ، باب حجّة النبي -صلى الله عليه وسلم-، برقم (1218).
  12. انظر:"المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" للنووي (16/216).
  13. انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (2/325).
  14. انظر: المصدر السَّابق.
  15. انظر: "تفسير الطبري"(23/422).
  16. انظر:"اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم" لابن تيمية (2/390).

مواد ذات صلة